العدد 306-307-308 -

العدد 306-307-308 ، السنة السابعة والعشرون، رجب وشعبان ورمضان 1433هـ

الغرب يحرق آخر أوراقه في بلاد المسلمين بإحراق ورقة (الإسلام المعتدل)

الغرب يحرق آخر أوراقه في بلاد المسلمين

بإحراق ورقة (الإسلام المعتدل)

(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120))

كان الإسلام ولم يزل هو العامل الذي يوجد للأمة الإسلامية كيانها ويحفظ لها سلطانها على نفسها؛ لأن وجوده في المجتمع هو نفي لما سواه، ولأن الأمة التي تجعل الإسلام أساس حياتها تملك زمام أمرها، فلا وجود فيها لموطئ قدم لمصالح طامع أجنبي، ولا وجود لسبيل عليها من كافر. ولذلك كان وجوده من أول يوم يعني إلغاء مصالح كثير من أصحاب المصالح، وهي تلك التي لا يقرها شرع الله وتتناقض مع مصلحة الأمة بوصفها أمة إسلامية. فجوهره يقتضي أنه لا وجود فيه لحل وسط يقبل بمصلحة دخيلة ولا بجسم غريب. ولذلك كان عداء الإسلام من قبل كثير من أصحاب المصالح قديماً، وخاصة من دول الكفر الطامعة، وكان الكيد له حتى تم إقصاؤه بهدم دولته وذلك في غفلة من الأمة عن أمرها وعلى حين ضعف منها. وإنه مثلما كان إقصاء الإسلام كنظام للحياة من خلال الدولة الإسلامية هي مصلحة سعى لها الغرب سنين طوالاً واستخدم فيها غاية المكر ومنتهى الدهاء، كذلك كان منع ظهوره مصلحة حيوية بالنسبة لتلك الدول الغربية التي استعمرت بلادنا وصارت صاحبة النفوذ فيها؛ لذلك كان الإسلام وعودته لواقع حياة المسلمين هاجساً يحذرون منه كل الحذر، ويبنون سياساتهم على هذا الأساس، وصار عندهم قاعدة لكل السياسات تجاهنا لا تختلف عليها الأطراف الغربية وإن اختلفت تفصيلات مصالحهم؛ ولذلك فإن أي سياسة للدول الغربية، خاصة الكبرى منها، تجاه المسلمين، يجب أن يؤخذ فيها بالاعتبار أن جزءاً من تصميمها يتضمن استمرار إقصاء الإسلام عن واقع حياة المسلمين. وإنه إذا ما أضيف إلى ذلك تلك البراغماتية التي عرف بها الغرب الرأسمالي في أوروبا وأميركا، والتي تجعل كل وسيلة للتضليل والتسخير والخداع والتلبيس ممكنة لأجل جلب المصالح والحفاظ عليها، فإن مجموع ذلك يجب أن يعطي فكرة واضحة عن صورة علاقة الغرب ببلدان الأمة الإسلامية وشعوبها خاصة في هذه الأيام الساخنة في حياة الشعوب الإسلامية، ويعطي أساساً واضحاً لتفسير ذلك المشهد من العلاقة مع حركات ما يسمى بـ(بالإسلام المعتدل) في ظل ثورات المسلمين العارمة في البلاد العربية وذلك قبيل تصدر هذه الحركات للبرلمانات وبعده. يقول ريتشارد نيكسون، الرئيس الأميركي السابق وأحد كبار استراتيجيي السياسة الخارجية الأميركية في كتابه الشهير ((1999 نصر بلا حرب)) الصادر عام 1988م في سياق كلامه عن العالم الإسلامي والأصولية الإسلامية: ((إن رياح التغيير في العالم الثالث تكتسب قوة العاصفة. ونحن لا نستطيع إيقافها، لكننا نستطيع أن نساعد في تغيير اتجاهها، فعندما يحتاج الناس إلى التغيير ويريدونه لا يكفي الوقوف في وجه التغيير الثوري، بل إنه يجعل الأمور أسوا)).

الغرب يرصد الصحوة الإسلامية مبكراً لتمييعها وتسخيرها

لم يكن الغرب بمنأى عن تسخير التيار القومي في القرن الماضي بعد بروزه للإبقاء على وجوده ونفوذه، وكذلك لخدمة غاياته ومصالحه ولإبعاد الأمة عن إسلامها، وهو لم يتورّع عن استغلال النزعة الوطنية وحركاتها، لتنفيذ سياساته وتثبيت رسمه لخريطة المنطقة، ولإبعاد الأمة عن إسلامها كذلك، ولما تم استنفاذ هذه التيارات بفشلها، بدأت تظهر للسطح ملامح التوجه الجديد عند شعوب الأمة الإسلامية، ألا وهو التوجه نحو الإسلام، بأفكاره ومشاعره ومظاهر التدين فيه، وكذلك بحركاته وأحزابه، رغم ما في بداية هذه المرحلة من ضبابية. وقد كانت أعين الغرب المفتوحة ترصد الظاهرة، وبدأ معها ومن حينها السعي الغربي للتمييع والتضليل، وإضافة لذلك وجدت فيها أميركا فرصة للترويض والتسخير، فوجدتها أميركا مثلاً قوة دافعة يمكنها تسخيرها في حربها لقلع نفوذ الاتحاد السوفياتي كما جرى مع “المقاتلين الأفغان” حيث كانت أميركا تدعم المقاتلين الأفغان المتحركين بإخلاصهم وإيمانهم في قتالهم ضد الاتحاد السوفياتي “إمبراطورية الشر”. وهي كذلك دعمت الثورة الإسلامية في إيران والتي أطاحت بالشاه لتشكل جمهورية إيران “الإسلامية” ركيزة من ركائز سياسة أميركا التي صارت تستعملها بالتلويح والتهديد والعداء وإيجاد التوتر وكذلك بالتنسيق، وهكذا بدأ الاستغلال لظاهرة صعود الإسلام كتيار بين أبناء الأمة الإسلامية؛ ولذلك فإن العقلية الغربية وخاصة الأميركية منها ليس جديداً ولا غريباً عليها التعامل مع أي شيء “إسلامي” في سياق المنفعة والتسخير، مثلما هو في سياق الحرف والتضليل؛ لإبعاد المسلمين عن إسلامهم النقي وللحيلولة دون تمكنه.

 إذاً، مع تنامي الإسلام في نفوس الناس تنامياً طبيعياً لكونه يشكل مخزون الأمة الثقافي الذي سيظهر مهما طال طمسه خصوصاً عند الأزمات، وكذلك مع استمرار الفشل المحتوم لبقية الخيارات، بدأ الغرب وخاصة أميركا يعد العدة لكيفية التعامل مع هذا التيار الجارف الجديد الذي يقود الأمة نحو إسلامها. فبدأت مراكز الأبحاث وكذلك السياسيون ينشطون بوضع التصورات لكيفية التعامل مع الإسلام ونموه من حيث الحد والتمييع، وكذلك من حيث الاستغلال والتسخير. ولقد كان ذلك من خلال النظرة إلى التعامل مع المفاهيم الإسلامية التي بدأت تنتشر من جانب، ومع القوى الإسلامية الصاعدة من جانب آخر.

أما التعامل مع المفاهيم الإسلامية، فإنها عمدت إلى الأسلوب القديم المتجدد، الطمس والتمييع، وتنمية التوجه للنواحي الفردية للإسلام على حساب أفكار الإسلام بصورتها السياسية التي تعنى برعاية شؤون الناس وأنظمة حياتهم ومنها نظام الحكم، وتعديل المناهج في بعض البلدان، وإلباس الأفكار الرأسمالية لباس الإسلام مثل فكرة الديمقراطية، بل وخاصة فكرة الديمقراطية حتى تجعلها دين العصر؛ فنتج عن ذلك منظومة من الأفكار أطلق عليها (الإسلام المعتدل) لإيجاد وسط عازل كثيف يحول دون أن تعود الأمة لتأخذ إسلامها نقياً من قرآنها وسنة نبيّها.

 وأما بالنسبة للحركات فإنها لجأت إلى تصنيفها وفرزها، وذلك حسب طبيعة فهمها للإسلام ونظرتها إلى الغرب، وقررت أن هناك حركات أصولية متطرفة لا يمكن الالتقاء معها، ومن ثم وسمتها بالإرهاب وأعلنت استمرار الحرب عليها، فكانت الحركات التي تريد تطبيق الشرع كاملاً وتوحيد المسلمين وإقامة الخلافة، والتي تعلن العداء السافر للكفر، وتريد القضاء على (إسرائيل) من هذا الصنف، ومن الحركات من صُنِّفت بأنها (معتدلة) يمكن الالتقاء معها والانفتاح عليها لتبنِّيها لـ(الإسلام المعتدل)، بل ويمكن كذلك قبولها حتى في سدة الحكم، وقد تمثل الصنف الثاني للأسف في حركات “الإخوان المسلمين” بنسخها القطرية، وقررت أن هذه الأخيرة يجب دعمها لمواجهة الأولى. وقد أكد هذا الفرز والتصنيف مشاريع بحثية كتقرير “مؤسسة رند” الشهير كما أكده طبيعة ذلك السلوك السياسي المحموم من الانفتاح بين الإسلاميين (المعتدلين) والغرب ودوله ومؤسساته.

القابلية الذاتية لحركات الإسلام المعتدل

 ما كانت الحركات الإسلامية لتقع في ما وقعت فيه من سقوط في فخاخ الاستعمار، وانتكاس عن كثير من مفاهيم الإسلام، وتنكُّب عن حمل شعاره بأنه هو الحل، إلا لأنها كان قد أصابها ما أصابها من الغشاوة التي كانت على أعين كثير من العامة؛ ذلك أن عدم وضوح ونقاء الفكرة الإسلامية وصفائها عند تلك الحركات، وعدم أخذ الأحكام الإسلامية مع أصولها جعل الحركات مشوَّشة الفهم حتى في مفاهيم بديهية من الإسلام. ولو كانت هذه الحركات واعية على الفكرة الإسلامية وعياً صحيحاً لأدركت مثلاً التناقض التام بين الإسلام وبين الديمقراطية الغربية التي تلقفتها أيديهم بينما هي صناعة كفر بامتياز، وأن نظام الإسلام لا يعيش ولا يتعايش مع غيره من الأنظمة؛ لأنه يقرر قاطعاً أن كل ما سواه باطل، وأن الحكم لله وحده. وهي كذلك كانت فاقدة لطريقتها، ولو أنها كانت على بصيرة منها لأدركت أن الإسلام وضع طريقة لإعادة الحكم بما أنزل الله وتحويل الحياة إلى حياة إسلامية، وأن ذلك لا يتحقق إلا بإقامة دولة الإسلام وإعادة الخلافة التي هي نظام الحكم الوحيد في الإسلام، ولكنها بدل ذلك أخذت تتوسل لتحقيق أهدافها بطرق شتى وأساليب مرتجلة، ومنها ما يسمى باللعبة الديمقراطية والمشاركة السياسية والبرلمانية في ظل الأنظمة القائمة دون إدراك منها أن هذا يطيل عمر أنظمة الكفر ونفوذ الكفار المستعمرين، كما أنه يشكل إحتواءً لصحوة المسلمين على دينهم.

 أضف إلى ذلك قلة الوعي السياسي للواقع لدى هذه الحركات، ولو أنها كانت واعية سياسياً لأدركت أن نهضة الأمة وإيجاد أحكام الإسلام بجزئياته وكلياته، لا يتم إلا بطرد الاستعمار وكنس النفوذ الأجنبي وتحرير الأمة من هيمنته تحريراً تاماً، وأن حلول كافة مشاكل الأمة إنما هو من خلال تطبيق الإسلام كاملاً، لا من خلال التعامل مع الغرب المستعمر واللعب على وتر تأمين مصالحه، بل إن الحاصل أن فهمها السياسي المنقوص والمعكوس أدّى بها إلى أن تنشد أخذ السلطة من بوابة الرضا الغربي. وعزب عنها أن ذلك سيبقيها تنشد رضاه للاستمرار في السلطة .

الالتفاف على الثورات (إعادة إنتاج الأنظمة بغلاف إسلامي)

قبيل ما يسمى بالربيع العربي بسنوات كانت المؤشرات تظهر إقبال الناس على الإسلام بغض النظر عن طبيعة تلك المؤشرات، وكذلك تشير إلى قرب الانفجار وانهيار تلك الأنظمة. وقد بدأ الغرب يعد العدة للتعامل مع القوى الإسلامية النامية ويضع الخطط ويظهر المغازلة؛ فكان خطاب أوباما الشهير في القاهرة عن الانفتاح على العالم الإسلامي والتفاوض مع الحركات الإسلامية بدل محاربتها، ولقد جاء هذا الأمر في سياق أمرين اثنين:

أولهما: ضعف الدول الغربية وصعوبة وضعها في العالم الإسلامي.

ثانيهما: اهتراء الأنظمة العلمانية وكذلك القوى العلمانية بحيث لم يعد يمكن الاعتماد عليها.

ولم تكن الثورات بمعزل عن هذا الواقع، فكان منطق تصرف الغرب معها الاستعداد للبلاء قبل وقوعه، ذلك أنهم أدركوا أن العالم الإسلامي على وشك الانفجار، فأعدوا العدة لإنشاء علاقة مع قوى الشارع المتوقعة والمستقبلية، ألا وهي الحركات الإسلامية، وبالذات حركات “الإسلام المعتدل” لتكون بديلاً للأنظمة، بحيث يمكن التواصل معها من طرف، ويكون له القبول من قبل الناس في الشارع من طرف آخر، فدخلت الحركات الإسلامية (المعتدلة) في البلدان الثائرة إلى الواجهة مستندة إلى رضا غربي بعد أن نجحت في امتحان شروط اعتمادها، مدفوعة بحب الناس لإسلامهم وسعيهم لأن يدفعوا بإسلامهم إلى الواجهة بأي طريقة كانت. وفاز الإخوان المسلمون والحركات التي خرجت من عباءتهم في كل من مصر وتونس والمغرب، وتم التسوية معهم سياسياً في اليمن.

إذاً من خلال الإخوان المسلمين مع اختلاف تسميات حركاتهم يمكن القول إن الغرب يعمل على الالتفاف على الثورات التي تحصل في البلاد العربية ومحاولة احتوائها وحرفها لئلا تتجه الوجهة الصحيحة نحو إسلامها الكامل، بعدما رآه منها من جرأة يصاحبها التكبير والتهليل والصلاة في الساحات والهتاف بمجد الإسلام، بل إن الثورة التي لم تخرج من المساجد صار هديرها يصب في المساجد، ولقد خشي على نفوذه من السقوط والضياع، فأبرم صفقاته مع الإسلاميين ليوصلهم إلى الحكم في عملية يمكن أن توصف بأنها إعادة إنتاج للأنظمة السابقة بغلاف إسلامي، محاولاً أن يجمع بين الإبقاء على نفوذه وبين حرف الأمة عن إسلامها النقي، إذ إن المدقق يرى أن الضجة الإعلامية الهائلة التي صاحبت فوز من يسمونهم بـالإسلاميين يرى أنه لم ينتج عنها أي جديد يذكر اللهم إلا مزيداً من أشكال الليبرالية والعلمانية، فكانت نتائج عملية صعود الإسلاميين الانتخابية من خلال برامجهم وتعهداتهم وطروحاتهم نتائج تصب في صالح العلمانية، بل هي نتائج علمانية بحتة، وذلك في الوقت الذي انحسر فيه العلمانيون حتى آلوا إلى الانقراض واختفى فكرهم بين الناس لصالح الإسلام.

مقاييس الغرب للإسلاميين المعتدلين (التخوف والابتزاز)

على الرغم من أن الغرب يعرف جيداً طبيعة الحركات الإسلامية ويعرف أصحابها، خاصة وأنه أمضى سنوات طوالاً في التعامل معها، سواء بالعداء أو بالاحتواء، وهو يعرف جيداً من يقبل بالديمقراطية ومن يرفضها، إلا أنه كثيراً ما كان في خطابه يظهر التخوف من جملة من القضايا: كالخلافة، وفرض الشريعة، وفرض الحجاب، ومعاملة المرأة، والأقليات، والسلام في الشرق الأوسط، وغيرها. وهكذا وضع الغرب جملة من التخوفات كان على أصحاب الإسلام المعتدل دحضها وجملة من المقاييس صار عليهم الالتزام بها.

 في مقالة له بعنوان “دور الأحزاب الإسلامية في التحولات الراهنة في شمال أفريقيا والعالم العربي” يختصر ويجمل وزير الخارجية الألماني غيدو فيستر فيله الكثير من السياسات الغربية تجاه (الإسلام المعتدل) وحركاته وكيفية التعامل معها، حيث يذكر أن هناك ثلاثة مخاطر تهدد الربيع العربي وهي: الخطر الأول: “الإرجاع، وهو استقواء الأنظمة المسقطة الأوتوقراطية من جديد. الخطر الثاني هو الفشل الاقتصادي المحتمل الذي سيؤدي إلى تصعيد التوترات الاجتماعية وحدوث اضطرابات جديدة. أما الخطر الثالث فهو اختراق الحركات المتطرفة الأصولية الإسلاموية للحراك الديمقراطي وانقلابها عليه.

ثم يتابع فيسترفيله لاحقاً بالتمييز بين نوعين من الإسلام والإسلاميين بقوله: من المهم أن تكون النظرة نزيهة وحيادية. فالإسلام السياسي ليس متساوياً مع الإسلاموية المتطرفة. والتوجه الإسلامي لا يمثل في حد ذاته فكراً رجعياً معادياً للحداثة والديمقراطية والحرية. يجب علينا أن نتعلم التدقيق في النظر والتمييز. فقد دخلت أيضاً مجموعات متطرفة، أي بالفعل “إسلاموية”، السباق السياسي، لن يكون للحوار معها أي نجاح. لكن في تونس أو المغرب على سبيل المثال نرى أنه حتى الآن كانت المجموعات الحاصلة على الأغلبية أحزاباً وسطية ذات توجه إسلامي معتدل.

ثم هو تكلم عن ضرورة حوار هذه القوى بوصفها القوى التي تملك أكبر فرصة للحصول على الشعبية مضمناً ذلك صورة علاقتها بإسلامها بأنها علاقة تشبه علاقة أحزاب أوروبا بالمسيحية فقال “إنه من الضروري أن نسعى إلى الحوار مع هذه القوى المعتدلة حول علاقة الدولة بالمجتمع والسياسة بالدين. فالأحزاب المستلهمة من القيم الإسلامية والتقاليد الوطنية هي التي تمتلك أكبر فرصة في الوقت الحالي للتطور لكي تصبح على المدى الطويل أحزاباً شعبية قادرة على الحصول على أغلبيات في المنطقة. ويجب علينا التحلي بالاحترام إذا ما أرادت الأحزاب في بلدان شمال أفريقيا صياغة السياسة استناداً إلى القيم الإسلامية، كما أنه من البديهي أن الكثير من الأحزاب في أوروبا تشعر بالالتزام بالقيم المسيحية وتسعى لتحقيق رؤاها السياسية على هذا الأساس.

وبعد ذلك يجمل مقاييس هذه الأحزاب بقوله: “يجب علينا التمعن في برامج الأحزاب الإسلامية، وعلينا بشكل خاص قياس الأحزاب بأفعالها. فالأمر الهام هو الاعتراف: بالديمقراطية، ودولة القانون، والمجتمع التعددي، والتسامح الديني، وكذلك بالحفاظ على السلام الداخلي والخارجي. هذه هي المقاييس الستة التي نضعها ونطالب بها. ومن يلتزم بها يمكنه الاعتماد على دعمنا.

ويختم مقالته بقوله “هناك فرصة قائمة وهي أن تستطيع القوى الإسلامية المعتدلة حفظ مكانها على المدى الطويل كأحزاب إسلامية ديمقراطية. ولدينا اهتمام كبير بتثبيت نموذج الأحزاب الإسلامية الديمقراطية؛ ولذلك يتوجب علينا أن ندعمه بكل ما أوتينا من قوة.

السقوط الكبير:

لقد كانت قراءة المزاج الغربي لدى معتدلي حركات (الإسلام المعتدل) أفضل كثيراً من قراءتهم للشعور العام والرأي العام لدى المسلمين، بل حتى لدى ناخبيهم الذين اعتمدوا على حبهم للإسلام ليكونوا قوى ذات شأن، وعلى أملهم في تقريب الإسلام للحكم وإعلاء شأنه، وبناء على قراءتهم هذه فقد كان مجمل ما صدر عنهم خذلاناً لناخبيهم وموجة من السقوط في الفخاخ الغربية؛ إذ استجاب هؤلاء للابتزاز، وبدل أن تكون برامجهم تتضمن العمل على إكمال الثورات والسير بها نحو الإسلام ودولته وشريعته وطرد النفوذ الغربي، صار همهم تحقيق المقاييس الغربية، حتى صاروا لوناً من ألوان العلمانية.

لقدر صار طرح هؤلاء مشبعاً بالديمقراطية، والتزام التعددية، ورفض فرض الشريعة الإسلامية (بينما يتم الكلام عن فرض سيادة القانون الوضعي على المسلمين) وصاروا أقرب ما يكون إلى مقاييس فيستر فيله السابقة الذكر، بل وذهبوا أبعد من ذلك، حتى صار البعض يتكلم في بعض أحكام الإسلام، فبدأنا نسمع الكلام عن التشكيك في حكم الردة في الشرع الإسلامي تماشياً مع طرحهم الجديد بحرية الرأي والاعتقاد، والبعض يؤوِّل العقوبات والحدود، والبعض يهاجم حكم الجزية، والبعض يرفض حكم تعدد الزوجات بحجة أنه لا يناسب المجتمع التونسي مثلاً. حتى وصل الحال إلى أن يرفض حزب حركة النهضة “الإسلامية” في تونس إدراج مادة تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع في الدستور التونسي. ولقد صار الشيء المشترك بين برامج حركات الإخوان المسلمين “حركات الإسلام المعتدل” والتي تتصدر البرلمانات هو ترك الشريعة الإسلامية وإسقاطها من برامج تلك الأحزاب، حيث يقول أحد البرلمانيين من حزب العدالة والتنمية المغربي (الإسلامي): “نحن لا نريد تطبيق شرع الله بل برنامج حزب العدالة والتنمية”، تماماً كما نطق به راشد الغنوشي عندما قال: “لا مكان للشريعة في تونس” ومثلها في سوريا حيث خلا بيان حركة الإخوان المسلمين الأخير من أي إشارة للإسلام، وبمثل ذلك بدا الكثير من مظاهر السقوط، وكان أن غيرت حركات (الإسلام المعتدل) أسماءها بحيث صارت مفردات أسمائها “حرية” “عدالة” “تنمية” “نهضة” وغاض الإسلام من تكوينها اسماً ورسماً حيث صار المنهج العملي هو إسقاط أحكام الإسلام، مع بقاء الاسترشاد بقيمه على حد تعبيرهم تماماً كعلاقة الأحزاب الأوروبية المسيحية بالمسيحية، ولقد عبر بالإجماع تقريباً أصحاب حركات (الإسلام المعتدل) عن الإعجاب بالنموذج التركي، الذي أوضحه أردوغان حينما زار مصر بأنه العلمانية التي لا داعي للقلق منها كونها لا تعارض الإسلام.

إن ما سبق ذكره ومثله الكثير كان على صعيد الداخل، أما العلاقة الخارجية، وفي الانفتاح على الغرب، فقد دشنت حركات (الإسلام المعتدل) عهدها الجديد بتخفيف النبرة تجاه (إسرائيل)، وإعلان الاحترام لاتفاقية كامب ديفيد، ثم الزيارات المتبادلة بين الإخوان والأميركيين، بل وصل الأمر إلى أن يجلس الغنوشي في البرلمان البريطاني جلسة استماع عن برنامجه لتونس، وهكذا بدأ عصر الانفتاح واللقاءات التي تشرح وتوضح وتتعهد وتطمئن وتستشير.

لقد جاء إدراك حركات (الإسلام المعتدل) لحقيقة أن اليد الطولى في أنظمة البلاد العربية هي للدول الغربية وخاصة أميركا، وأنها هي الممسكة بزمام الأمور، بعكس النتيجة المرجوة منه، فلقد كان الأصل أن تعمل هذه الحركات –وقد أدركت ذلك- مع أمتها التي تحركت تحرك الطوفان لإزالة الأنظمة العميلة، وأن تكمل السير لقلع النفوذ الغربي برمته. ولكنها بدلاً من ذلك استغلت هذه المعرفة لتنال رضا الغرب كجواز مرور لوصولها للسلطة .

مبررات وحجج:

مع بروز ما يسمى بـ(الإسلام المعتدل) وحركاته إلى واجهة المشهد السياسي بعد الثورات العربية، برز بشدة ذلك المقدار من التغيّر والانتكاس الذي صاحب هذه الحركات عما كانت تدعو اليه وترفعه من شعارات، وصار شعار (الإسلام هو الحل) من الماضي، وأمام ذلك التغير والانعطاف الحاد الذي أصاب الناس بالدهشة، وفيما كانت قيادات حركات (الإسلام المعتدل) مستمرة في توجيه خطابها نحو الغرب والآخر العلماني للانفتاح والتصالح، صار خطاب قواعدها وأفرادها تبريرياً غلب عليه التذرع بحجج واهية تفسر مواقف وتصريحات وتغيرات بات من المتعذر تفسيرها، بل ومجرد ملاحقتها لكثرتها.

 صار من التبريرات أن الغرب “تغيّر” كما يقول الكثيرون من مؤيدي (الإسلام المعتدل)، وبالتالي انفتح مرغماً على الإسلاميين الذين أثبتوا أنفسهم، ولكن هل حقاً إن الغرب هو الذي تغيّر، أم إن الذي حصل له التغيّر هم “الإسلاميون”؟ وهل اقترب الغرب منهم خطوة واحدة إلا بعد أن ضجّ الغرب والشرق بالتصريحات والمواقف التي تقبل بالديمقراطية، والتعددية، وإقصاء الشريعة، وقبول الكافر رئيساً للدولة، واعتماد الاقتصاد الرأسمالي، والاستهلال بالبنك الدولي ومديرته، وبالتعهد باحترام كينونة ما يسمى بـ(إسرائيل) والاتفاقيات معها؟!

 وصرنا نسمع كذلك أن التركيز على التنمية الداخلية وحل مشاكل المجتمع والفساد المتراكم له الأولوية على سياسة خارجية صارمة تستجلب العداء في غير وقته، ولكن هل حقاً إن إقصاء الإسلام سيحل المشاكل التي تراكمت عبر عقود عديدة وكان سبب وجودها إقصاء الإسلام أصلاً؟ وهل ستحل المشاكل مع الرضا ببقاء النفوذ الأجنبي والاقتصاد الرأسمالي وقروض البنك الدولي والأنظمة الوضعية؟

وصار البعض بل الكثيرون يرون في مسالة التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية وصولاً إلى التطبيق الكامل حجة تطرح، غير أن مسالة التدرج هذه فرية كبيرة وفيها مغالطة كبيرة أيضاً. إن الذي يحصل من طرح فكرة التدرج إنما هو باتجاه عدم تطبيق الإسلام وليس باتجاه تطبيقه، وبمعنى آخر إن الذي يحصل هو انتكاس ولا يسمى تدرجاً أصلاً؛ لأن التدرج –لو تجاوزنا مسألة عدم صحته شرعاً بل وحرمته– إنما هو الاتجاه نحو تطبيق الإسلام بدرجات متتالية، غير أن ما يجرى إنما هو انتكاس عن تطبيق الإسلام، وخطى سريعة في ترك مفاهيمه وشعاراته، فأين التدرج إذاً؟

الغرب يحرق آخر أوراقه بإحراق ورقة الإسلام المعتدل:

إذا كان الغرب قد سخّر ورقة الإسلام المعتدل واستغلها، فإنه بهذا يكون قد بدأ يحرق آخر الأوراق لديه، وذلك لصالح الإسلام نفسه، ذلك الإسلام النقي الصافي المستنبط من كتاب الله وسنه نبيه، وإنه وإن كان الغرب كما سبق ذكره يبذل الكثير من الجهد والكثير من الخبث والدهاء لحرف الأمة عن أن تقيم دينها في حياتها، إلا أن ذلك لا يعني أنه سوف ينجح في ذلك، لأنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وإن بوادر الفشل والاحتراق لهذه الورقة الأخيرة قد تبرز معالمها في الأمور التالية:

1– إن “الإسلاميين المعتدلين” وهم يدخلون في الأنظمة الحالية، مع بقاء جوهرها وحتى مظهرها، إنما هم يدخلون ضمن تشكيلات وهياكل آخذة بالزوال والانهيار؛ لأن الثورات لم تختتم بعدُ تفاعلاتها، ولن تستقر مع استمرار وجود أسباب بؤس النظام القديم.

2– إن هؤلاء “الإسلاميين” الذين جاؤوا في مصر وتونس واليمن والبلدان وليبيا والمغرب قد ورثوا من أسلافهم إرثاً ثقيلاً من المشاكل التي لن تحل باتباع ذات النظام الرأسمالي القديم، وسريعاً جداً سيظهر فشلهم لأنهم يستنسخون ذات الدساتير والأنظمة التي كانت أس البلاء ولازالت، فمثلاً دشنت حركة النهضة التونسية بداية عهدها بزيارة كريساتين لاغارد مديرة البنك الدولي لتونس، في إشارة لعقلية حل المشاكل الاقتصادية واستمرار الاعتماد على الغرب.

3– لقد وضعت تجربة الحكم والوصول المنقوص إلى السلطة هؤلاء الإسلاميين على محك سيفقدون فيه مكانتهم في الأمة، بل إن مظهر الافتراق بدأت تظهر بينهم وبين الناس حتى من قواعدهم وناخبيهم، كما يحصل الآن في مصر وتونس حيث بدأ السخط يحل محل التأييد، لأنهم وصلوا على أكتاف أناس يحبون الإسلام فتنكروا لهم وللإسلام، حيث كانت برامجهم ترضي قلة من الأقليات والعلمانيين على حساب غالبية الأمة التي تتجه لرفع شأن دينها.

4– إن أي محاولة لإحداث التنمية ولإيجاد العدل، كما تطرح هذه الحركات من شعار عام، لن يتحقق ما دام البحث عنه خارج دائرة الإسلام وأحكامه، وإن الديمقراطية التي يزعمون وكذلك تعدديتهم المنشودة، لا تحل مشكلة البطالة، ولن تسدد الديون، وهي لن توقف الجريمة ولا الفساد، بل هي ستعطي الرذيلة مشروعية، ولو أنها أغنت عن أحد لكانت أغنت عن دولها الأصلية في أوروبا وأميركا، وهي تقف الآن على شفير الانهيار الاقتصادي بسبب المديونية والركود.

5– إن النصر من عند الله، يعطيه الله لمن ينصره وينصر دينه، فالنصر كما أخبر الله عز وجل هو من نصيب تلك الفئة التي تنصر الله، وتسعى لإيجاد دينها مطبقاً في واقع الحياة، وتتعبد الله عز وجل بذلك.

 وأخيراً فإن الأمة الإسلامية قد صحت منذ عقود من كبوتها، فكانت الصحوة، وهي الآن قد بدأت تأخذ إسلامها عن وعي وإدراك، فصارت تتحرك نحو النهوض، وهي لم تعد تستسيغ مما يقدم لها إلا ما كان نقياً، وهي سرعان ما صارت تكشف التضليل والتزييف، خاصة في أمر دينها، وذلك أولاً لوجود كتاب الله وسنة رسوله بينها، وثانياً لوجود المخلصين من العاملين الذين كانوا ولا زالوا لأمتهم رائداً لا يكذب أهله، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *