العدد 165 -

السنة الخامسة عشرة شوال 1421هـ – كانون الثاني 2001م

رأي في تحويل العملات المحلية إلى ذهبية وفضية

         نشرت مجلة « الوعي» في العددين (145) و(162) مقالتين حول كيفية تحويل العملات المحلية إلى ذهبية وفضية، وهما بحثان جيدان، جزى الله كاتبيهما خيراً وزادهما حرصاً على الإسلام والمسلمين ومصالح المسلمين؛ لكنّ لي رأياً مخالفاً لهما كلياً أحببت أن أعرضه في هذه المقالة لعل الله سبحانه ينفع به.

         السندات أو القطوط التي اقترحت، ستكون، في النهاية، أوراقاً نقدية تتداول وليس لها رصيد، حتى يتم استبدالها؛ أي أننا وقعنا في نفس (المطب) الذي حاولنا الهروب منه وهو التعامل بأوراق نقدية ليس لها غطاء أو رصيد؛ ومع أن الأمر مؤقت (أي لبضع سنوات كما ذكرا)، فهذه السندات ستحمل نفس مشاكل وثغرات النظام النقدي الورقي الإلزامي، وسيصبح لها سعران: سعر رسمي فرضته الدولة عند الإصدار، وسعر يحدده السوق عند تداولها يحدده العرض والطلب وحجم التداول وغيره، وهي ستتعرض خلال الفترة الانتقالية ـ إن طالت ـ إلى التلف والضياع والكنز والتهريب إلى الخارج ربما، من أجل هز اقتصاد الدولة، ما سيوقع الدولة في متاعب لاحقة عند صرفها بالذهب والفضة حسب السعر الرسمي، لأن سعرها السوقي سيكون ـ غالباً ـ أعلى من السعر الرسمي، وسيتظلم الناس وسيوجه اللوم إلى الدولة الإسلامية (وليس النظام الكافر السابق) بسبب طول الفترة وبسبب أن هذا إجراء اتبعته الدولة بحجة عدم ظلم الناس فإذا به يتحول إلى وسيلة لسلب حقوقهم؛ ناهيك عن الصعوبة التطبيقية لهذا الاقتراح.

         الذي أظنه أن الكاتبين سارا في هذه الفكرة رغبة منهما في الحفاظ على أموال المسلمين وحقوقهم النقدية، والتعويض عما سيلحقهم من ضرر نتيجة إلغاء العملات المحلية، جزاهما الله خيراً على حرصهما، لكنّ في هذه المسألة نظراً؛ كما أنهما بهذا يحملان الدولة عبئاً مالياً كبيراً ومديداً؛ ولكن: هل سيتضرر الناس من تحويل العملات؟ وهل قلة الذهب والفضة مشكلة؟

         لقد أهملا مسألة أن النقود التي في أيدي الناس ليس لها قيمة بحد ذاتها، وسكوت الناس عليها وقبولهم بها يعني قبولهم بالضرر الذي يلحقهم منها وبعبارة أخرى، كما أن تقصيرهم في إقامة الخلافة تركٌ لحقهم في تعيين من يريدون خليفة، كذلك قبولهم لهذه العملات كمخزن للقيمة هو ترك لحقهم في المطالبة بما يفقد من قيمتها، إن حصل فقدان في ذلك.

         وللتوضيح أكثر أقول: من يتعاملون بهذه العملات معرضون دوماً لضياع جزء من «حقوقهم» النقدية، وأسوق هنا جانبين أساسين لهذه المسألة:

         1ـ الودائع في المصارف تبلغ ـ حسابياً ـ مقدار أكثر بكثير من السيولة الموجودة في المصارف، وقد تصل النسبة حتى واحد إلى خمسين؛ فعند تصفية المصارف الربوية ستواجهنا مشكلة أن لا يحصّل المودعون كل ما أودعوه وسيضيع عليهم الكثير، إلا إذا طلبنا من الدولة الإسلامية التعويض عليهم، وحمّلناها عبئاً هائلاً لم تحمله الدولة الكافرة؛ مع أن الواقع هو أن هؤلاء الناس قبلوا هذا النظام المصرفي الفاسد حين تعاملوا معه (أو على الأقل سكتوا عنه) فعليهم تحمل الخسارة التي تلحق بهم من فساد هذا النظام.

         2ـ النقود الموجودة في أيدي الناس تتعرض بشكل دائم إلى تآكل في قيمتها بما يسمونه «التضخم» الذي ينتج أساساً عن «التمويل بعجز الموازنة»، أي حين لا تكفي موارد الدولة لسد نفقاتها حسب الموازنة السنوية، تمول بقية النفقات (أي العجز) بإصدار زيادة من الأوراق النقدية، وتتفاوت النسبة، لكنها عموماً مرتفعة في البلدان المتخلفة، بلداننا. فبالإضافة إلى أنه ليس لهذه الأوراق قيمة ذاتية، ولكن قيمتها من القانون الذي أصدرها ومن قبول الناس لها، فمن يحملونها يتعرضون لسرقة يومية لقيمتها وهم ساكتون على هذا، فليس لهم المطالبة بما يفقد من قيمتها.

         والذي أراه أن لا مانع شرعاً من أن تفقد العملة المحلية جزءاً من قيمتها في الفترة الانتقالية عند التحويل؛ مع العلم أن هذه الخسارة مؤقتة (أو عابرة) كما سيظهر لاحقاً.

         وخسارة النقود جزءاً من قيمتها ـ قد يكون كبيراً ـ أمر وارد عند الانتقال من نظام إلى نظام ومن مبدأ إلى مبدأ، ولدينا أمثلة الدول الشيوعية التي قررت التحول إلى اقتصاد السوق:

         الدولة الشيوعية لم يكن لها موارد الدولة الرأسمالية (القائمة أساساً على جباية الأموال مثل الضرائب والفواتير) وحين تخلت عن ممتلكاتها للقطاع الخاص نفدت مصادر التمويل فلجأت إلى التمويل التضخمي لنفقاتها، ووصل التضخم فيها إلى نسب هائلة مثل ثلاثة آلاف بالمائة وعشرة آلاف بالمائة سنوياً، حتى إنه وصل في بعضها إلى مليون بالمائة سنوياً في بداية التسعينات، أي أن الشيء الذي كان سعره عشرة أصبح سعره العام التالي مائة ألف؛ ومرت هذه «الصدمة» النقدية، وتحملها الناس كثمنٍ للانتقال إلى اقتصاد السوق، وعاشت تلك الدول عقد التسعينات بكامله تعاني من ضغوط تضخمية.

         إيراد المثال هنا لتبيان مسألتين: إن تغيير النظام قد يحمل خسارة نقدية كبيرة؛ وأن الناس يمكن أن يتحملوا هذه الخسارة وهذه الضغوط إذا اقتنعوا بضرورتها، مثلما حصل لشعوب الدول الشيوعية بعدما تحولت إلى الرأسمالية.

         ومن ثم فإني أقترح التالي:

         يشرح للناس عند قيام الدولة الإسلامية كيف أن نظام الكفر قد سرقهم وأفقدهم قيمة العملات التي بين أيديهم؛ وأن الدولة الإسلامية ستستبدل بهذه العملات عملات (ذهبية وفضية) لا يمكن سرقتها وأن التحويل سيتم حسب القيمة «الفعلية» لهذه النقود أي حسب ما يوجد من رصيد ذهبي وفضي في خزائن الدولة.

         أما بالنسبة لودائع البنوك: تحصى الأصول السائلة وتقسم على مجموع ودائع المودعين بحيث يحصلون جميعاً جزءاً من ودائعهم (رؤوس الأموال فقط وليس الفوائد) بنسب متساوية، ويصبح مصرف الدولة هو الجهة الدائنة للمقترض من البنوك ويوزع لاحقاً على المودعين أثمان الأصول الثابتة للمصارف بعد بيعها مع ما يتم تحصيله من الديون بدون فوائدها.

         وأما بالنسبة للأوراق النقدية: يطلب من كل واحد من رعايا الدولة أن يقدم بياناً بما عنده من أوراق نقدية للدولة، وتحصى جميعها (بالإضافة إلى ما هو موجود في خزائن المصارف التجارية والمركزية)، ويحصى ما عند الدولة من ذهب وفضة (خاصة الفضة) قابلة للسك؛ وعند توفر المسكوكات (وهذا يجب أن يتم بأسرع ما يمكن)، يوزع هذا على ذاك، بحيث إنه إذا فقد شخص ما نسبة من قيمة نقوده فسيفقد كل الناس من قيمة نقودهم بنفس النسبة مقارنة بالذهب والفضة وليس ببقية الأسعار، فمثلاً بدلاً من أن يكون درهم الفضة (أي 2.975 غرام) بعشرين يمكن أن يصبح بمائتين، أي بانخفاض في العملة تجاه الفضة قدره قدره ألف بالمائة، لكن هذا الانخفاض لن يلمس كثيراً داخلياً لأنه سيبقى هناك تناسب في الأسعار، أسعار السلع والخدمات وبالتالي لن تختلف كثيراً أسعار الثياب والغذاء والمساكن وأجور العمال والمواد المنتجة محلياً، لأنها كلها ستنخفض أمام الذهب والفضة بنفس النسبة؛ فمن كانت ملايينه العشرة تشتري خمسة منازل، سيبقى بإمكانه بدنانيره الألف مثلاً (التي حصّلها عند الاستبدال) شراء هذه المنازل نفسها، مع أن الملايين العشرة كانت تشتري ـ قبل قيام الدولة ـ أكثر بكثير من ألف دينار (4250 غرام) من الذهب.

         وسيظهر الانخفاض في قيمة العملات من جهتين:

         الأولى: القدرة الشرائية للذهب والفضة سترتفع كثيراً، ما سيخرج الذهب والفضة المكنوزين، وستنزل الحلي إلى السوق (خاصة الفضة) من أجل الاستفادة من غلائها، ما سيزيد تلقائياً من كمية الذهب والفضة وبالتالي سيحل جزءاً من أزمة نقص الذهب والفضة (ويمكن هنا للدولة أن تشتري الذهب المصوغ بالفضة المسكوكة والفضة المصوغة بالذهب المسكوك بشيء من الخسارة أي بشيء من الربح لحامل المصوغ، تشجيعاً لرعايا الدولة على إخراج المكنوز والمصوغ إلى التبادل ويمكن هنا اللجوء إلى القطوط).

         الثانية: ستصبح أسعار السلع والخدمات في الخارج ـ وبالتالي المستوردة ـ مرتفعة جداً جداً، ورغم أننا بلاد مستوردة لأكثر أمورها، لكن لهذا الأمر إن أحسنت إدارته فوائد مثل:

 1ـ      سينخفض استيراد الكماليات وسيقتصر ـ بتوجيه من الدولة ـ على الحاجات ولوازم تأمين الاستقلال عن الخارج.

 2ـ      سيتم الحفاظ على العملة المحلية، ولن تتسرب إلى الخارج، بل على العكس من ذلك تماماً، فبما أن الدولة الإسلامية تمتلك عملات ذاتية القيمة أي أنها سلعة بحد ذاتها فهذا سينشط الاقتصاد.

         نحن لا نتكلم هنا عن دينار كويتي أو ين ياباني أو حتى دولار أميركي لكي يحدث ما يسمونه في الاقتصاد الغربي deflation(1) وذلك حين تنخفض الأسعار وترتفع العملة فيشل الاقتصاد، بل نتكلم عن ذهب وفضة وبالتالي فانخفاض الأسعار في الداخل سيجعل الذهب والفضة ضمن الدولة مرتفعَيِ السعر جداً لندرتهما، وبالتالي سيزداد عرضهما في الداخل لأن السوق مفتوحة والحدود مفتوحة أمام السلع والعملات والخدمات والأجراء فسيحصل توازن تلقائي.

         بتعبير آخر، لا تهم كثيراً كمية النقود الموجودة ضمن الدولة، المهم أن لا يكون هناك قيود على حركة السلع والأموال والخدمات والأجراء، فعند رفع القيود يملك النظام النقدي المعدني (الذهب والفضة) خاصية التوازن التلقائي، فعند زيادة النقد سيخرجان وعند قلته سيدخلان، كأثمان جهود وسلع، وفي الحالة التي ذكرت عند قيام الدولة الإسلامية، سيرتفع سعر الفضة مثلاً بمقدار ألف بالمائة (وأركز على الفضة لأنها متوفرة أكثر من الذهب وبها تؤمن الحاجات اليومية للناس لانخفاض قيمتها مقارنة بالذهب) وبالتالي سيزداد إدخال الفضة إلى البلاد لبيعها فيها؛ وبما أنها هي النقد، فلن تباع إلا بالسلع والخدمات أي ستحدث حركة تصدير كثيفة إلى الخارج لكل ما يمكن أن يصدر، حتى الرمال يمكن أن تصدر، وسيستمر هذا إلى أن يحدث التوازن، أي حتى تدخل إلى البلاد كمية من الذهب والفضة بنفس القدر الذي خسره الناس ـ تقريباً ـ من قيمة نقودهم عندما تم استبدال الذهب والفضة بها، ومن ثم سيتم تعويض الناس قيمة نقودهم حين تصبح كمية الذهب والفضة ضمن الدولة مناسبة لحجم اقتصادها.

         وسيتلقى الاقتصاد دفعة هائلة لتحريكه بسبب انصباب الأموال من الخارج بكميات كبيرة، ما سيخلق فرص عمل كثيرة وسيتم تجاوز الركود وسيرتفع عبء كبير عن الدولة في الفترة الأولى وستتعزز ثقة الأفراد بالدولة، وستكون فترة ذهبية لا بد من استغلالها بالشكل الأمثل والاستفادة القصوى من هذه الأموال المتدفقة لتمويل المشاريع الكثيرة المطلوب إقامتها والمحتاجة للتمويل، فعلى الدولة أن تعمل وتشجع الأفراد على التالي:

         1ـ إحياء الأراضي الموات واستغلال الأراضي الزراعية بشكل كبير وزراعة المحاصيل الاستراتيجية.

         2ـ إقامة الصناعات العالية الجودة من أجل التخفيف ما أمكن من الاستيراد ولتحقيق الاستقلال عن الخارج، وليس إقامة الصناعات التصديرية لأن حركة التصدير الكثيفة ستكون فورة وتنتهي بالإضافة إلى أن سياسة الدولة تقوم على تحقيق الاكتفاء وليس الاعتماد على التصدير.

         3ـ رفع الأهلية العلمية والتقنية.

         4ـ التركيز على تحسين وسائل النقل والمواصلات لتيسير انتقال السلع والخدمات وبالتالي توزع المال في كل أنحاء البلاد.

         وباختصار، فإن قلة الذهب والفضة ضمن الدولة ربما لا تكون عاملاً سلبياً، بل أمر إيجابي قد يفيد الدولة كثيراً، لا سيما أن الدولة الإسلامية ستكون أول دولة في العالم تعود إلى نظام الذهب والفضة، وهي تريد أن تكون رائدة دول العالم في هذا لكي تقتدي بها من أجل مواجهة الهيمنة المالية للدول الاستعمارية خاصة هيمنة الدولار؛ ودعوة بقية الدول لتبني نظام الذهب والفضة لن تكون فقط بالبيان والشرح والإعلام، بل تكون أيضاً بإظهار فوائد هذا النظام عند تطبيقه عملياً وبأسرع وقت ممكن. وقد تتخذ الدولة إجراءات عملية ترغم بعض الدول على التفكير جدياً بتبني هذا النظام مثل منع تداول العملات المحلية للدول المحيطة بالدولة الإسلامية ضمن الدولة، وهذا سيؤدي إلى التبادل مع تجار هذه الدول بالذهب والفضة؛ وسيظهر لرعايا هذه الدول هشاشة النظام النقدي لدولهم وقد يتحولون إلى ادخار أموالهم بالذهب والفضة (وربما في مصرف الدولة الإسلامية) بدلاً من ادخارها في المصارف الربوية أو بالأسهم أو بالعملات المحلية أو حتى بالعملات الصعبة.

         وقد تواجهنا عند تطبيق هذا النظام مشكلتان، إذ عند قيام نظام نقدي ذاتي القيمة، سيظهر للناس عموماً وللمسلمين خصوصاً كيف أن حقوقهم النقدية ضائعة في دار الكفر، وستظهر ثغرات الأنظمة القائمة ـ نقدية وغير نقدية ـ وستقوم تلك الأنظمة، إن لم تتهاوَ تحت ضربات شعوبها، بمحاربة الدولة الإسلامية ونظامها النقدي الجديد لما يشكله من خطر وذلك بأسلوبين:

         1ـ بالدعاية والإعلام، خاصة بنشر فكرة أن دولة الخلافة قد سرقت قيمة عملات الناس، وهذه التعامل معها سهل.

         2ـ بالحصار ومنع خروج الفضة والذهب إلى الدولة الإسلامية. ولكن تجار تلك الدول (والتاجر همه الربح) سيعملون بالخفاء وعن طريق التهريب وغيره من أجل إدخال الذهب والفضة إلى دار الإسلام، ولا سيما أن دار الإسلام تشجع ذلك. وهذا الحصار إن حصل يمكن أن يفيدنا حين يطيل الفترة اللازمة لحصول التوازن وبالتالي سيطيل فترة الانتعاش الاقتصادي للدولة الإسلامية الناشئة.

         المقالتان المذكورتان، انطلقتا حسب رأيي من نظرة متأثرة بضغط الواقع بينما الأصل أن يغير الواقع تغييراً انقلابياً شاملاً، فورياً ما أمكن، أما حفظ الدولة وضمان استمراريتها فإنه يحدث عند تطبيق دين الله عز وجل كاملاً مع إخلاص النية لله، وقد تكفل جل وعلا بحفظ دينه وعباده وقال جل من قائل: (يا أيها النبيُّ حسبُكَ اللهُ ومَن اتبعكَ مِن المؤمنينَ) أي أن الله جل وعلا يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين.

         إن قوة الإسلام ـ عقيدةً وشريعةً ـ تكمن في بساطته وقدرته على حل أعقد المشاكل بيسر وسهولة، وكلما تعقدت الحلول كانت أبعد عن روح الإسلام. والحمد لله رب العالمين .

محمد الشامي

ــــــــــــ

(1) انكماش اقتصادي أي نقص في حجم العملة المتداولة يفضي إلى انخفاض عام في الأسعار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *