العدد 169 -

السنة الخامسة عشرة صفر 1422هـ – أيار 2001م

سكرة فصحوة فزمجرة فدولة

          الحمد لله الذي جعل الخلافة سلطاناً وأماناً وملاذاً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الذي قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ». وبعد ،

          أيها المسلمون…

          فلقد كان الثالث من آذار لسنة ألف وتسعمائة وأربع وعشرين ميلادية منعطفاً تاريخياً خطِراً في حاضر العالم الإسلامي ومستقبل أجياله، بل كان نقلة نوعية فظيعة في حياة المسلمين، ونقطة عتمة كبيرة جللت سماءهم بالسواد، وأحالتهم أشتاتاً في نواحي الأرض المختلفة، وتركتهم بلا ثقل ولا تأثير، يقتاتون على فتات موائد الكفار، ويتنفسون من هواء حضارتهم الغربية الملوثة.

          في ذلك اليوم حدث أول انقلاب على دار الإسلام، إذ لم يسبق أن أطيح بالحكم الإسلامي قبل ذلك التاريخ، وكان عراب هذا الانقلاب وتلك الفعلة الشنيعة عميل الإنجليز اليهودي مصطفى كمال ـ عليه لعنات الله والملائكة والناس أجمعين ـ الذي خاطب النواب آنذاك بقوله: [فالخليفة ومخلفات آل عثمان يجب أن يذهبوا، والمحاكم الدينية العتيقة وقوانينها يجب أن تحل مكانها محاكم وقوانين عصرية ـ أي وضعية]. وفي صبيحة الثالث من آذار ـ ذلك النهار المشؤوم ـ أُعلن أن المجلس الوطني الكبير في الدولة قد وافق على إلغاء الخـلافة وعلى فصل الدين عن الدولة، وفي ليلة ذلك اليوم بعث مصطفى كمال أمراً إلى حاكم استانبول يقضي بأن يغادر الخليفة عبد المجيد أراضي الدولة قبل فجر اليوم التالي.

          هذه النتيجة الفظيعة كانت تتويجاً لعمل طويل من المؤامرات والدسائس على دولة الإسلام استغرق قرابة المائة عام، لذلك فإن الثالث من آذار هو يوم مفصلي في حياة الأمة، إذ فيه تم نقل الناس من رابطة العقيدة الإسلامية إلى رابطة العلمانية الإلحادية، ومن شريعة الإسلام وأحكامه إلى شرائع الكفر وضلالاته، ومن ظل حكم الوحي الإلهي إلى ظلال أحكام الكفر الوضعية. ولقد أصاب الشاعر الذي وصف هذا الانقلاب بقوله:

وعلاقة فُصِمَتْ عُرى أسبابِها
جَمَعَتْ على البِرِّ الحضورَ وربما
نظمتْ صفوفَ المسلمين وخَطْوَهُمْ
بكتِ الصلاةُ وتلك فتنةُ عابثٍ
أفتى خزعبلةً وقال ضلالةً
نَقَلَ الشرائعَ والعقائدَ والقرى

 

كانتْ أَبَرَّ عَلائِقِ الأروَاحِ
جَمَعَتْ عليه سرائر النُّزّاحِ
في كل غَدْوَةِ جُمْعَةٍ وروَاحِ
بالشرع عربيدِ القضاءِ وَقَاحِ
وأتى بكفرٍ في البلاد بَوَاحِ
والناسَ نَقْلَ كتائبٍ في السّاحِ

 

          فبعد هذا الانقلاب التآمري على دولة الخلافة العثمانية تم تغييب الإسلام السياسي الفاعل من حياة المسلمين. فلم يكتف الكافر المستعمر بتمزيق جسم الدولة إلى كيانات ضعيفة عاجزة تابعة، ولم يقنع بسرقة ثروات الأمة وكنوزها، ولم يتورع عن إذلالها بزرع الكيان اليهودي الخبيث في قلبها، لم يشبع نهمه بتلك الأفاعيل كلها بل أصر على أن يبعد الإسلام عن الحكم، وجعل من شروط العمل السياسي لأي فرد أو حزب أو مجموعة من الأمة النأي عن الإسلام، أو بمعنى آخر فقد اشترط عدم السماح للعمل السياسي الإسلامي بالظهور.

          لذلك ليس مصادفة أن نرى أن كل من يسمح له بالعمل السياسي يفرض عليه أن يخضع لمعايير التعددية السياسية والديموقراطية وحرية التعبير، وليس غريباً أن يطلب ممن يسمون بالمعارضين الإقرار باحترام الدستور والقانون الوضعي.

          لقد دخلت الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة في سكرةٍ سياسيةٍ عميقة، وفي سبات سياسي طويل لم تفق منها إلا حديثاً.

          إن زمن السكرة هذا هو زمن الرويبضات، الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم    في الحديث الشريف الذي قال فيه: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».

          فزمن السكرة وزمن الرويبضات هو عينه زمن اتباع سنن اليهود والنصارى الكفار، والتأسي بسلوكهم الشائن في كل صغيرة وكبيرة من حياتهم. ولقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم  ذلك الاتباع المشين والتفكير الأعمى المخزي بقوله: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، ولو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه»، وفي رواية: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن».

          لقد صدق الله سبحانه وتعالى فيهم حيث قال: ]ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين[ واتباعهم للكفار هو اتباع لإبليس لعنه الله ولعن متبعيه أجمعين.

          أيها الإخوة المسلمون…

          لقد بدأت الأمة الإسلامية بالتململ، وبدت ملامح الصحوة تظهر عليها، وبدأ الكافر يشعر بتململها، حتى أن جورج تينت رئيس ألـ C.I.A كتب في تقريره السنوي عن حال الأمة الإسلامية واصفاً ما ينتاب شعوب دول المنطقة الإسلامية من شعور بالضجر بأنه قد أصبح يشكل خطراً على أصدقاء أميركا من الحكام. أي أن أميركا ـ عدوة المسلمين الأولى ـ باتت تدرك خطر الشعوب الإسلامية على حكامها، وهذا دليل على أن الأمة الإسلامية قد انتقلت من حال إلى حال، انتقلت من السكرة إلى الصحوة، وإنه بالرُغم من أن الحكام ما زالوا يحاولون إطالة زمن السكرة إلاّ أنهم لم ولن يفلحوا.

 

 

          فالأمة قد سئمتهم وملت وجودهم الطويل في سدة الحكم، وملت عبوديتهم لأسيادهم الكفار، ولكن هيهات هيهات أن ينجحوا في صراعهم مع الأمة… هيهات هيهات أن يصمدوا طويلاً أمام هجوم الأمة الكاسح على جحورهم وأوكارهم.

          لقد افتُضِحَ حالهم، وبانت سوأتهم، وظهر عوارهم، ولم يبق أمامهم إلاّ أمران فإما أن يستقيلوا وإما أن يقالوا، إما أن ينسحبوا بهدوء وإما أن ينزعوا من حلاقيمهم.

          إن حال هذه الفئات الحاكمة العميلة كحال من يجدف ضد التيار، فلن يقووا على الاستمرار بالتجديف، ولن يصمدوا طويلاً أمام صحوة الجماهير وسطوة الجند المخلصين.

          أيها الاخوة الأكارم…

          أي عاقل يملك ذرة من تفكير يثق بهؤلاء الحكام؟ وكيف لعاقل أن يثق بمن يُذْعِنُ لليهود والأميركان؟ أي عاقل فيه ذرة من وعي يثق بمن يتحالف مع الكفار ويقف في طابورهم ويعادي أمته الإسلامية؟

          فهذا كبيرهم حاكم مصر يغلظ الأيمان في رفضه للحرب ونبذه لقتال من يهددونه بتدمير السد العالي وإغراق مصر والسودان بالفيضانات. وهذا صغيرهم في فلسطين وبالرغم من كل ما حل ويحل بالفلسطينيين من قتل وحصار وتجويع وإذلال، لا يفتأ يركز بأن الاستسلام وتسليم معظم فلسطين لليهود هو الهدف الاستراتيجي النهائي له. وهكذا باقي الحكام في بلاد المسلمين، نبذوا قتال عدوهم وراء ظهورهم وجعلوا الانحناء أمامه بذلّ وهوان بديلاً لمواقف العزة والمنعة… ولكن أنى لهم العزَّة وقد باعوا دينهم بدنياهم بل بدنيا غيرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

          أيها الاخوة المؤمنون…

          إن سياسة هؤلاء الخونة الجبناء لا سيما حكام العرب تعتمد على قاعدة واحدة ألا وهي قاعدة “لِنَنْتَظِرْ وَلْنَرَ” فكلما تغيرت إدارة أميركية أو كلما تغيرت حكومة إسرائيلية يتفذلك هؤلاء العبيد بالقول إننا سوف ننتظر ونرى ماذا في جعبة هذه الإدارة أو تلك الحكومة. وكأن تلك الحكومات والإدارات المتعاقبة قدراً محتوماً يجب على الأمة أن تنتظر ماذا في جعبتها لتتكيف بحسب سياساتها المتغيرة. إنها حقاً قاعدة العاجزين المهزومين، ونظرية العملاء المشدوهين.

          لقد وصل الاستخفاف بالأمة وحكامها من قبل الكفار الأسياد أنه كلما جاء رئيس وغير أسلوب سابقه من الأميركان أو اليهود بادر ذلك الرئيس إلى السماع والدراسة من نقطة الصفر، بينما موقف الحكام العملاء دائماً هو الانتظار والتريث لعل وعسى أن يأتي هذا القادم الجديد بشيء يحفظ ماء الوجه، وأقصى ما يمكن أن يطالبوه به هو استكمال المفاوضات من النقطة التي انتهوا إليها مع الرئيس السابق.

 

 

          إنه حقاً أيها الاخوة المؤمنون لموقف مخجل أن يصل حال الأمة إلى هذه الدرجة من الخنوع والاستسلام على يد حكامها الأذلاء… لكن الأمة الإسلامية قد اعتبرت واتعظت مع مر السنين، وأدركت أن هؤلاء الحكام لا خير فيهم ولا رجاء يعول عليهم  ولقد مجتهم الجماهير، وملت من وجودهم فترات طويلة، بينما الأوضاع على أيديهم ترجع بالمسلمين إلى الوراء في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها فدبت في المسلمين أحاسيس النهضة، ولامست الهزات التي عصفت بوجودهم أوتار النخوة، وظهرت عليهم ملامح الصحوة فانتفضوا وتحركوا ودبت مشاعر الثورة والتمرد في قلوبهم، وما هي إلاّ هنيهات حتى تتحول الصحوة إلى زمجرةٍ فدولةٍ إن شاء الله.

          وفي الختام أيها الاخوة المؤمنون…

          فإن الصحوة لا بد لها من دولة، وإن الطريق الطبيعي لهذه الصحوة أن يوصل إلى الدولة فإياكم أن يبعدكم الكافر وأعوانه من الحكام الخونة عن طريق الدولة والعزة ويشغلكم بما هو دونها…

          إياكم أن يعبث بصحوتكم ويبددها أو يوجهها نحو أهداف جزئية. فالمطلوب هو انقلاب شامل. ولكنه انقلاب عكسي لما فعله الكفار على يد مصطفى كمال لعنه الله. فلا بديل عن هذا الانقلاب العكسي، أي لا بد من دولة الإسلام، ودار الإسلام، وخلافة الإسلام، لا بد من حياة إسلامية كاملة، ولا قبول للجزئية والترقيع، فإما دار إسلام وإما نضال مستمر ليوصل إلى دار الإسلام، ولا يوجد لنا خيار سواه.

          وفقنا الله وإياكم لما فيه خيركم، وما فيه من نوال رضوان ربكم.

          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

قارئ مسلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *