العدد 167 -

السنة الخامسة عشرة ذو الحجة 1421هـ – آذار 2000م

(إنَّ اللّهَ لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم)

          قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يوشكُ أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلَّة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزَعَنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفَنَّ الله في قلوبكم الوَهْن، فقال قائل: يا رسول اللهِ وما الوَهْنُ؟ قال حبُّ الدنيا وكراهية الموت» رواه أبو داود.

           وها هو الكفر يتكالب على الأمة من كل جانب، وهي ترى ذلك، وتشعر بالظلم والقهر أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وكلُّ دول العالم تمعن في إذلال المسلمين وقهرهم والقبض على مقدراتهم، والسياساتُ المتبعة على كافة الصعد، وبرامجُ الإعلام ومناهج التعليم تحارب الإسلام وتكيد له (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره ولو كره الكافرون).

          المسلمون يكرهون ما هم فيه، ويسألون الله تعالى تغيير الحال، وأن يبعث لهم قائداً يخلِّصهم مما هم فيه، ويقيم حُكم الله، ويعز الإسلام والمسلمين. ولكن، هل ينزل هذا القائد من السماء؟ هل يأتي بغير سعي وعمل ليقول: أنا الذي كنتم تنتظرونه، ولقد استجاب الله دعاءكم وأرسلني إليكم؟ كلا، فإن النتائجَ المرجوَّةَ مشروطةٌ بالعمل لها، وبالإيمان. قال تعالى: (إنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم)، وقال: (إن تنصروا الله ينصركم)، وقال: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).

          إن الحكام هم البلاء، وهم سبب هذا الذل والشقاء. ولكنَّ هذا لا يعفي الناس من المسؤولية، ومن الإثم والحساب. فلا يجوز لهم السكوتُ على هذا البلاء، ولا أن يخافوا الحكام بدل أن يخافوا الله، وليس من الإيمان خشيةُ الحكام وجلاوزتهم أكثر من خشية الله. قال تعالى: (فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين)، وقال: (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).

          والأمر مربوط بالإيمان، (إن كنتم مؤمنين)، الإيمان الذي يضعف ويضعف لتصبح الكثرة غثاءً كغثاء السيل، وليحل محله الوَهْن. فحب الدنيا وزينتها ولو أغضب الله، والخوف من الموت والبلاء ولو في سبيل الله يؤديان إلى الجبن والعجز والذل والشقاء.

          يقول الله تعالى: (إن الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم). ولقد وقع الخطأ في فهم هذا النص عند كثيرين، فقصروا معنى (يغيِّروا ما بأنفسهم) على بعض أحكام العبادات كالصلاة وحضور الجماعات وقراءة القرآن…، وعلى التفقه أو العمل ببعض الأحكام.

          إن معنى (يغيِّروا ما بأنفسهم) هو أن يلتزموا بكل ما أمر الله به وأن ينتهوا عن كل ما نهى الله عنه، وكلها يجب الالتزام بها، فكيف يُربط التغيير ببعض الأعمال ويُفصلُ عن غيرها؟ وكيف يُجعل الالتزامُ ببعض الأحكام طريقاً إلى تطبيق غيرها، وليس الالتزام بغيرها ـ مثلاً ـ طريقاً إلى تطبيقها؟ إنَّ هذا كله خطأ ترجع أسبابه إلى عدم فهم الإسلام، وإلى التضليل الذي رَوَّج لفصل الدين عن الحياة وعن السياسة وعن الدولة، وإلى تضليل علماء السلاطين وأضرابهم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، وإلى الجبن واليأس من ضعيفي الإيمان والذين في قلوبهم مرض.

          إن الذي أمر بالصلاة أمر بإقامة الخلافة، والذي أمر بالصيام وبالزكاة أمر بالحكم بما أنزل الله وبوحدة الأمة، والذي أمر بالصدق والأمانة أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذي نهى عن الزنا والربا والسرقة نهى عن التحاكم إلى قوانين وأنظمة الكفر وعن طاعة أي مخلوق في معصية الخالق، والذي حرم الخمر والميسر حرم الحكم بغير ما أنزل الله وحرم السكوت عليه.

          والتغيير الذي أمر به الله، يتناول كل عمل حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ولا يُغني أو يجزِئُ أيُّ حكم عن حكم آخر. وكما لا تجزئ الصلاة عن الزكاة، ولا الزكاة عن الصيام، ولا قراءة القرآن عن غيرها من العمل الصالح، فكذلك لا يجزئ الالتزام بأي من هذه الأحكام عن حمل الدعوة لإزالة المنكرات وعلى رأسها منكرات الحكام، ولا عن إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله.

          فالنص يقول: (يغيروا ما بأنفسهم) و(ما) من ألفاظ العموم، فلا يصح قصر تطبيق النص على بعض أفراده بغير دليل شرعي. ولا يصح التخصيص بغير مخصص. وإذا كان لا طاقة لهم بتغيير المنكرات أو بعضها، فوراً وحالاً، فعليهم أن يعملوا بجِدٍّ من أجل تحصيل القدرة على ذلك والقيام بالتغيير، فالنص يقول: (حتى يغيِّروا)، والتغيير قد يتم مباشرةً وفي الحال، وقد يقتضي تخطيطاً وعملاً دؤوباً وصبراً وجمع الجهود وتحمل المشاق. ولا يجوز السكوت على المنكر وترك العمل لتغييره، فضلاً عن الرضى به، فالرضى به خروج من الإيمان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم وغيره. والفهم الخطأ للتغيير يؤدي إلى ترك العمل لأجله، وعلى وجه الخصوص إلى ترك الأعمال التي من شأنها التغيير، ولن ينفع بعد ذلك دُعاء القاعدين. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواه الترمذي. وقال تعالى: (لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عَصَوْا وكانوا يعتدون @ كانوا لا يتناهَوْن عن منكرٍ فعلوه لَبِئسَ ما كانوا يفعلون).

          ومما ينبني على هذا الفهم الخطأ الاكتفاء بالقيام ببعض الأعمال، كبعض أعمال العبادات والأعمال الخيرية كإقامة مؤسسات أو جمعيات تقوم بتعليم الفقه والتفسير أو تحفيظ القرآن الكريم، أو تجمع المساعدات للمحتاجين، أو تقيم الخطب والدروس في بعض المناسبات أو غير ذلك من أعمال الخير والبر، حيث يَتوهَّمُ القائمون بهذه الأعمال أن هذا هو طريق التغيير، ويحاولون إقناع أنفسهم بذلك وأنهم بهذه الأعمال يقومون بواجبهم تجاه التغيير. وهذا خطأ. بل إن مِن هؤلاء من قد يأمر بمنكر أو يقوم به، وينهى عن واجب أو يمنع غيره من القيام به، بحجة المحافظة على ما يقوم به هو من أعمال، فيصبح التعرض لظلم الحكام ولأنظمة الكفر وقوانينه وسياساته خطاً أحمر عندهم. فترى من هؤلاء من يثني على الحاكم وعدله وإخلاصه مع علمه بكفره أو فجوره وظلمه، وتراه يدعو إلى انتخاب وتأييد من يحكم بغير ما أنزل الله، أو من يقوم بأعمال التشريع ولا يقيم للإسلام وزناً، مع علمه بحرمة ذلك ويجادل بالباطل لِيُدْحِضَ به الحق، أو تراه يهنئ الكفار والفجار بمناصب يحاربون فيها الإسلام، أو يَؤُمُّ الناس ويدعوهم لصلاة الجنازة على كافرٍ من الحكام… أو تراه يمنع إلقاء درس أو دعوة حق في مؤسسته أو في المسجد أو حتى على باب مسجد له فيه صلاحية، توجُّساً وخيفةً من جواسيس الحكام. متذرعاً بما يتوهمه من عواقب وخيمة بنظره، أو بضرورة استمرار أعماله الخيرية أو الدعوية أو…

          وإن الحكام ومَن خَلفَهم أو معهم من شياطين الإنس والجن لَيَهُمُّهُم أن يحصُر المسلمون أعمالهم بما لا يؤثر فيهم. ويريدون أن يكون المسلمون ومُوَجِّهوهم أدواتٍ بأيديهم، يُثَبِّتون بهم حكمهم.

          لذلك، فإن هذا الفهم الخطأ للنص يشكل خطراً على الأمَّة، إذ هو يثبِّطها ويشدُّها إلى الوراء بدل أن يدفعَها لإحداث عملية التغيير، ويحوِّلها إلى أداةٍ في يد عدوِّها تعينه على نفسها، فتصارع نفسها بدل أن تصارعه وتصرعه.

          إن التغيير لا يحصل بأعمال لا تؤدي إليه، فلا يحصل النصر بالدعاء، ولا يُهزمُ العدو بطلب العلم أو بالصلاة، ولا يؤدي عمل تحفيظ القرآن أو جمع المساعدات للفقراء أو إنشاء صفحة إسلامية على الإنترنيت أو إنشاء مدرسة أو معهد لدراسة الإسلام إلى وحدة الأمة ولا إلى إقامة الحكم بما أنزل الله ولا إلى إحياء فريضة الجهاد، ولا يدفع أيٌّ من هذا الفتنَ المتلاحقة على المسلمين في كل مكان. فمثل هذه الأعمال لها مواقيتها وقيمتها الشرعية حسب أدلتها، ولكنها لا تجزئ عن غيرها مما هو مطلوب ولا تؤدي إلى التغيير الذي أمر الله به.

          وإنه لمن العجز المذموم والتعلق بالدنيا والهروب من الحق أن يزعم المتذرعون أن هذه الأعمالَ خطوةٌ على طريق التغيير. فإن الاكتفاء بهذه الأعمال فضلاً عن جعلها بديلاً عن العمل الصحيح والهادف للتغيير، هو ضلالٌ وتضليلٌ وعاملُ تخدير للأمة، إذ يُحْكِمُ قبضة عدوِّها عليها، ويضيِّع الجهود في أعمال لا يلبث أصحابها أن يدركوا أنها صارت هي أيضاً خطاً أحمر، وأنهم ينبغي أن يحافظوا على ما تبقى مما هو دونها، حسب ذرائعهم.

          والله سبحانه وتعالى حين أمر بتغيير المنكر وإيجاد المعروف والحكم بما أنزل جعل شريعته كاملةً شاملةً لكل نواحي الحياة، وجعل لعملية التغيير طريقةً يجب اتباعها. وقد بيَّنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قام بعملية التغيير، وناله وأصحابه فيها ما نالهم من أذىً. وجاءت آيات القرآن وأعمالُ الرسول تبيِّن الأعمالَ والمواقفَ الشرعية لأجل عملية التغيير، والأعمالَ والمواقف التي يحرم اتخاذها في هذا السبيل. والحيدُ عن هذه الأحكام، وتركُ التقيُّدِ بها والقيامُ بما يخالفها فسقٌ ومناقض لمعنى قوله تعالى: (يغيِّروا ما بأنفسهم).

          إن أنظمةَ الكفر هي رأس المنكر، وإقامة سلطان الإسلام هو رأس المعروف، وهو واجب قطعي. وإقامة الخلافة هي تاج الفروض، بها تسقط أنظمة الكفر في بلاد المسلمين ويقوم سلطان الإسلام وتُحيى فريضة الجهاد ويقام بجميع الفروض ويُعَزُّ الإسلام وأهلُه. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما الإمامُ جُنَّةٌ يقاتَل من ورائه ويُتقى به» رواه مسلم. وعدم القدرة على القيام بهذا الفرض في زمن ما أو حالٍ ما يوجبُ العمل الجادَّ لتحصيل الاستطاعة وإقامته، ولو كان في ذلك مشاق وأذىً.

          وعلى ذلك، فإن قصر التغيير على بعض الأعمال، وخاصةً تلك التي لا تغير الواقع هو خطأ أكيد وواضح، بل هو انحراف خطير في الفهم ويؤدي خدماتٍ كبيرةً لأعداء الإسلام.

          وما يقدمه الضالون من الجبناء وعلماء السلاطين وذوي المنافع الخاصة من أعذار لأجل السكوت على الحكام ومنكراتهم أو الرضا بالواقع، أو لموالاة الكفار، ومن إضفاء مبررات على مداهنتهم للحكام وعلى منكراتهم كل ذلك كذب ونفاق، وليس له قيمة شرعية، وليس هو الدافع الحقيقي لمواقفهم، وما الدافع الحقيقي لذلك إلا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الوَهْن، حب الدنيا وكراهية الموت». وهو مَرَضٌ في القلب ينمو كلما ضعف الإيمان، وهو هوىً مُضِلٌّ يختم على قلب صاحبه فلا يتدبَّرُ القرآن ولا يعرف طعم الإيمان.

          إنهم يبررون انحرافهم بعجزهم وبواقع الأمة وضعف إمكاناتها وقلة خياراتها، وبقوة الكفر وحجم جموعه وعظم إمكاناته وكثرة خياراته. وكأن هذا الزعم مبرر شرعي لتغيير أحكام الشريعة وتحريفها ولموالاة الكفار ولليأس والاستسلام. وهذا المبرر كذب، وإنما الحقيقة تكمن في قوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) فهذا الفرق في ميزان القوى والإمكانات يدفع المؤمنين إلى قوة في الإيمان والثبات واللجوء إلى الله وطاعته، هكذا أخبرنا الله عن المؤمنين الذين أثنى عليهم، أما أصحاب المعاذير الذين يسارعون إلى إرضاء الكفار فهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة، وهم معولُ هدم في الأمة، وعقبة في طريق تمسكها بدينها وفي طريق التغيير الذي أمر الله تعالى به. قال تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل @ فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتَّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم @ إنما ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أولياءَه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين @ ولا يحزُنْك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألاَّ يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم).

          نعم، إنه ضعف في الإيمان، مرضٌ في القلب، يورث حب الدنيا وكراهية الموت، ويؤدي إلى حسابات دنيوية لا أثر فيها للإيمان بالغيب والصلة بالله، يَنْسَوْن فيها الله ويَضلُّون فيزيدهم ضلالاً ومرضاً. إنه الإيمان ومن زاغ عنه ضل. قال تعالى: (نسُوا الله فنسيهم)، (نسُوا الله فأنساهم أنفسهم)، (في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً)، وضعوا في الميزان قوى الكفر الكبيرة بنظرهم مقابل إيمان ضعيف، فيئسوا وقنطوا، وجعلوا يُقْنِعون أنفسهم بضلالهم ويوالون الكفار أو يضللون المسلمين والله تعالى يقول: (ولا تيأسوا من رَوْحِ الله إنه لا ييأس من رَوْحِ الله إلا القوم الكافرون)، ويقول: (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)، ويقول: (فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرةٌ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين).

          إنه لا يقوم بهذا التغيير ولا يسعى إليه أو يتَّبع طريقته من لم تكن منطقة إيمانه سالمة. وإيجادُ هذا الإيمان هو أولى خطوات هذا التغيير، وتوسيعُ دائرته في الأمة هو القوة الدافعة لإحداث التغيير.

          إن من عقيدة المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وأن الأجل بيد الله وحده، والرزق من عند الله وحده، وأن الإيمان شرط للنصر، وقد دلت مئات الآيات على هذا المعنى للإيمان وآثاره من نصر وتمكين وعِزٍّ وسكينة وطمأنينة وأمن بتوفيق من الله سبحانه وهدىً للمؤمنين. (أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوب أقفالها).

          قال تعالى: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها). وقال: (قل لن يصيبنا إلا ما كتبَ الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، وقال: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجَّلاً)، وقال: (وما من دابَّةٍ في الأرض إلا على الله رزقُها)، وقال: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، وقال: (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَفَثَ روح القدس في رُوعي أن لن تموت نفس حتى تستوفيَ رزقها وأجلها وما قُدِّر لها» هذه النصوص ـ وغيرها كثير ـ يؤمن بها كل مسلم، وعليه أن يتذكر معانيها ويستحضرها بشكل دائم ويلتزم بها في أعماله، ولو فعل ذلك فلن يكون في قلبه الوَهْن، وأول من يجب أن يتصف بهذا الإيمان حَمَلَة الدعوة، العاملون للتغيير ولإقامة حكم الله في الأرض، والدعوة إلى الإسلام. ولذلك تجب الدعوة إلى هذا الإيمان وجعله أساساً للدعوة والتذكير به. (وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

          إن المبررين لانحرافاتهم في موالاة أنظمة الكفر، أو لتغيير أحكام الإسلام بدل العمل لتغيير أنظمة الكفر، هؤلاء ساقطون في امتحان الله لما في قلوبهم، إذا قُرئ عليهم القرآن لا يتدبَّرون، وإذا ذكِّروا بآياته لا يتذكرون، ويخوِّفهم الشيطان فيخافون، لأنهم تولَّوا الشيطان ولم يتولَّوا الله سبحانه، فيخشَوْن ما يتوهمونه من عواقب ونتائج، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: (والعاقبة للمتقين)، ويقول: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

          فلا يجوز اليأس ولا الانحراف، ولا تيئيس المسلمين أو توهينهم بحجة الضعف أو بطش الحكام. فهذا ليس له قيمة شرعية، ولا يغير وجوب العمل للتغيير، ولا يغير وجوب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما قوى الكفار وكيدهم وما هو ليس بيد المسلمين أو طاقتهم فذلك موكول إلى الله عز وجل. قال تعالى: (ومن يَتَّقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكَّل على الله فهو حسبه)، وقال: (أليس الله بكافٍ عبدَه ويخوفونك بالذين من دونه)، وقال: (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا)، وقال: (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال)، وقال: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة أمرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين @ فتلك بيوتهم خاويةٌ بما ظلموا إن في ذلك لآية لقومٍ يعلمون @ وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون)، ويقول: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً ثم يُغلَبون)، ويقول: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم).

          فالذين يعرضون عن أمر الله متذرعين بالحرص على الإسلام أو بالوسطية أو الاعتدال وإن ظهروا بزي العلماء، إنما هم جبناء وعملاء ومرجعهم الوَهْن وضعف الإيمان، وهؤلاء يحكمون على أنفسهم بالشقاء في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى @ قال رب لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً @ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).

          والذين يؤمنون بالله وكتابه ويتدبرون آياته، يرون بإيمانهم ما لا تراه العيون. ويلتزمون بما يأمرهم به إيمانهم، ويثبتون على الحق وقول الحق، يجتثون به الباطل ولا يحسبون للنتائج أي حساب، وهي بيد الله وحده، هؤلاء يزيدهم الله إيماناً ويؤمِّنهم ويهديهم ويُثَبِّتُهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (الذين ءامنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)، وقال أيضاً: (ألم تَرَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء @ تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون @ ومَثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار @ يُثَبِّتُ الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء).

          إن الأذى في سبيل الله وانغلاق السبل وشدتها أمام حَمَلَة الدعوة، إنما هو ابتلاء من الله وامتحان للإيمان. قال تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) وقال: (لَتُبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)، وقال: (ألم @ أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون @ ولقد فتنّا الذين من قبلهم فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صدقوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين).

          وشتان بين الصادقين والكاذبين في الإيمان. فالصدقَ الصدقَ في الإيمان (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

          وحذارِ حذارِ من محرفي الدين وعلماء السلاطين اليائسين الذين يصورون أن استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة أمر خيالي أو بعيد، فإنما هؤلاء فتنة، ولقد نهاهم الله عن تحريف الدين حيث قال: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)، ونهاهم عن تزييف الحق وكتم العلم فقال: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)، وتوعدهم على ضلالهم فقال: (أفرأيتَ من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وخَتَمَ على سمعه وقلبه وجعل على بصره غِشاوةً فمن يهديه من بعد الله أفلا تَذَكَّرون)

محمود عبد الكريم حسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *