العدد 306-307-308 -

العدد 306-307-308 ، السنة السابعة والعشرون، رجب وشعبان ورمضان 1433هـ

قومي معي يا أمتي وقولي: “لن أُلدَغ من ذات الجُحر مَرَّتَيْن”

قومي معي يا أمتي وقولي:

“لن أُلدَغ من ذات الجُحر مَرَّتَيْن”

 

أم عبادة -بيت المقدس-

أمّتي الحبيبة بالأمس… عندما كنتِ تعانين الضعف والهزال… وأردتِ أن تنهضي وتعودي إلى عافيتك وسابق عزك ومجدك… رحتِ تبحثين عن طريق النهوض… ولأن الواقع كان أليماً والانحطاط قد بلغ منك كل مبلغ، فقد سارعتِ إلى سلوك أول الطرق التي لاحت لك، دون أن تتأكدي من صحة هذه الطريق أو اتصالها بالغاية المنشودة، ودون أن تفهمي هذه الطريق فهماً دقيقاً بجميع فروعها وخط سيرها حتى لا تَضِلي أو تنحرفي عنها إلى طرق فرعية تُبعدك عن غايتك وتُضيّعك في متاهاتها…

كان ذلك في أواخر الخلافة العثمانية عندما كانت قد ضعُفت وعجزت عن إحسان رعايتك وتوقفت عن حمل رسالتك، رسالة الإسلام.

حينها قامت جماعاتٌ من أبنائك ممن أحَسّوا بفساد الواقع وضرورة التغيير، قامت تُشَكِل التكتلات من أجل العمل للتغيير، تغيير الواقع المُتردي وتحويله إلى واقعٍ أكثر أمنا وأماناً وتقدماً ورفعة، هنا لم تجد هذه الجماعات طريقة التكتل الشرعية واضحةً جلية في ثقافتنا الإسلامية، ولأنهم متعجلون متحمسون للعمل لم يُعنوا أنفسهم بالبحث والتنقيب لمعرفة هذه الطريقة، وغاب عن بالهم أن في العجلة الندامة وفي التأني السلامة…

ولكسب الوقت حاولوا أخذ طريقة التكتل من الدول المتقدمة التي سبقتك بالنهوض والارتقاء في معترك الحياة، فالتخلف قد بلغ منك أبعَدَ مداه، وهم في سباقٍ مع الزمن ليواكبوا رَكْب التقدم الذي سبقهم إليه الغرب سنين وأياماً؛ فلِمَ لا يلجؤون إلى الغرب صاحب الخبرة والتجربة الناجحة بدل البحث والتنقيب؟! أو الملاحظة والتجريب!! فهم لا يحتملون الإخفاق؛ لذا فقد يمّموا وجوههم شطْر الغرب الذي سبقهم في النهوض، وراحوا يسألونه عن الكيفية التي نهض بها ووصل إلى ما وصل إليه من ارتفاعٍ وتقدمٍ بواسطتها.

والغرب لم يرفض مساعدتهم، بل رحَّبَ بتوجههم إليه، وراح يُعَلِّمهم ويُوَجِّههم، وهم يأخذون ما يُقَدَّم لهم، ويتلقون ما يُعلِّمهم بلا تحَفُظٍ ولا حذرٍ، ناسين العداء الذي بينكِ وبينه، وغافلين عن الحقد الذي يُكِنُّه في صدره… رغم أن هذه الجماعات أقامت تكتلاتٍ مختلفةِ التوجهات والأسس، قومية وإسلامية، إلا أنها لم تختلف في أخذها عن الغرب طريقة التكتل والطريقة إلى النهوض والتقدم.

فالثقافة الغربية كانت زاد كل تلك التكتلات، حتى مَن أرادت أن تضع مسحةً إسلاميةً على صورتها لم تكن تلك المسحة سوى غشاءٍ مُضَلِّلٍ يخدع صاحبه قبل أن يخدع الناس، وينحرف به عن جادة الصواب دون أن يشعر فيَضِلَّ ويُضِلّ.

أما القوميون فكان توجههم علمانياً صراحةً وليس تدليساً، وإن اضطروا إلى التضليل في بداية الأمر فمن أجل إيجاد موطئ قدمٍ لهم في مجتمع إسلامي يؤمن أهله بالإسلام عقيدةً ونظامَ حياة وليس عقيدة جافة جوفاء.

وما أن نشأت تلك التكتلات حتى دبَّت الخلافات فيما بينها حول الرابطة التي يجب اعتمادها لربط أبنائك بك ربطاً قوياً دائماً يُعتمد عليه في طريق النهضة، فمِنْ داعٍ للرابطة الإسلامية، إلى داعٍ للرابطة القومية، دون أن يُدركوا أنهم بهذه الخلافات يُبْعِدونك عن طريق النهضة الصحيحة، ويعملون على تفتيت أرضكِ وتوزيع مقدراتِك ممّا يُضْعِفُكِ أكثر بدل أن يُقَويك، فضلاً عن أن التفرق بُعدٌ عن دين الله الذي قال: (واعْتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جَميعاً ولا تَفَرَّقوا)… ومخالفة لرسوله الكريم الذي قال: «مَنْ أتاكُم وأنتم جميعٌ يُريدُ أنْ يَشُقَ عَصاكُمْ ويُفَرِّقَ جَماعَتَكُم فاقتُلوهُ كائِناً مَنْ كان». وما حُسِمَت تلك المجادلات حتى كانت دولتك الحامية الراعية التي قصَّرَت في رعايتك حقاً قد نالها القتل والتنكيل، بينما هي كانت تستحِق المحاسبة والمعالجة، وأبداً لم تستحِق القتل والتنكيل، أما وقد رضِيَت تلك الجماعات بقتلِ راعيها فَلْتَتَلقِّ نتائج أفعالِها .

والحقيقة أنَّ مَنْ عانى مِن فُقدانِ الرّاعي هو أنتِ أيَّتُها الأمَّة المسكينةُ، وليس الجماعات الرائدة فيكِ فحسْب، وسقط الجميع في شَرَكِ الاستعمار، فكأنَّنا خرجْنا من الدَّلْفِ إلى تحتِ المَزرابِ كما يقول المثل.

كان لنا دولةٌ قويةٌ عزيزةٌ تُحْسِنُ رعايتَنا وتحمي دماءَنا وأراضينا وأموالنا وأعراضنا، فاعتراها الضعفُ والمرض، وبدلاً مِن علاجها وإبرائِها، وبحركةٍ جاهلةٍ من قياداتٍ نَزِقين، فقدنا تلك الأمّ بدل أنْ نُصْلِح مِن شأنها ونُعيدها إلى سابق قوَّتِها وعافيتها.

والنتيجة: سقوط البلاد والعباد تحت رحمة الكافر المحتل، الذي طالما حَلُمَ بهذه اللحظة التي يَتَحكمُ فيها بأمَّة الإسلام، لينتقم منها ويُدَفِّعها ثمن قرونٍ من الهزيمة والهوان تَلَّقاها منها خلال صراعِهِ الطويلِ معها.

هكذا كان ثمن التَسَرُّعِ وعدم التأني مِن قِبَلِ أبنائك النَزِقين، وعدم التأكد من صحة كلِّ خطوةٍ يخطونها… ثم غياب دوركِ في المراقبة والمواكبة لما يقومون به، وعدم قيامكِ بواجب الأخذ على أيديهم وإيقافهم عند حدِّهم، فأنتِ يومئذٍ مريضة ضعيفة، فكان الثمن هو تراجعٌ إلى الوراء، وتخلف بعد تخلف، وفقدان الإرادة وأبسط مقومات الحياة…

ولكن أمَّة عريقة صاحبة مبدأ فقَدَتْ قوَّتها وسُلِبَت إرادتها لا يمكن أنْ تفقد مقوِّمات القوَّة والإرادة، وهنا بدأتْ مرحلة من مقاومة الوضع الجديد (الاستعمار) وقد كان العلماء المخلصون هم مَن قادوا حركة المقاومة والعمل على استعادة العزة والكرامة…

لكنَّ العلماء المخلصين كان يَنْقصهم الوعي فتمَّ خِداعهم والتخلصّ منهم، ثمَّ أُسْنِدَت القيادة إلى علماء دين ومثقفين مضبوعين بالغرب وحضارته، قتقدموا لقيادة حركة المقاومة تلميعاً لهم وتهيئة للعب دورٍ خطيرٍ في المرحلة التالية مرحلة الاستقلال حيث دُحِرَ الاستعمار وتم استعادة السلطان والإرادة ظاهرياً.

وفرِحْنا كثيراً. بل احتفلنا بالجلاء وبستعادة الإرادة، لكن الحال بقي على ما هو عليه. بل استمر بالتدهور والانحدار. وبدل أن كان الكافر يسومنا سوء العذاب أصبح أبناء جلدتنا هم مَن يفعلون ذلك، ويُجَرِّعوننا كؤوس المُرِّ والذلِّ وما يَسْتَحْيون.

وأصابك، أيتها الأمة العزيزة، حينها الذهول من هول الصدمة التي هزَّتْكِ نتيجة خيانة أبنائك العملاء المنافقين، ثم دخَلْتِ في حالة استسلامٍ للجَلّاد وركونٍ إلى ما تأتي به الأقدار بعد أن تحوَّلَ قادتك المحرِرون إلى طواغيت وجلادين. وأصبح علماؤك الموثوقون هم مَن يُقنعونك بقبول الضَيْم والركون إلى الظالمين، بفتاوى لا تنطبق على الواقع من مثل “وجوب طاعة أولياء الأمور”، مع أنهم لا يطبقون الإسلام، ولا يوجد من الإسلام إلا العبادات وبعض أنظمة الاجتماع، ولا وجود لأحكام المعاملات والحدود والعقوبات، وأفتوا بأن نُظُم الحكمِ الجمهورية أو الملكية، هي من الإسلام، افتراءً وتضليلاً.

ومكثتِ على تلك الحال نصفَ قرنٍ أو يَزيد تُعانين المرَّ والهوان صابرةً مستكينة، فقد فقدتِ ثقتكِ بنفسكِ وفي قدرتكِ على التغيير والخروج مِن ذلك الواقع المرير، لكنْ لكل حالٍ أوان، ولا يبقى على حالهِ إلا ربّ الأكوان، وأنتِ أمَّةٌ كريمةٌ جعلَكِ اللهُ خيرَ أمَّةٍ أخرِجَت للناس فلا بدَّ لكِ من أداء هذا التكليف، ولقد مَنَّ الله عليك بأبناءٍ مخلصين في حبهم لك. راغبين كلّ الرغبة في إعادتك إلى الحياة، وإعادة صلتك مع الله، فعَمِلوا على توعيتكِ وإنهاضكِ سنين وأنتِ ذاهلة لا تستجيبين. فقد مورستْ عليكِ كلُّ وسائل التنويم، ولأنَّ المخلصين مِن طبيعتهم أنْ لا يستسلموا ولا ييأسوا ما داموا واثقين من صلاحية العلاج بل مِن حَتْمِيَّته. وقبْلها هم مؤمنون بربِّ العباد ونصرته…

فقد تابعوا العمل وبذلوا كلّ الوسع ولاقوا في سبيل ذلك ما لاقوا من حرب الغرب وعملائه المجرمين. ترغيباً في البداية وترهيباً فيما بعد بمنع وسائل الحصول على الرزق، ثم الاعتقال والسجن ثم تشويه السمعة ووصولاً إلى القتل، فما أثرَّ ذلك في عزائمهم ولا فتَّر هِمَمِهِم ولا مَنَعَهم من الصدْع باسْمِ العلاج أو ذكرِ طريقة تناوله، فكانوا دائمي التذكير بالخلافة وأنها حِصْنُكِ الحصين ودرعكِ المتين.

لم يُلحَظ تجاوبك للعلاج ولا ظهر عليك أنك تتقبلينه، لكنْ ودون سابق إنذار، هبَبتِ هبَّةً واحدة تريدين استعادةَ ما أضعتِ من أمانة، والعودة إلى ما أراد لكِ ربكِ من مكانة خير أمة أخرجت للناس، تأمرين بالمعروف وتنهين عن المنكر وتؤمنين بالله. نعم لقد أذهلتِ كلّ مَن شهد بداية ثورتك المباركة منطلقة من تونس تردّد أصداءها أجواء مصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا والأردن والمغرب والجزائر والعراق على اختلافٍ في وتيرة الثورة، وفي سرعة الوصول إلى هدم الأصنام والانعتاق من شراسة النظام.

وهال الاستعمار الأمر. فراح يضرِبُ أخماسٍ بأسداس، فليس هذا ما كان يخطِطُ له منذ عقود، ويدفع من أجله النقود والنفوذ لرجالات خانوا أمَّتهم وساروا معه ضدها، وإذا بهم على حين غفلةٍ أصبحوا مهددين بل بدأوا يتساقطون، هنا كان لا بد من المفاصلة بين الحق والباطل بلا مجاملة. فالعدوُّ خطير، ولنْ يقبل بسهولة التخلّي عن سيادته ومصالحه. والعملاء في وضع لا يُحسَدون عليه، يتحركون حركة المغشيِّ عليه.

وأنتِ في أوْجِ عنفوانك، جمعتِ كامل طاقاتِك. تريدين الانعتاق وتُصرين على أن تعودي للحياة من جديد وتعيشي في ظلِّ أحكام ربك الحميد .

لكنَّ الوعي على كيفية الوصول إلى حكم الإسلام عندكِ لم يكتمل، وثعالب الغابة لم تكشف حقيقتهم، فلبِسوا كعادتهم ملابس الوُعّاظ، واندفعوا بين صفوف أبنائك يطلبون قيادتك، ليَدُلُّوكِ كما يدَّعون على طريق نهضتك. وفُتِحَت وسائل الإعلام أمامهم وكلّ مجالات التواصل والاتصال حتى تَرينَهُم بكامل زينتهم فتغْتَرّين بهم وتعودين للسير في ركابهم.

وفي الجهة الأخرى، رجالٌ واعونَ مخلصونَ يحملونَ قضيَّتَكِ ويُبصِرونَ غايتكِ يداومون على سقايتكِ الدواء لإنقاذكِ من الداء.

لكنَّ الأضواءَ أُزيحَتْ عنهم رُغم أنَّهم يتصدَّرون المشهد وَوُضِعوا في منطقة الظل حتى لا تَلحَظينهم ولا تَتَبَيَّنين إخلاصهم وقوَّة تعبيرهم عما يجول في خاطركِ وتهدفين إليه من ثورتك، كلُّ هذا حتى لا تتعرَّفي عليهم فتُسَلِميهم قيادتكِ وتَسيرينَ خلفهم نحو غايتكِ المنشودة، التي هي تطبيق شرع الله…

بدأتِ بالتحرك نحو مَن تقدم تحت الأضواء لقيادتك، فإذا بكِ تُساقين نحو المنافقين أصحاب الوجوه المتلونة فتعطيهم قيادتك، وتهتفين لهم من أعماق أعماقك تطلبين منهم أن يُعيدوا إليك شريعتك ونظام الحياة الذي فيه سعادتك ورضوان ربك، لكنك أخطأتِ التوجّه واختيار القيادة المخلصة كما كان حالك منذ قرنٍ وبقيتِ تسيرين وراء مَعْسولي الألسن خبيثي الطَويّة، فإذا بهم يُعيدون خذلانك ويُعلنون على الملأ أنَّهم لنْ يُطبقوا شرع الله، ولن يقيموا دولة الإسلام، بل لقد تجرأ بعضهم على القول إن الخلافة هي رمزٌ للرجعية والتخلف، وأنكر وجودها طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان، كانت فيها ملء أسماع العالم وأبصارهم، تأمر فيهرول العالم ملبياً، وتنهى فينتفض العالم متراجعاً .

أما آن لك أمتي أن تصحي وتتنبهي، ولا تُعيدي أخطاءً كلَّفَتْكِ الغالي والنفيس، كلفتكِ دينكِ وعزَّتكِ وكرامتك، كلفتكِ إرادتكِ القويَّة، وعيشتكِ الهنيَّة وأمْنَكِ وأمانك.

أستحلفك بالله أن لا تدَعي التاريخ يكرِّر نفسه، أستحلفكِ أن لا تُسَلمي قيادك لمن يخون عهدك، بل تأنّي وادرُسي حالةَ وواقع القادة المتقدمين، ولا تسلِّمي زمام أمرك إلا لكلِّ مخلصٍ أمين تقيٍ نقيٍ لا يبيع دينه ولا يهاب عدوَّه ولا يخشاه. فلا يداهنه ولا يمالئه.. ولا يساومه ولا يفاوضه، بل توجهه كله لله، يستمدّ منه العون والقوة. ويؤمن بأن النصر من عنده وحده، والغاية رضوانه، والطريق إليها طاعته، وإقامة دولته والانصياع إلى أوامره وأحكامه، والمكافأة جنة عرضها السموات والأرض. وعلمي والله لا يريد منكِ جزاءً ولا شكوراً.

دواؤك يا أمتي هو العودة إلى مبدأ الإسلام، تطبقين نظامه عن طريق دولة الخلافة، فهي الطريقة الشرعية لإقامة الدين علَّمَنا إيّاها رسولنا الأمين، حين أقام أوَّل دولةٍ في الإسلام وخلفه عليها صحابته الكرام، وإنَّ أصحاب هذا المشروع هم حزب التحرير، فهم مَن حملَ لك هذا المشروع، وبذلوا في توعيتك عليه النفوس، فليس هناك مَنْ هو أوعى منهم عليه، ولا أحرصَ على تطبيقه، وإنَّك لن تحققي غايتك بإعادة حكم الله وإقامة دولته ومِن ثمَّ التحرر من الظلم والطاغوت واستعادة العزَّ والكرامة إلا بقيادته، فلا تتوهي عن قادتك الحقيقيين الواعين المخلصين، سلِّميهم قيادتك وأنتِ مطمئنة، والفُظي قادةَ النفاق والضلال، فقد كُشِف نفاقهم أمامكِ كما الشمس في رابعة النهار. فيا أمتي الحبيبة قومي معي وقولي “لن ألدَغ من ذات الجحر مرَّتين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *