العدد 172 -

السنة الخامسة عشرة جمادى الأولى 1422هـ – آب2001 م

الأزمات الاقتصادية واقعها ومعالجاتها من وجهة نظر الإسلام (3)

معالجة الأزمات الاقتصادية:

بعد أن بينا واقع الأزمات الاقتصادية نبدأ بيان العلاج الناجع لهذه الأزمات.

أولاً: معالجة الأزمة الناتجة عن النظام النقدي الحالي.

ذكرنا فيما سبق أن الأزمة النقدية يمكن أن تحدث في نظام الصرف بالذهب وكذلك في نظام الورق الإلزامي. وللقضاء على الأزمات التي ذكرناها فإنه لا بد من الرجوع إلى نظام القاعدة الذهبية سواء بالتعامل المباشر بالذهب أو بأوراق نائبة عن الذهب قابلة للتحويل بدون قيد ولا شرط، وقد تنبه لذلك كثير من الاقتصاديين، ولولا وقوف الدول ذات العلاقة وخاصة أميركا في وجه الرجوع للقاعدة الذهبية خوفاً على خسارتها لهيمنتها السياسية والاقتصادية لعاد العالم إليه، لأن هذا النظام هو الذي يحفظ الاستقرار ويؤدي إلى الازدهار في النشاط الاقتصادي دون هيمنة لدولة على أخرى، وفيه ينسب النقد لوحدة متعارف على احترامها وتقييمها، وفيه كذلك لا تستطيع الدول زيادة حجم الكتلة النقدية لأن الدول لا تستطيع إصدار أية كمية تشاء من النقد لأنها ملزمة بالرصيد الذهبي وهذا نقيض الأوراق الإلزامية، إذ إن الدول تستطيع وقت الحاجة إصدار الكمية التي تريد من أجل خدمة مصالحها الخاصة، الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى إحداث التضخم النقدي وإضعاف الثقة بالوحدة النقدية.

غير أنه لا بد من مراعاة الشروط التالية في هذا النظام:

1 ـ حرية تصدير واستيراد الذهب للجميع دون أي قيد أو شرط، لأن حرية خروج ودخول الذهب تؤمن ثبات سعر الصرف.

2 ـ حرية التبديل المطلقة للأوراق النائبة بالذهب في أي وقت بكامل قيمتها المكتوبة عليها.

3 ـ حرية سك وصهر المعدن الأصفر، فكل من يملك نقوداً ذهبية يستطيع صهرها وعملها سبيكة ذهبية بدون قيود، وكذلك من كانت لديه سبيكة يستطيع أن يذهب إلى دار سك النقود فيسكها نقوداً ذهبية (بعد دفع الأجرة) أي نفقات السك وذلك للحيلولة دون حدوث أي اختلال بين سعر الذهب الرسمي وسعره التجاري.

هذا من حيث البحث الاقتصادي المجرد ولكن من وجهة نظر الإسلام لا يصح أن يكون نقدٌ إلا الذهب والفضة للأدلة الشرعية الواردة في ذلك:

1 ـ إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم     لاستعمال الذهب والفضة نقداً للدولة الإسلامية، كما أقر الأوزان التي كانت قريش تزن بها هذه الدنانير والدراهم، عن طاووس عن ابن عمر قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم     الوزن وزن أهل مكة.” وكان وزن العشرة دراهم سبعة مثاقيل وبحساب أوزاننا اليوم الدينار ذهباً يساوي 4.25 غرام والدرهم فضة يساوي 2.975 غرام.

2 ـ  ربط الإسلام أحكاماً شرعية بالذهب والفضة:

1 ـ حرم كنـزهما: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).

2 ـ فرض منهما الزكاة باعتبارهما نقدين وأثماناً للمبيعات وأجرة للجهود (في كل 20 ديناراً نصف دينار) (وفي كل 200 درهم خمسة دراهم).

3 ـ فرض الدية بهما كنقد (وعلى أهل الذهب ألف دينار)، (جعل النبي صلى الله عليه وسلم  ديته اثني عشر ألفاً أي من الدراهم).

4 ـ نصاب القطع في السرقة عند تحقق شروطه (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم).

5 ـ حين قرر أحكام الصرف في المعاملات جعلها في الذهب والفضة (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم    عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواءً بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا)، وفي حديث آخر (يداً بيد).

لكل هذا فإن نقد الدولة الإسلامية هو الذهب والفضة.

ولذلك فإنه لمعالجة الأزمات النقدية لا بد من الرجوع إلى القاعدة الذهبية سواء الذهب وحده أو الذهب والفضة. غير أن هذا الرجوع لا يخلو من مشاكل نتيجة للاحتكارات العالمية ولوجود الحواجز الجمركية ولتركز الكمية العظمى من الذهب والفضة في خزائن الدول الكبيرة وخزائن الدول التي زادت طاقتها على الإنتاج وقدرتها على المنافسة في التجارة الدولية أو نبوغها بالعلماء والفنيين والمهندسين، ولاتخاذ نظام النقد الورق الإلزامي بدلاً من نظام الذهب والفضة.

ولتخطي ذلك لا بد للدولة التي تريد العودة للقاعدة الذهبية أن تسير على سياسة الاكتفاء الذاتي فتقلل من استيرادها وتعمل على أن تبادل السلع التي تستوردها بسلع موجودة عندها، كما عليها أن تعمل على بيع السلع الموجودة عندها بسلع تحتاج إليها أو بالذهب والفضة أو بالعملة التي هي في حاجة إليها لاستيراد ما تحتاج إليه من سلع وخدمات.

هذا بالنسبة لأية دولة، أما بالنسبة لدولة الخـلافة التي يتوقع قيامها قريباً بإذن الله فإن الأمر أسهل لأن الذهب الموجود في البلدان الإسلامية والمكدس في البنوك والخزائن فيها، فيه كفاية تامة لتمكين دولة الخـلافة من العودة إلى قاعدة الذهب، هذا فضلاً عن أن كميات الفضة الموجودة في البلاد الإسلامية (والتي ستكون وحدة أساسية في نقد دولة الخـلافة مع وحدة الذهب، لأن دولة الخـلافة تقوم على قاعدة الذهب والفضة وعلى نظام المعدنين من الناحية النقدية) موجودة بكميات كبيرة مما يسهل على دولة الخـلافة العودة إلى قاعدة الذهب والفضة.

وزيادة على ذلك فإن البلاد الإسلامية متوفر لديها جميع المواد الخام التي تلزم الأمة مما يجعلها في غير حاجة إلى سلع غيرها احتياجاً (أساسياً) أو احتياج ضرورة ، وبذلك تستغني دولة الخـلافة بسلعها المحلية عن استيراد السلع الخارجية مما سيوفر خروج الذهب إلى الخارج وبقاؤه داخل البلاد.

كما أن البلاد الإسلامية تملك سلعاً مهمة كالنفط تحتاجها جميع دول العالم وتستطيع دولة الخـلافة أن تبيعها بالذهب أو بسلع هي في حاجة إليها أو بنقود تحتاجها لاستيراد ما يلزمها من سلع وخدمات كما تستطيع أن تمنع بيعها لأية دولة إلا إذا دفعت ثمنها ذهباً مما يجعل احتياطي الدولة من الذهب في ازدياد.

وبالرجوع إلى نظام الذهب يعود الاستقرار وتزول الأزمات والهيمنة النقدية لدولة على أخرى. وهذا هو العلاج الناجع الكافي والشافي.

ثانياً: معالجة الأزمة الناتجة عن ميزان المدفوعات.

قلنا إن الأزمة تبدأ بالظهور عندما يحدث عجز في ميزان المدفوعات، أي تكون الإيرادات لا تكفي لسد المدفوعات، وفي هذه الحالة تتخذ الدول علاجاً مؤقتاً لسد العجز من السيولة النقدية لديها، وتبدأ بسياسات وإجراءات لتنشيط أوضاعها الاقتصادية وتحسين ميزان المدفوعات.

من هذه الإجراءات التي تقوم بها الدول حالياً:

1 ـ رفع سعر الفائدة السوقية كوسيلة لجذب رؤوس الأموال من الخارج.

2 ـ فرض ضرائب على الواردات، أي رفع رسوم الجمارك وكل ما له علاقة بتخفيض الواردات.

3 ـ تخفيض قيمة عملة البلد فتشجع الأجانب لاستيراد السلع المنتجة في الدولة لأن سعرها يصبح منخفضاً بالنسبة لهم أي أن الصادرات تزيد. ولكن هذا مشروط بأن تكون السلع المنتجة في الدولة جاهزة للتصدير بكميات كبيرة حتى تزيد كمية الإيرادات نتيجة السلع المصدرة، ولكن إن كانت الدولة غير منتجة لسلع قابلة للتصدير بشكل كاف فسيكون تخفيض العملة مبعث خسارة، بالإضافة لما يسببه تخفيض العملة من غلاء في الأسعار. فالتخفيض يؤدي إلى زيادة الصادرات بإيرادات متزايدة إذا كانت الدولة ذات طاقة إنتاجية تصديرية كافية وبشرط أن لا تخفض الدول الأخرى التي تصدر نفس السلع عملتها، لأن الوضع حينها سيكون كما لو لم يكن تخفيض.

4 ـ البحث الجاد في استغلال الثروات الطبيعية بشكل يحسن الإيرادات الناتجة عن تنشيط الاقتصاد وزيادة التصدير لهذه الثروات، في الوقت نفسه الذي تهتم فيه الدولة بإنتاج السلع الأساسية داخل البلاد حتى لا تضطر لاستيرادها من الخارج، وبذلك تكون قد قللت الواردات.

5 ـ وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الدول الكبرى أو جميعها، لكي لا تلجأ إلى الاقتراض أو إلى إجراءات تقشف توجد ردة فعل شعبية وحتى لا تلجأ إلى تخفيض عملتها مما يجرح كرامتها فإنها تلجأ إلى تمويل بعض نفقاتها أي العجز في ميزان المدفوعات بإصدار نقد جديد ليس له أساس يدعمه، وتوسع الدولة في إصدار النقد بهذه الطريقة يوجد تضخماً أي ارتفاعاً في الأسعار نتيجة لخلل التوازن بين النقد والسلع. وطرق معالجة التضخم تتم عادة بإعادة التوازن بين النقد ومجموع السلع والخدمات إما بزيادة السلع والخدمات أي بتنشيط الاقتصاد وخاصة الجانب الإنتاجي منه أو بسحب الزائد من النقد من التداول، وتتم عملية سحب النقد برفع الفائدة مما يشجع الناس على ادخار أموالهم في البنوك، أو بالطلب من البنوك التجارية رفع نسبة أرصدتها المودعة في البنك المركزي، فتجمد في البنك المركزي وترفع من التداول. غير أن هذه الإجراءات تنتج أعراضاً جانبية سيئة من حيث أنها تقلل من الاستثمار وتدفع للركود الاقتصادي.

6 ـ ومن هذه الإجراءات كذلك الاقتراض لإعادة التوازن لميزان المدفوعات، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من الأزمة وهي دخول مصيدة المديونية خاصة بالنسبة للدول التي لا تحسن التصرف في القروض لتشغيلها في مشروعات إنتاجية تدر دخلاً على البلاد، وهذا ما حدث لمعظم الدول النامية أو دول العالم الثالث، فإن هذه الدول قد وجدت أن الاقتراض هو أيسر السبل لمعالجة ميزان المدفوعات لأن الكثير منها لا ينتج ما يسد حاجته الأساسية، وسلعه القابلة للتصدير قليلة جداً إن لم تكن معدومة، وبذلك يجدون أن سد العجز بالقروض هو الممكن بالنسبة لهم، حيث أن الضغط على الواردات لتقليلها سيؤدي إلى ندرة السلع وبالتالي ارتفاع الأسعار وهذا بدوره يؤدي إلى تعطيل الطاقة الإنتاجية فتزيد البطالة وتقف عجلة النمو، وكذلك فإن سد العجز من احتياطياتها النقدية غير ممكن لضآلة حجم احتياطات هذه الدول من الذهب والعملات الأجنبية كما أن استنـزاف الاحتياطات واستخدامها في سد العجز يعرض مستوى هذه الاحتياطات للخطر ويدفع سعر العملة المحلية إلى التردي، فإذا ما أضيف إلى ذلك عدم اهتمام كثير من هذه الدول إلى استغلال ثرواتها الطبيعية بشكل جدي تكون النتيجة التوجه إلى الاقتراض ومما يضاعف الأزمة أن يصاحب الاقتراض ثلاثة عوامل خطيرة:

1 ـ توجيه هذه القروض إلى مشاريع غير إنتاجية بل تَرفيَّه أو شبه تَرَفيّه وإلى مشاريع شبه وهمية (للدعاية) بدون جدوى اقتصادية، وبذلك تكون هذه المشاريع عبئاً جديداً يضيف عجزاً إلى العجز السابق.

2 ـ النهب المباشر لنسبة كبيرة من القروض والمساعدات الأجنبية بواسطة مسؤولين كبار من خلال العمولات والرشاوى وهؤلاء حريصون على تأمين ما نهبوه ويحتاطون لمخاطر الانقلاب وتداول السلطة فيهربون هذه الأموال المنهوبة إلى الخارج، وبذلك يحرمون بلادهم مرتين، مرة بالاستحواذ على جزء كبير من المال العام الذي كان ينبغي أن يخصص لجهود التنمية وتنشيط الاقتصاد المحلي، ومرة أخرى بتهريبه إلى الخارج وحرمان بلادهم من استثماره محلياً. وحول هذا الموضوع نشر بنك مورغان تراستي في الولايات المتحدة دراسة حديثة له يقدر فيها أن ما بين 40٪ ـ60٪ من مجموع القروض التي حصلت عليها بلدان العالم الثالث قد وجدت طريقها مرة أخرى إلى بلدان العالم الأول على شكل حسابات سرية خاصة لكبار المسؤولين أو بأسماء ذويهم فمن مجموع (1500) مليار دولار هي ديون العالم الثالث في منتصف الثمانينات قدرت الدراسة أنه يوجد في مقابلها ما يقرب من ألف مليار دولار في بنوك العالم الأول في حسابات خاصة بأسماء مسؤولين حاليين أو سابقين في بلدان العالم الثالث.

3 ـ استعمال الدول الكبرى أو صاحبة النفوذ هذه القروض طريقاً لبسط الهيمنة على الدول المدينة فهي تعمل على الدوام لرسم سياسات تشجع هذه الدول على الاقتراض لغايات تخدم مصالحها هي سواء الاقتصادية أو السياسية ويظهر ذلك في الأدلة التالية:

أ ـ جاء في تقرير لجنة الجنرال كلاي في الأسبوع الأخير من شهر آذار 1963 حول المساعدات الأميركية أن الهدف من إعطاء هذه المساعدات والمقياس الذي تعطى على أساسه هو (أمن الولايات المتحدة وأمن وسلامة العالم الحر) وبالتالي فليست القروض لمساعدة البلدان المتخلفة بل لبسط نفوذها، ولذلك ضغطت على إندونيسيا وأوجدت لها القلاقل في أوائل الستينات حتى أجبرتها على أخذ القروض. فالمنح والقروض كانت وما زالت من أسلحة هذه الدول للهيمنة السياسية، فإن أميركا بالرغم من أن ميزان مدفوعاتها يشكو من عجز شبه دائم إلا أنها تخصص مساعدات ومنحاً كل عام.

ب ـ حققت الدول الأعضاء في أوبك فوائض كبيرة في ميزان مدفوعاتها في عامي 1974، 1979 فتدفقت فوائضها إلى أسواق النقد الدولية فتبنت البنوك التجارية الدولية بتشجيع من حكوماتها ما يعرف بإعادة تدوير الفوائض النفطية إي إقراض هذه الأرصدة إلى الدول النامية التي تعاني من عجز في ميزان مدفوعاتها وبفائدة منخفضة نسبياً وبشروط سهلة مما أغرى عدداً كبيراً من الدول النامية على زيادة اقتراضها لتمويل ميزان مدفوعاتها. ولكن البنوك التجارية حتى تحمي نفسها من مخاطر الإقراض للدول النامية لجأت إلى ما يعرف باسم الفائدة المعومة أو المتغيرة التي تتغير على فترات تبعاً للاتجاه العام لأسعار الفائدة في سوقي لندن ونيويورك مضافاً إليها نسبة أخرى لمواجهة المخاطر. ويمكن إدراك خطر هذه الفائدة المعومة إذا علمنا أن أسعار الفائدة على القروض الدولارية قد ارتفعت من 7.8٪ خلال الفترة 74 ـ 1978 إلى 17.5٪ خلال الفترة 79 ـ 1981. أي أن هذه البنوك شجعت الدول النامية على الاقتراض ثم لما وضعتها داخل المصيدة ضغطت عليها بزيادة الفائدة المعومة.

لهذه العوامل جميعها فإن الدول بمجرد خطوتها الأولى على طريق الاقتراض تدخل مصيدة المديونية التي تجعل إنفكاكها صعب المنال. ومما يعقد الموضوع أن الطريق الذي رسمته الدول الاستعمارية لمساعدة الدول على الخروج من المديونية هو طريق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإذا لجأت الدولة المدينة لهما أدخلوها في دائرة مليئة بالمشاكل.

إن تفاقم أزمة المديونية يجعل الدول المدينة غير قادرة على خدمة الدين (الأقساط والفوائد) فيصبح جل همها محاولة جدولة ديونها وأخذ قروض جديدة لتنشيط اقتصادها، وحتى يتم لها ذلك يطلب منها تجمع الدول الدائنة المسمى بنادي باريس، وكذلك تجمع البنوك التجارية الدائنة المسمى بنادي لندن، أن تحضر تزكية من صندوق النقد الدولي بما يشبه شهادة حسن السلوك مفادها أن الدولة المدينة هذه تنتهج سلوكاً اقتصادياً سليماً، ولكنها للحصول على ذلك يشترط الصندوق عليها تنفيذ برنامج إصلاحي مكون عادة من تخفيض قيمة العملة، وإلغاء الدعم للسلع الأساسية والضرورية، تجميد الأجور والرواتب، تخفيض التوظيف الحكومي، زيادة أسعار الطاقة والخدمات العامة والسلع بشكل عام وزيادة أسعار الفائدة لتكثير الادخارات وجلب رؤوس الأموال وتحرير التجارة الخارجية من القيود أو تخفيفها.

إن معالجة المديونية بطريقة صندوق النقد الدولي يضاعف المشكلة، لأن برنامج الصندوق يتضمن الحل على أساس حسابي مجرد فإنه يعتبر الموضوع معادلة حسابية يعمل على إيجاد توازن بين طرفيها فيحاول أن يزيد الطرف الناقص أو ينقص الطرف الزائد دون النظر إلى علاقة هذا الحل وربطه بالإنسان نفسه الذي سيعاني من الحل المطروح اقتصادياً. فمثلاً لزيادة الإيرادات يطلب فرض ضرائب وهو يعلم أن الدول المدينة عادة ما تكون الضرائب فيها قد وصلت إلى أقصى حد ممكن تحمله إن لم تزد على ذلك. وهو يعلم أن الأسعار في الدول المدينة مرتفعة وقد تكون فوق طاقة غالبية الناس، ومع ذلك يطلب رفع الدعم عن السلع الضرورية كالخبز والحليب والأرز والقمح والسكر والمحروقات وأمثالها. وهو يعلم أن طاقة الدول المدينة لإنتاج السلع الجاهزة للتصدير ضعيفة، ومع ذلك يطلب تخفيض العملة حتى ترتفع الأسعار أكثر وتنتشر البطالة ويطلب تجميد الرواتب والأجور في الوقت الذي تزيد فيه الأسعار للسلع والخدمات، بل هو أحياناً يطلب تخفيض وليس فقط تجميد الأجور والرواتب لتقليل النفقات كما طلب من الحكومة البرازيلية أن تخفض الرواتب في حدود 20٪ من أجل إمدادها بالقروض التي تحتاجها. وقد سبق أن طلب الصندوق في أواسط شهر كانون أول 1985 من نيجيريا تخفيض عملتها 60٪ ورفع الدعم عن المنتجات البترولية، وفي أوائل 1986 طلب من السودان إلغاء الدعم وتخفيض العملة وإطلاق الأسعار، وطلب من (مصر في أواسط السبعينات، المغرب وتونس في أوائل 1984، والدومنيكان في نيسان 1984، وشباط 1985، والأردن نيسان 1989) تخفيض الدعم وزيادة الأسعار فأدى ذلك إلى انتفاضة جماهير هذه الدول احتجاجاً على إثقال كاهلها بعلاجات صندوق النقد الدولي.

أما كل هذه الإجراءات العنيفة والقاسية من قبل صندوق النقد الدولي فهي ليست لإلغاء المديونية أو تخفيضها بل لإعادة جدولتها فقط أي إمهال دفعها فترة فتتراكم أكثر، ومن أجل إعطاء قروض جديدة، فتتفاقم المديونية بدرجة أشد.

والبنك الدولي عادة ما يكون دوره مكملاً لدور الصندوق في إعطاء قروض، حيث أن الصندوق لا يستطيع إعطاء قروض جديدة للدول التي بلغت حدها من السحب حسب أنظمة الصندوق. وعادة ما تكون هذه القروض لمشاريع مصممة بشكل يعيق نمو تلك الدول المدينة ويجعل اقتصادياتها تعتمد أساساً على المساعدات الخارجية.

وعلى كلٍ فلم تحقق سياسة الصندوق والبنك النجاح المطلوب، فلم يتحقق الانتعاش الاقتصادي في الدول المدينة بل أن مديونيتها زادت وأصبحت أكبر من أن تحلها هذه الدول حسب توصيات الصندوق.

ولإدراك حجم المصيبة الاقتصادية في هذه الدول نتيجة فساد الحلول التي يطرحها النظام الاقتصادي العالمي الحالي عن طريق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأنظمة الاقتصادية المخالفة للفطرة والعقل، فإني أذكر هنا بعض أحجام هذه المديونية المتسببة عن العلاجات الاقتصادية الخاطئة:

أولاً: ديون الدول النامية.

ارتفعت من 91 بليون دولار سنة 1972 إلى أكثر من ألف بليون دولار في نهاية 1986، حصة البلاد الإسلامية من هذه الديون 22.4٪، ديون البلاد العربية حتى أواخر الثمانينات = (تقريباً) 200 بليون دولار، ونسبتها من ديون العالم الثالث حتى أواخر الثمانينات = (تقريباً) 15٪.

ثانياً: خدمة ديون الدول النامية (القسط السنوي + الفائدة على القروض) ارتفعت من 7.3 بليون دولار سنة 1972 إلى 95.8 بليون دولار في نهاية سنة 1986. خدمة ديون البلاد الإسلامية ارتفعت من 56, 1بليون دولار سنة 1972 إلى 23.5 بليون دولار في نهاية عام 1986.

ثالثاً: في مقدمة البلاد العربية المدينة مصر. فإن ديونها حتى 1986 بلغت (40) بليون دولار وهذا المبلغ يمثل قروضاً تم إبرامها في الفترة 1970 ـ 1985 وقيمة الأقساط والفوائد والمتأخرات التي كان من المفروض سدادها خلال الفترة الممتدة من كانون ثاني 1987 ولغاية حزيران 1988 جاوزت عشرة مليارات من الدولارات.

رابعاً: الأردن.

لقد حقق حجم القروض المتعاقد عليها قفزات كبيرة وذلك خلال النصف الثاني من السبعينات وبداية الثمانينات، فقد تضاعفت هذه القروض أكثر من مائة مرة ما بين عام 1972 ـ 1988 حتى أصبح إجمالي القروض المتعاقد عليها في نهاية 1988 يقارب ألـ (12) بليون دولار. الرصيد القائم منها ما عدا المسدد يقارب 5,8 بليون دولار، وفي نهاية 1989 كان الرصيد القائم حوالي 8 بلايين من الدولارات والفوائد المترتبة تقارب (3) بلايين من الدولارات، ونتيجة لذلك اضطرت الحكومة في 15 تشرين أول 1988 إلى تعويم سعر صرف الدينار والتوقف عن تزويد البنوك التجارية بما يلزمها من عملات أجنبية نظراً لاستنـزاف احتياطي المملكة وانخفاض مستواها، وأصبح الاحتياطي لا يتجاوز 14٪ من النقد المصدر عام 1988 حتى إنه لم يعد يكفي لتغطية المستوردات إلا لمدة أسبوعين فقط فاضطرت الحكومة في نهاية 1988 إلى التوقف عن تسديد ما يستحق من ديونها الخارجية.

خامساً: نسبة ديون الدول النامية إلى ناتجها المحلي ارتفعت من 28٪ عام 1980 إلى حوالي 48٪ عام 1986 كما وصلت نسبة ديون البلاد الإسلامية مجتمعة إلى الناتج المحلي 58٪ عام 1986 وفي مقدمتها كانت مصر حيث تراوحت النسبة بين 89٪ عام 1982، 74٪ عام 1986، وأما الأردن فلضعف الناتج المحلي فإن النسبة فاقت جميع الدول المدينة وأصبحت تقارب 300٪ في نهاية 1988.

هذه بعض البيانات التي تبين وتؤكد أن أزمة المديونية في ازدياد متسارع منذ أن انفجرت سنة 1982 عندما توقفت المكسيك عن خدمة ديونها وحتى الآن، نظراً لسوء معالجات النظام الاقتصادي العالمي الحالي ولسوء معالجة الصندوق والبنك الدوليين .

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *