العدد 165 -

السنة الخامسة عشرة شوال 1421هـ – كانون الثاني 2001م

مع القرآن الكريم الرِّبا جريمة كبرى (3)

         (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون (279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)[البقرة].

         ففي الجاهلية وقبل مجيء الإسلام كان المرابون يستعملون الربا في استرقاق الناس، فقد كان المرابي يزيد الدين بزيادة الأجل حتى يؤدي بالمدين إلى عدم القدرة على السداد فيكون الحل أن يبيع المدين نفسه للدائن لسداد دينه ويصبح رقيقاً يباع ويشترى ويمتهن، وكان أصحاب الأموال يستعملونها لزيادة رقيقهم والهيمنة على الأماكن التي فيها يحلون، بالإضافة إلى وسائلهم الأخرى التي ليس هذا مجال بحثها.

         فكان الربا وسيلة من وسائل استرقاق الناس وامتصاص دمائهم والهيمنة عليهم.

         وعلى الرغم من تطور المجتمعات على مر السنين حتى أيامنا هذه إلا أن هذه الصفة بقيت ملازمة للربا حيث حل استعباد الناس واسترقاقهم والهيمنة عليهم مع تنوع الوسائل والأساليب.

         فقد أصبحت له في عصرنا كيانات ومؤسسات نشرته انتشاراً فظيعاً حتى لا تكاد تخلو منطقة ذات شأن من بنك أو مؤسسة مالية أو مصرف مالي قائم في مركزه وفروعه على الربا، وكأن واقعنا اليوم هو ما ينطق به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكل الربا أصابه غباره»(1) أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

         لقد ربط الغرب الرأسمالي معظم بلاد العالم إن لم يكن كلها، ربطها اقتصادياً بعجلة البنوك الرئيسة في بلاد الغرب إما مباشرة مع بنوكه الرسمية أو غير مباشرة مع البنك الدولي والصندوق الدولي، وجعل النظام الربوي عصب تلك البلاد في بنوكها المركزية والبنوك التجارية الأخرى، ثم رسم سياسات مع المتنفذين في تلك البلاد تربطهم بالقروض مع تلك الدول الرأسمالية وتكون تلك أولى خطوات الانهيار الاقتصادي في تلك البلاد حيث خطوات تراكم الزيادات الربوية على القروض بحساب مركب حتى تصبح تفوق رأسمال القرض ذات أضعاف مضاعفة وعندها يصبح البلد قد وقع فريسة في يد الغرب يتعاون هو وعملاؤه لامتصاص ثروات تلك البلدان بطريقة تبقيه يتحرك حركة المذبوح.

         وبعدها تأتي الخطوة الثانية بأن يتولى المهمة صندوق النقد الدولي لتصحيح الاقتصاد وتبدأ وصفاته بإرهاق الناس بالرسوم والضرائب وارتفاع الأسعار، كلّ هذا العناء ليحصل البلد الواقع في المصيدة على شهادة حسن سلوك اقتصادي يستطيع من خلالها أن يؤجل سداد الديون الأصلية بأخذ ديون أخرى مع ربا جديد، أي أن هذا الخضوع لسياسة الصندوق القاتلة المرهقة ليس إلا مقابل تأجيل سداد الديون إلى آجال قادمة مع إضافة ديون جديدة.

         إن هذه السياسة الخبيثة الربوية هي لاسترقاق البلاد و العباد و الهيمنة عليها بتسميات أخفّ وقعاً مثل سياسة التصحيح الاقتصادي بدل اسمها الحقيقي تسريع الانهيار الاقتصادي، كما أبدلوا اسم الربا ووضعوا مكانه اسماً أخف وقعاً قالوا عنه (الفائدة).

         هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فإن تلك الدول الرأسمالية وبنوكها وشركاتها التجارية تستعمل الإغراء والتهديد لتجعل البلدان الأخرى تضع أموالها التي تجنيها من ثرواتها في بنوك الغرب الرأسمالي لتسير عجلة اقتصاده بأقصى سرعة بأموال تلك البلدان ثم إذا شذت تلك البلدان عن الطوق جمدت أموالها وتحكمت في امتصاص دماء تلك البلدان بأموالهم كما صنعت مع عدد من البلدان المعروفة في هذه الحقبة.

         وعلى الرغم من عدم ذكرنا لتأثير القروض الربوية على الأفراد فإن ذلك لا يعني قلة هذا الأثر، فأخذ الأفراد للقروض الربوية يجعلهم في دوامة، فالربا يتضاعف على القرض ورأسماله ثابت ويبقى ثقل سداد الدين ورباه يضغط على الشخص وبخاصة إن كان غير ميسور الحال ـ وهم الغالبية ـ حتى يجعله في مأساة السجون وضيق العيش.

         هذا عن الأثر المباشر للربا من حيث إثقال كاهل البلاد بالديون والربا عليها، ومن حيث تجميد أموال من شبّ عن الطوق من تلك البلدان.

         أما عن الأثر غير المباشر فهو مدعاة لأن تستثمر تلك البنوك أموالها بأية وسيلة أو رذيلة لتتمكن من جني أرباح للبنك ذاته وليعطى جزء منه ربا لأصحاب الأموال، وهذا يفسر تلك السوق الرائجة لتجارة الفساد بأنواعه في الغرب الرأسمالي والسائرين في ركابه.

         ومن جهة أخرى ما يؤديه من تخدير لأصحاب الأموال لاعتمادهم على ما يأخذونه عليها من ربا دون أن يستثمروها بمباشرة منهم في مشاريع تنفع البلاد والعباد وتنتج له ربحاً حلالاً طيباً.

         إننا لم نتعرض بالتفصيل لكل الأهداف الخبيثة وراء إنشاء هذا النظام الرأسمالي الربوي الذي أصبح له دور كبير في بلاد المسلمين وكذلك لم نتعرض بالتفصيل للرؤوس الماكرة المهيمنة عليه حاليا من طبقات كافرة يهودية ورأسمالية ولا للسياسات الاقتصادية الربوية الماكرة المرسومة لبلاد المسلمين أو مؤامرات البنك الدولي وسياسات صندوق النقد الدولي التي لم تسلم منها بلاد المسلمين فحسب بل كلّ من وقع في مصيدتهما من الدول الأخرى، لم نتطرق لكل ذلك فهذا ليس مكان تفصيله، ولكننا قصدنا بما بيناه من أمور قليلة عن خطورة هذا النظام الربوي أن يدرك المرء شيئا من معاني كون الربا حرب على الله ورسوله وكونه أشد فتكاً في المجتمعات من آفة الزنا على عظم سوئها وفحشائها.

         وإن الأمم لن تشعر بالسعادة الاقتصادية ولا بالاستقرار الاقتصادي ما دام النظام الربوي يتحكم بحياتها الاقتصادية.

         وهنا قد يقولون إن العلاقات الاقتصادية متحركة بين الناس، ففيهم الغني صاحب المال الوفير فإن لم يجد بنكاً يحفظ له ماله ويعطيه ربا عليه فإن أمواله ستبقى معطلة غير منتجة معرضة للضياع سدىً، هذا من ناحية.

         ومن ناحية أخرى، فإن منهم الفقراء أو ذوي حاجة عليهم دين لا يستطيعون سداده، فوجود البنوك الربوية قد تساعدهم لسداد ديونهم عاجلاً مقابل قرض ربوي للبنك يسدد آجلاً.

         وقد يحتاج هؤلاء الأشخاص إلى بعض الأمور ولا يكون لديهم مال، فبالاقتراض من البنك يستطيعون تسيير أمورهم الحياتية العاجلة ويسدد القرض على أقساط آجلة.

         فكيف يمكن أن تحل تلك المشاكل دون الإبقاء على النظام الاقتصادي الربوي الحالي؟

         أما حلّ هذه المشاكل فقد بينها الإسلام بياناً شافياً يجعل الإنسان يشعر بالطمأنينة الاقتصادية في جميع مناحي الحياة وينتفع بالثروات انتفاعاً يضمن العيش السليم ورغد العيش دون استعباد العباد أو إفساد البلاد.

         فهو نظام من لدن لطيف خبير حكيم عليم، يعلم ما يصلح مخلوقاته وما يسعدهم في الدنيا والآخرة.

         أما كيف يعالجها، فهذا بيانه:

  1. لقد حرم الإسلام كنز المال، وكنز المال هو جمعه لغير حاجة بل يجب تشغيله في مشاريع صناعية أو زراعية أو تجارية أو أي وصف آخر يقره الشرع حتى تبقى الثروة متداولة متحركة نشطة في المجتمع ينتفع بدخلها صاحبها والعاملون فيها والفقراء من زكاة وباقي الأصناف، وينتفع المجتمع بعامة من مشاريعها.

         وبالتالي فتخزين الثروة لغير حاجة أي كنزها دون تشغيلها في مشاريع هو حرام في الإسلام (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة/ آية34 هذا عن أحوال الأغنياء.

  1. أما من هم في فقر وحاجة:

         أ. فقد حثّ الإسلام على إعطاء القرض بدون ربا وجعل أجر قرض مرتين كصدقة: «قرض مرتين يعدل صدقة مرة»(2) أخرجه البزار عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

         ب. إن كان مديناً وقد أعسر فلا يستطيع السداد فقد أوجب الإسلام إمهاله (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) وتندب الصدقة عليه بإعفائه من الدين كله أو بعضه (وأن تصدقوا خير لكم).

         ج. جعل للمدين نصيبا في بيت المال من الزكاة لسداد دينه (إنما الصدقات للفقراء والمساكين… والغارمين).

         د. أباح العمل ويسر أحكامه وحث عليه وأوجبه على من كان في حاجة (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) ، «إن من الذنوب ما لا يكفرها إلا الهموم في طلب الرزق»(3).

  1. ثم يأتي دور الدولة:

         أ. فهي التي تتولى سداد الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية من مأكل وملبس ومسكن سواء من دخله الذي يأتيه من عمل أو من إنفاق من يجب عليه نفقته أو إن لم يكن هذا ولا ذاك فمن بيت مال المسلمين:  «السلطان ولي من لا ولي له»(4).

         ب. ثم هي تتولى الملكية العامة من معادن في باطن الأرض كالذهب والحديد والنحاس والبوتاس والفوسفات وغيرها من معادن صلبة أو سائلة كالبترول أو غازية، وتوصل هذه الأموال لأفراد المسلمين كلهم.

         ج. وهي تتولى ملكية الدولة من خراج وجزية وغنائم وغيرها وتعطي منها الفقراء دون الأغنياء (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر/ آية7.

         د. ثم هي تتولى إقراض أصحاب المشاريع بدون ربا أو هبات للمزارعين كما تمّ في عصر الخلفاء الراشدين فتساعدهم على العيش الطيب الكريم.

         هـ. وتتولى الدولة فرض الضرائب على أغنياء المسلمين لسدّ حاجة الفقراء وما أوجبه الله على المسلمين إن لم يكن في بيت المال مال.

         ـ فإذا كان الغني يحرم عليه كنز ماله بل تشغيله في مشاريع هو يتولاها بعمله وعرقه لينتفع بها الناس من حيث العمل فيها والأثر الاقتصادي على المجتمع، وينتفع بزكاتها الفقراء والمساكين وباقي أصنافهم.

         ـ وإذا كان الفقير تسد حاجاته الأساسية بالعمل أو إنفاق الولي أو نفقة الدولة من بيت المال.

         ـ وإذا كان المدين يمهل للسداد أو يعفى من دينه بعضه أو كله.

         ـ وإذا كان يقرض صاحب المشروع دون ربا أو يوهب هبة.

         ـ ثم إذا كانت الدولة توزع الملكية العامة وهي كثيرة على المسلمين، وتعطي من ملكية الدولة للفقراء دون الأغنياء كي لا تتداول الثروة عند فئة من الأمة ـ الأغنياء ـ دون غيرها.

         بل إن الإسلام لم يترك سد الحاجة للمغامرة والتوقعات، فقد أوجب فرض ضريبة على أغنياء المسلمين لسد حاجة الفقراء الأساسية والجهاد وكل ما كان واجباً على المسلمين وبيت المال إن لم يكف بيت المال.

         أبعد هذا يمكن أن يقال كيف يتصرف بأموال الأغنياء أو تسد حاجة الفقراء إن لم يكن هناك ربا ومرابون يستثمرون أموال الأغنياء بالربا ويقرضون الفقراء بالربا؟

         إن المشكلة أن الأنظمة السائدة في عالمنا اليوم خلال هذا القرن العشرين هي أنظمةٌ بشريةٌ رأسماليةٌ أو اشتراكيةٌ قميئةٌ قبيحةٌ سيئةُ السمعة.

         أطلقت بعضها ـ الرأسمالية ـ العنان للملكية الخاصة ولم تعترف بغيرها وجعلتها تحوز المال بأية وسيلة هابطة رديئة تحطم القيم وتدمر المجتمع، وجعلوا عصب حياتهم الربا فانتفخت بطون أصحاب الشركات وبيوت المال وهيمنت حتى على الحكم ومناحي الحياة واستعبدت البلاد والعباد ممن ساروا في فلكها واستنوا سنتها.

         ومنع بعضها ـ الاشتراكية ـ الملكية عموماً وحصرتها في الدولة، فنقلت حفنة الجشعين المنتفخين من الشركات إلى الحكام ورؤساء الأحزاب الحاكمة فامتصوا خيرات الناس وعاثوا في الأرض الفساد من خلال هذا النظام الاقتصادي العفن.

         فأين هذا من نظام وضعه رب العالمين فردّ الأمور إلى نصابها ووضعها في الموضع الذي يجب أن تكون فيه؟… فالخالق هو سبحانه الذي يعلم ما فيه خير مخلوقاته:

         ـ فكانت الملكية الخاصة.

         ـ وكانت الملكية العامة.

         ـ وكانت ملكية الدولة.

         كلها تسير في انتظام حسب أحكام الشرع دون أن تطغى واحدة على أخرى أو تتجاوز حدها، في نظام عادل من حكيم خبير، ينفق فيه المال حلالاً طيباً.

         ـ يؤدى منه فرض الله سبحانه و فرض رسوله صلى الله عليه وسلم.

         ـ ويؤدى منه فرض نفقة المرء ومن يعول من أهله.

         ـ ويتصدق به فوق القرض إحساناً على الفقراء والمساكين وذوي الحاجة.

         ـ وينفق منه في كلّ ذلك في غير فساد ولا إفساد (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) القصص/ آية77.

         نظام اقتصادي يورث السعادة لبني البشر ويجعل الحياة الدنيا طريقاً حلوةً ممتعةً لنعيم الآخرة، لا جشعٌ فيها ولا رباً ولا استغلالٌ، بل تكون رغداً حلالاً طيباً من العيش، سلاماً مع الله وأمناً بطاعته سبحانه وطاعة رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا حرباً مع الله ورسوله وولوغاً في الجريمة والفحشاء.

هذا هو الحق وليس بعد الحق إلا الضلال والحمد لله رب العالمين q

ـــــــــــــ

 (1)   النسائي: 4379، أبو داود: 2893، ابن ماجه: 2269، أحمد: 2/494.

 (2)   تفسير الطبري: 16/25، 17/85، تفسير القرطبي:  3/359.

 (3)   المبسوط للسرخسي: 30/258، كتاب الكسب لمحمد بن الحسن.

 (4)   أحمد: 6/47، 165، الموطأ: 1053.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *