العدد 306-307-308 -

العدد 306-307-308 ، السنة السابعة والعشرون، رجب وشعبان ورمضان 1433هـ

قانون الأحزاب والثورات

قانون الأحزاب والثورات

المهندس حسب الله النور سليمان

كثر الحديث عن قوانين الأحزاب في البلدان التي حدثت فيها الثورات ضد الحكام الطغاة وفي غيرها من بلاد المسلمين، وأصبح الناس يتحدثون عن ضرورة تغيير تلك القوانين، فما هي تلك التغييرات المنشودة لقوانين الأحزاب هذه؟ وما هي حقيقتها؟ وهل فعلاً ستعالج هذه التغييرات موضوع الأحزاب وبقائها في هذه البلاد؟

وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات نريد أن نبحث في سطر عن حقيقة هذه القوانين. ففي الفترة الماضية؛ فترة ما قبل الثورات، وبعد أن طفح الظلم والطغيان في العالم الإسلامي عموماً، بدأ الناس يتململون منه. ولاحتواء هذا التحرك وتنفيس الاحتقان، تفتحت عقلية الحكام الجبابرة؛ سواء بايحاء من الخارج، أو عن طريق (هامانات) هؤلاء الحكام، تفتحت عبقريتهم عن طرح فكرة الديمقراطية وتبادل السلطة سلمياً، والسماح للأحزاب بحرية العمل، ولما كان الأمر لمجرد الاحتواء فحسب، كان لا بد أن يوضع هذا العمل في إطار لا يهدد العروش، ولا يزلزل كراسي الحكم. ومن هنا نشأت فكرة أن توضع قوانين للأحزاب تفصّل بكيفية تجعل الحزب الفائز هو حزب الحكومة، وتجعل رئيس الدولة هو الشخص الوحيد الذي لديه فرصة الفوز في الانتخابات الرئاسية. أما إذا تم اكتشاف ثغرة في القانون يمكن عن طريقها دخول الخصوم، فهنا تطرح فكرة تغيير القانون عبر المجالس التشريعية التي أُسست خصيصاً لمثل هذه الأمور.

هناك قانون تنظيم الأحزاب في السودان واليمن ومصر وتونس والمغرب والجزائر وغيرها من الدول، ومن الطبيعي أن لا تفي هذه القوانين بمتطلبات التغيير التي حدثت في البلدان التي حدثت فيها الثورات، ومن هنا نشأت فكرة تغيير قوانين الأحزاب. ولكن ما هو ملاحظ أن هنالك مادتين لم يتم تغييرهما ولا الحديث عنهما إلا همساً مع درجة أهميتهما، وهما المادتان اللتان تنصان على (أن لا يكون الحزب قائماً على أساس ديني) والمادة الأخرى التي تنص على (أن لا يكون للحزب امتداد خارجي).

وبعد الاطلاع على قانون الأحزاب في السودان ومصر واليمن والأردن وتونس والمغرب والجزائر، وجد أن قوانين كل هذه البلدان تنص على هاتين المادتين، إلا من تغيير في بعض الألفاظ التي لا تطال المعنى في شيء. فما الأسباب الحقيقية وراء الإصرار على وضع هذه المواد في صلب كل قوانين الأحزاب في كل هذه الدول ما قبل وما بعد الربيع العربي؟.

المتأمل في المادة الأولى التي تنص على ألا يكون الحزب قائماً على أساس ديني يجد أنه وبشكل تلقائي يتساءل عن أي دين يتحدثون؟ ففي هذه البلاد نجد أن هناك دينين لهما أتباع: هما الإسلام والنصرانية. وإذا استثنينا الأعداد القليلة من أتباع بعض الأديان، مثل بضع مئات من يهود في المغرب العربي، وبعض الوثنيين في جبال النوبة أو الأشوريين في العراق، فسنجد أن الأغلبية الساحقة في هذه البلاد هم المسلمون، بل إن هنالك بعض الدول لا يوجد فيها نصراني إلا أفراداً.

والحال كذلك إذاً، ما المقصود من المادة (يجب ألا يقوم الحزب على أساس ديني)؟ إن الدين النصراني ليست له معالجات للمشاكل الحياتية التي تتعلق بمعايش الناس، والتي تقوم الأحزاب السياسية على أساسها، فللأحزاب السياسية برامج سياسية تبين كيفية إدارة شؤون الدولة، وكيف تعالج قضايا الناس. فإذا قام الحزب على أساس النصرانية فإنه لا يستطيع أن يستمد منها حلولاً لقضايا الدولة والمجتمع، اللهم إلا أن يسمي نفسه بالحزب المسيحي كما هو الحال في أوروبا؛ وهي تسمية لا يراد منها سوى دغدغة مشاعر الناس واستقطابهم لتأييد الحزب، في الوقت نفسه تؤخذ كل المعالجات من الفكرة الرأسمالية، فهو في الأصل حزب قائم على أساس الفكرة الرأسمالية. فإذا استبعدنا النصرانية لعدم وجود معالجات تستنبط منها أصلاً، إذاً لم يبقَ المقصود من هذا النص إلا أن لا يقوم الحزب على أساس دين الإسلام، ولما كان النص بهذه الكيفية يشكل استفزازاً للمسلمين، كان لا بد أن يُغلّف بكيفية يسهل بلعه دون الشعور بالمرارة.

كانت النزاهة الفكرية تقتضي أن تكون المادة كما يلي: (ألا يقوم الحزب على أساس دين الإسلام)، لأن الإسلام هو الدين الوحيد في العالم الذي له رؤية فكرية سياسية لمعالجة القضايا وحل المشاكل التي تحدث في الحياة اليومية. ويبقى السؤال الذي يحيِّر الناس، لماذا لا يراد للإسلام أن يتدخل في معالجة المشاكل، مع أن جميع المسلمين في العالم يعتقدون أن معالجات الإسلام هي أصحّ المعالجات، بل هي المعالجات الوحيدة الصادقة التي تنطبق على واقع المشكلة فتحله حلاً صحيحاً وجذرياً؟. نعم ومع ذلك نجد أن من أبناء المسلمين من يرفض أن تقوم الأحزاب على أساس الإسلام، ونجد أن الناس يسكتون حينما تطرح مثل هذه الأفكار، بل إن الجماعات التي ترفع شعار (الإسلام هو الحل) نجدها قد تجاوبت مع هذا الأمر، وتسمّت بأسماء ليست فيها صفة الإسلام، فنجد حزب العدالة وحزب النهضة وحزب العدالة والتنمية، وفي السودان مثلاً نجد حزب المؤتمر الوطني وحزب المؤتمر الشعبي، بل إن المؤتمر الشعبي قد قرر أنه سوف يغير اسمه، ولن يكون في الاسم الجديد إشارة إلى الإسلام، وسيكون حزباً وطنياً مفتوحاً للجميع.

إذاً لماذا كل هذا الحرص على إبعاد الإسلام من الحياة العامة؟ إن الناظر إلى حجج من ينادون بأن لا يقوم الحزب على أساس ديني، فإنهم يحتجون بأن الأحزاب إذا قامت على أساس ديني، فإن هذا الأمر سوف يحدث شرخاً في المجتمع يهدد السلم الاجتماعي، وعليه فلا بد من أن تقوم الأحزاب على أساس فكر جامع كالديمقراطية مثلاً، التي يقولون إنها ستكفل لكل الناس حقوقهم بالتساوي، فهل حقيقة الديمقراطية تكفل لكل الناس حقوقهم؟ وما بال المسلم الذي يعتقد بأن حقوقه قد كفلها الإسلام، ويعتقد أن تطبيق الإسلام فرض ولا يجوز التفريط فيه ولو أدى ذلك إلى موته؟!. فإذا كان هذا الشخص يعيش في أميركا فإن الديمقراطية لا تسمح بتطبيق أحكام الإسلام، فما بالك إذا كان هذا الشخص يعيش في مجتمع أغلبيته الساحقة من المسلمين، بل قد يكونون كلهم مسلمين كما في كثير من البلدان الإسلامية. فحينما يمنع المسلمون من إقامة أحزاب على أساس الإسلام، أليس في هذا انتقاص لحقوقهم.

وهنالك حجة أخرى؛ وهي أن الغرب لا يقبل بإقامة أحزاب إسلامية، وهذا سيدخلنا في مواجهة مع الغرب وإننا لم نستعد لتلك المواجهة؛ لذلك فالحكمة تقتضي أن نتريث قليلاً. وإذا كنتُ مسلماً وأعلم أن طاعة الله واجبة، وأعتقد أن من ينصر الله ينصره، فهل الحكمة في هذه الحالة تقتضي إرضاء الله سبحانه أم إرضاء الغرب؟ وهل الحكمة تكون بطلب النصر من الله أم من الغرب؟.

نعم إن الهجمة الإعلامية على الإسلام وعلى الذين يدعون إليه والذين يعملون لإعادته إلى الحياة العامة في دولة، هي هجمة كبيرة جداً، سخر لها الغرب كافة أنواع الأسلحة؛ من سياسية عن طريق هؤلاء الحكام، وفكرية بمهاجمة الإسلام ووصفه بالتطرف والتشدد والإرهاب وما إلى ذلك، وأسلحة إعلامية ومادية، وكافة أنواع الأسلحة مما أفقد كثيراً من المسلمين مركز تنبههم الطبيعي وهي العقيدة الإسلامية؛ ذلك النبع الصافي الذي أتى به محمد r من الله عز وجل، أتى بها بيضاء نقية، هذه الهجمة جعلت المسلمين يفكرون على أساس المصلحة والمنفعة التي يحددها العقل تماماً كما في العقيدة الرأسمالية. لذلك صاروا يأخذون الحلول لمشاكلهم من الواقع دون تفكير وإمعان نظر، فيأخذون الغث والسمين والجيد والردئ، وبهذه الكيفية وصل بنا الحال إلى ما وصلنا إليه.

فبدل أن يقوم قانون الأحزاب على أساس الإسلام، ويمنع كل حزب يدعو إلى أية فكرة تخالف الإسلام، وأن الحاكم يحكم بالإسلام، وجميع الأحزاب السياسية تحاسب الحاكم على أساس الإسلام مما يؤدي إلى إثراء الفكر الإسلامي من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى العدل والإنصاف بين الناس.

أما المادة الأخرى التي تقول (أن لا يكون للحزب أي امتداد خارجي)؛ أي خارج القطر المعني، ومع أن الحزب هو مجموعة من الناس تكتلوا على أساس فكرة، ومع أن الفكر ليس له وطن، فالديمقراطية ليس منبعها أميركا، ولكن الأميركيين يعتقدونها ويدعون إليها ويعملون على نشرها، فكذلك الإسلام لم يقم في الشام ولا العراق ولا المغرب العربي، ولكن مع ذلك نجد أن كل هذه البلاد أصبحت إسلامية لاعتناق أهلها الإسلام ولحكمها به، ومع ذلك يمنع ألا يكون للحزب امتداد خارجي، وذلك بسبب اتفاقية سايكس بيكو التي جعل الناس لها قداسة وكبلوا عقولهم بحبالها مع أنهم يعلمون أنها أداة استعمارية وضعها لإضعاف هذه البلاد لامتصاص الثروات، ويعلمون أنها من سياسة (فرق تسد)، ومع ذلك رضوا بها وجعلوا لها قداسة ووضعوا بناء على ذلك قانوناً يمنع أي حزب يقوم على أساس أن الأمة الإسلامية أمة واحدة كما قال بذلك رب العالمين.

إن هذه السياسة تؤدي إلى أمر واحد، وهو ألا يكون هنالك حزب يعمل على إزالة هذه الحدود الوهمية التي وضعها الاستعمار ليضمن بسط سيطرته علينا إلى الأبد. فكان الأحرى بدل أن نعيش حياة التفرقة والشتات والذل والهوان، التي جلبتها هذه الكيانات التي أقامها الاستعمار، كان الأحرى أن تقام الأحزاب في العالم الإسلامي على أساس أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.

نسأل الله تعالى أن يغير حالنا هذه بأحسن حال يرضاه رب العباد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *