العدد 166 -

السنة الخامسة عشرة ذو القعدة 1421هـ – شباط 2001م

مع القرآن الكريم آية الدَّيْن

          (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا و لا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم(282))  [البقرة].

          بعد أن ذكر الله سبحانه النفقة في سبيل الله وأن لا يكون منٌّ ولا أذى فيها ولا رياء، وأن تكون من الحلال الطيب وليس من الخبيث، وبعد أن بيّن الله سبحانه الإخلاص في النفقة ابتغاء وجه الله وأجرها العظيم بالليل والنهار وفي السر وفي العلانية.

          بعد ذلك ذكر الله الربا وعظم جريمته وتحريمه الشديد وأن ليس لأهله إلا رؤوس أموالهم لا يظلمون غيرهم بالربا ولا يظلمون بذهاب رأس مالهم.

          ثم ذكر سبحانه بعد ذلك إمهال المدين والصدقة عليه بإعفائه من دينه كله أو بعضه.

          بعد ذلك ذكر الله أحكاماً تتعلق بالدين في الحضر والسفر:

          أمر الله سبحانه المؤمنين إذا تعاملوا بالدين أن يكتبوا دينهم ويشهدوا عليه رجلين أو رجلاً وامرأتين طاعة لله وحفظاً لدينهم وحثهم على ذلك مهما كان صغيراً أو كبيراً ما دام تعاملاً بالدين، ودفع عنهم الحرج إن كان بيعاً حاضراً.

          كما حرم الله سبحانه أن يؤذى الشهود أو من يكتبون الدين كأن يضغط عليهم أو يكرهوا لتغيير الوقائع وأن يلتزموا أمر الله في ذلك، ويدركوا أن الله لا تخفى عليه خافية فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة (والله بكل شيء عليم).

          (يا أيها الذين آمنوا) خطاب للمؤمنين.

          (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) إذا تعاملتم بالدين.

          و(الدَيْن) كل معاملة بيع يكون فيها أحد العوضين حاضراً والآخر غائباً، وينطبق هذا على القرض كأن تعطي رجلاً مالاً ليسدده لك فيما بعد فهذا دين كذلك، وعلى كل بيع جائز إن سلمت السلعة وأجل الثمن كدين على المشتري كما تشمل بيع السلم كذلك بأن يعجل الثمن وتسلم السلعة بعد أجل، كل ذلك يدخل تحت مدلول (الدين).

          (بدين) تأكيد إلى (إذا تداينتم) وفيه زيادة فائدة أن يرجع إليه الضمير في (فاكتبوه) فلو لم يذكر (بدين) وقيل (إذا تداينتم إلى أجل مسمى) لذكر (فاكتبوا الدين) بدل (فاكتبوه) وهنا لا يكون النظم بذلك الحسن كما في الآية الكريمة عند ذوي الذوق العارف بأساليب الكلام.

          (إلى أجل مسمى) أي إلى وقت معلوم.

          وأخرج البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: “أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أحله وأذن فيه. ثم قرأ الآية” والسلف والسلم بمعنى واحد.

          وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) قال: نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

          ونزول الآية في السلم لا يمنع أن تنطبق على كلّ دين لأن لفظ (دين) ورد في الآية مطلقاً دون قيد إلا تقييده بالأجل المسمى فكل دين في بيع السلم أو غيرها يأمر الله سبحانه بكتابته.

          (فاكتبوه) أمر من الله سبحانه بكتابته، والأمر يفيد الطلب، وقد وردت أقوال في هذه الكتابة إنها للوجوب أو الندب أو الإباحة المتضمن معنى الإرشاد، وهذه الأخيرة تعني عند قائليها أن فيها مصلحة دنيوية راجحة أي أن هذا المباح (الكتابة) أولى من غيره لحفظ الدين والابتعاد عن التنازع.

          وحيث إنَّ الأصل في الأمر (الطلب) والقرينة هي التي تعين الحكم الشرعي للوجوب أو الندب أو الإباحة، فإنه بتدبر الآية الكريمة يتبين ما يلي:

          أ‌. لا توجد قرينة تفيد الطلب الجازم من حيث ترتيب العقوبة على عدم الكتابة أو أية قرينة جازمة حسب ما هو معروف في الأصول، فلا تكون الكتابة فرضاً.

          ب. هناك قرائن تفيد ترجيح الكتابة من عدمها:

          = (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله).

          = (فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً).

          = (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله).

          = (ذلكم أقسط عند الله).

          = (وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا).

          وكل هذه تفيد أن الكتابة أرجح من عدمها.

          إلا أن بعضها يفيد أن الترجيح لمصلحة دنيوية مثل:

          (وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) فهي لقطع التنازع في الحق، وأفضل لأنها تؤكد قول الشهداء وتيسر الأمر عليهم.

          ولو اقتصرت على ذلك لأفادت الإباحة المتضمنة للإرشاد، غير أن بعضها يفيد أن الترجيح للثواب أي للندب مثل قوله سبحانه: (ذلكم أقسط عند الله).

          وهذه قرينة على أن الأمر بالكتابة هو للندب، وبالتالي يكون المعنى:

          الندب للمؤمنين أن يكتبوا الدين الواقع بينهم و المؤجل سداده إلى وقت محدد معلوم.

          أما الدين المؤجل سداده إلى وقت غير محدد فليس مندوبا كتابته بل هو على الإباحة وذلك لأمرين:

          الأول: أن الآية قيدت الدين المندوب كتابته بأجل مسمى وهو وصف مفهم فله مفهوم ويعمل به، أي أن الأمر بالكتابة على الوجه المبين في الآية لا يشمل الدين لأجل غير مسمى.

          الثاني: أن الله في الآية التالية يقول: (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته) أي أن هذه الحالة وهي أن يأتمن الدائن المدين بعضهما مستثناة من الأمر بالكتابة على الوجه المبين في الآية، بل على الإباحة إن شاء كتب وإن لم يشأ لم يكتب.

          والذي يعامل غيره بالدين ولا يحدد له أجلاً للسداد أي يقول له: أدّ إلي الدين في الوقت الذي تريد يكون داخلاً تحت قوله سبحانه: (فإن أمن بعضكم بعضاً) لأنه لا يترك للمدين سداد الدين في أي وقت يشاء إلا أن يكون مؤتمناً له.

          وهكذا تكون الآية مبينة:

          أ‌. أن الحكم الشرعي بكتابة الدين المؤقت سداده بوقت معلوم هو الندب.

          ب. والحكم الشرعي بكتابة الدين في حالة كون كل من الدائن والمدين قد ائتمنوا بعضهم بعضا، هو الإباحة إن شاءوا كتبوا وإن لم يشاءوا لم يكتبوا.

          ويدخل في ذلك الدين غير المؤقت سداده بوقت معلوم حيث إن هذا يعني أنهم قد ائتمنوا بعضهم.

          والآية لا تبين حكم تسمية الأجل لسداد الدين، فهذه تتعلق بكل حالة من حالات الدين وتدرس نصوص كلّ حالة، فمثلاً في بيع السلم فإن تعيين الأجل وتحديده شرط في صحة بيع السلم فيجب أن يكون الأجل معلوماً علماً ينفي عنه الجهالة كأن يدفع الثمن عاجلاً ويقال: تسليم السلعة ـ القمح مثلاً ـ في تاريخ كذا بتحديد ينفي الجهالة، ذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشار إليه سابقاً الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم”(1) فجعله صلى الله عليه وسلم شرطاً في بيع السلم .

ــــــــــــ

 (1)      البخاري: 2085، مسلم: 3010، النسائي: 3004، ابن ماجه: 2271.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *