تحـرّي الـرأي الـصـواب
2000/11/11م
المقالات
2,034 زيارة
الرأي لغةً من الرؤية، وتحصل إما بواسطة العين المبصرة وهو النظر، وإما بواسطة القلب ـ العقل ـ وهو العلم والمعرفة؛ وفي الحالة الأولى يتعدى الفعل لمفعول واحد مثل رأيته رأي العين، وفي الثانية يتعدى لمفعولين مثل رأيت زيداً حليماً، أي علمته حليماً بمعنى رأيي به أنه حليم، وما يعنينا في الموضوع هو المعنى الثاني.
وواقع الرأي أنه حكم الإنسان على الأشياء أو الأفعال أو الأفكار، ويتم التوصل إليه عن طريق العقل بعد عملية فكرية، ويعبّر عنه بالقول أو الكتابة أو الإشارة، وهو أي الرأي إنشاء من عند قائله يأتي به من داخل نفسه، فيدل على وجهة نظر قائله أو اعتقاده ومدى فهمه وإدراكه للمسألة أو الموضوع المعين، ولذلك فإن الرأي أمر شخصي لا ينفك عن قائله، فنقول رأي فلان أو رأيي أو رأي الحزب أو رأي الجماعة الفلانية؛ وهو فكر إن كان له واقع في الحس، وهراء إذا لم يكن له واقع في الحس وبُني على أوهام وتخيلات وافتراضات وترّهات لا أساس لها.
===========================================
وهذا الفكر يتوصل إليه صاحبه من خلال معلوماته وقوة الربط التي وهبها الله له فيكشف عن شخصية قائله وعن عقليته قوة وضعفاً. فإذا ما تكلم الإنسان فسرعان ما تنكشف شخصيته، فإما أن تكون شخصية تافهة ضحلة، خاوية كالبيت الخرب، فارغة كالطبل الأجوف، وإما أن تكون مبدعة عامرة بالمعارف والمعلومات كالبحر الزاخر، لذلك قيل: «مقتل المرء بين فكيه».
إن سلطان الفكر على الإنسان لا يفوقه سلطان؛ وهو أشد وأكثر وقعاً من سلطان السيف؛ وهذا آتٍ من كون الفكر هو السلطان إلى العقل الذي رفع به الله الإنسان على سائر مخلوقاته، فبالفكر يسمو الإنسان ويرتفع بين الناس ويصل إلى أعلى مراتب الكمال، وبدونه ينحط لدرك الحيوان.
وحين أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله بالفكر، القرآن والسنة، وحين بعث سائر الأنبياء والرسل خاطبهم عن طريق العقل وأرسلهم بالفكر، وإن كانت معجزاتهم مادية؛ وحين خلق الله آدم ـ الإنسان الأول ـ فضّله على الملائكة بالفكر، فعلَّم آدم عليه السلام من مقومات التفكير ما لم يعلّمه للملائكة، قال تعالى: (قال يآدمُ أنبئهمْ بأسمائهمْ فلما أنبئهم بأسمائهمْ قالَ أَلم أَقُل لكمْ إِنّي أعلمُ غيبَ السمواتِ والأرضِ وأَعلمُ ما تبدونَ وما كنتمْ تكتمونَ) الآية، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له.
وقد أقام أبو القاسم صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام وكيانه بالفكر، ولم يتمكن المنافقون وأعوانهم من نصارى الغرب واليهود وأعداء الإسلام والمسلمين، لم يتمكنوا من هدم الخـلافة والقضاء عليها، بل وإزالة كل أثر لها، حتى في أذهان الناس إلا بعد أن انحط الفكر وابتعد المسلمون عن إسلامهم، وستقوم الخـلافة الراشدة قريباً بإذن الله على أساس التفكير، فالفكر أولاً وقبل كل شيء، ثم تأتي باقي الأشياء في حياة الإنسان كنتائج له، فيأتي إشباع الغرائز والحاجات المادية والمعنوية والروحية، وبزوال الفكر يزول كل شيء.
وتختلف أهمية الرأي باختلاف موضوعه واختلاف قائله، فالرأي في الأفكار الأساسية كالعقيدة مثلاً يختلف أهمية عنه في الأفكار الفرعية؛ والرأي في السياسة يختلف عنه في التاريخ، والرأي في ساحة القتال مع الأعداء يختلف عنه في المناورة العسكرية، وهكذا…
والإنسان بطبعه يحرص كل الحرص أن يصل للرأي الصواب في كل ما يفعل من أمور حياته؛ عظيمها ودقيقها، ويزداد حرصه وتزداد أهمية ذلك تبعاً لاختلاف موقعه بين الجماعة التي يعيش فيها؛ إذ إن مسئولية الجندي تختلف عن مسئولية القائد، ومسئولية رئيس الدولة تختلف عن مسئولية عامة الرعية، ومسئولية أمير المؤمنين تختلف عن مسئولية رب الأسرة، فرب الأسرة لا يكاد يتعدى تأثير رأيه أفراد أسرته، بينما تتأثر الأمة بأسرها برأي أمير المؤمنين حين يرعى الشؤون، وقد يمتد التأثير قروناً للأجيال اللاحقة.
ورأي المسئول أكثر أهمية ممن هو خارج المسئولية، وصدق الإمام علي كرّم الله وجهه حين قال في إحدى خطبه: «لا رأي لمن لا يطاع»، فبالرأي تُرعى الشؤون وتُساس الأمم وتُقاد الجيوش وتُدار المعارك، وبالرأي يقود أمير الحزب سائر الشباب قيادة فكرية، كما ويسعى الشباب به لقيادة الأمة من أجل نهضتها لاستئناف حياتها الإسلامية وحمل رسالتها إلى العالم.
من كل ذلك فإنه من الطبيعي أن يتساءل المرء، خاصة حامل الدعوة، أي حامل الأفكار للناس، يتساءل عن كيفية الوصول إلى الرأي الصواب وأن يسعى ويجدّ كل الجدّ للوصول إلى كل ما من شأنه تحقيق ذلك.
فمن أراد صواب الرأي في موضوع أو مسألة من المسائل عليه أن يتحراه في واحد أو أكثر من الأمور التالية:
أولاً:ـ استناد الرأي لدليله الصحيح على الوجه الصحيح.
ثانياً:ـ مطابقة الرأي للواقع المحسوس.
ثالثاً:ـ الشورى، بأخذ رأي الآخرين.
رابعاً:ـ الابتعاد عن الهوى.
هذه هي الأمور الأربعة التي يلزم ملاحظتها لكل من يبحث عن الرأي الصواب.
أما الدليل، فإنه لغةً كل ما يستدل به أو الدالّ، وجمعه أدلة، وهو من دلّ على الشيء بمعنى سدّده أو أرشده إليه، فيُقال دللت عليه بهذا الطريق أي عرفته بها، فسُمّيت الطريق دليلة.
فالدَّلالة معناها ما يتوصل به إلى معرفة الشيء كدلالة الألفاظ على المعاني والإرشادات والكتابة والرموز على مدلولاتها، سواءٌ أحصل ذلك بقصد أم بغير قصد كمن يرى حركة الإنسان فيستدل أنه حي، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (ما دلَّهم على موتِهِ إِلاّ دابَّةُ الأرض)، وفي حديث علي كرّم الله وجهه في وصفه للصحابة قال: «ويخرجون من عنده أدلة» أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد علموا فيدلون الناس عليه، أي يخرجون من عنده فقهاء يعلمون الناس. هذا هو معنى الدليل لغةً، ولا تخرج جميع المعاني الاصطلاحية عن هذا المعنى إذا أُخذ الاصطلاح بعين الاعتبار، فالدليل كل ما يرشد إلى شيء آخر.
وعلاقة الرأي بالدليل آتية من كونه يرشد إليه، أي يصلح أساساً للرأي الذي يعبر عن فكر، أما إذا استند إلى تصورات الرائي وأوهامه فلا قيمة للرأي ويسقط عن درجة الاعتبار، لأن العبرة بالرأي الذي يستند إلى دليل. ومن نافلة القول أن المفكر أو حامل الدعوة يعمد دائماً إلى الإتيان بالدليل أولاً ثم يليه الرأي المرشد إليه، ولذلك تختلف الآراء باختلاف أدلتها وتتطابق بتطابقها. فإذا اختلف القائل والمستمع على الدليل فإن اختلافهما على الرأي من باب أولى. وما اختلاف آراء المجتهدين والفقهاء والعلماء والمفكرين إلا من هذا الباب. فاختلاف الأدلة يتبعه اختلاف في الآراء قطعاً، فليس من الممكن مثلاً أن يتفق القائل والسامع على رأي مستنبط من حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه إذا اختلفا في قبول الحديث. فمن أراد جمع الناس على رأي واحد عليه أن يوحدهم على دليل واحد أولاً وقبل كل شيء. لذلك كانت الأدلة على الأنبياء والرسل قطعية في دلالتها بحيث لا تترك مجالاً لعاقل في التردد بقبولها والتسليم بها، اللهم إلا المستكبر الذي لا ينصاع لكلمة الحق.
والناظر في الأدلة يجد أنها تختلف باختلاف المستدل والمخاطب وموضوع البحث، فمثلاً عالم الأصول يبحث عن الأدلة التي تتصل بالوحي والفقيه يبحث عن الأدلة التفصيلية، واللغوي عما قالته العرب الأقحاح والمؤرخ عن الآثار والرواية والسياسي عن الأسباب الكامنة وراء الأحداث الجارية… وهكذا.
أما المخاطب بالدليل، فيجب أولاً أن يخاطب بما يقدر على فهمه وإدراكه، إذ كيف نقيم الحجة عليه بدليل لا يسعه استيعابه؛ روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم» وزاد أبو نعيم في مستخرجه «ودعوا ما ينكرون واتركوا ما يشتبه عليهم فهمه».
كما يختلف الدليل باختلاف حال المخاطب إن كان منكراً له أو مقراً به، فإذا كان منكراً كحال الكافر مثلاً فمن العبث مخاطبته بأدلة الأحكام قبل أدلة العقيدة إذا أريد إقناعه بصحة الإسلام وأحكامه؛ أما المسلم المقر بالدليل فيكفي معه بيان صحة الدليل حتى يقبل الرأي الذي يستند إليه.
أما موضوع البحث فإذا كان من العلوم النقلية فإن دليله يختلف عما لو كان من العلوم العقلية؛ ولا يكون دليل النقليات عقلياً ولا العقليات نقلياً، فلا نبحث عن علاج مرض في كتب الفقه ولا عن نواصب الفعل المضارع في المختبر، وقد يتطلب الدليل القطع في بعض المعارف ولا يتطلبه في بعضها بل تكفيه غلبة الظن؛ فالعقيدة والعلوم العقلية والتجريبية لا بد وأن يكون الدليل عليها عقلياً أو ما ثبت أصله بالعقل، أما النقليات كأدلة الأحكام والسياسة والتاريخ واللغة فيكفي بها غلبة الظن، وهذا بسبب اختلاف المعارف وظروف الحياة وأحوالها وأهمية النتائج التي تترتب على أخذ الدليل، كما وتختلف الأدلة في شموليتها واتساعها، فمنها ما يصلح لاستنباط العديد من الآراء، ومنها ما لا يصلح إلا لرأي واحد.
وقد تتعارف على قبول الدليل الجماعة الواحدة، كأهل اللغة مثلاً، وقد تقبله الأمة الواحدة، كقبول الأمة الإسلامية للقرآن والسنة. وقد يصلح الدليل دليلاً عند جماعة ولا يصلح عند غيرها، فإذا صلح صحَّ الاستدلال به فيما بينها وإلا فلا يصح.
والدليل موجود في حقول المعرفة، فقد يأتي به الوحي من عند الله أو يكون حقيقة لا مناص من إنكارها أو عرفاً تعارف الناس عليه زمناً طويلاً أو رأياً لمفكر سلم الناس بصحته فقبلوه. وهكذا يلاحظ أن منشأ الدليل منشأ خارجيٌّ أي يأتي لداخل الإنسان من الله مثلاً أو من البيئة والظروف المحيطة؛ وحين يعثر عليه المرء عليه أن يفهمه ويدركه بالوقوف على مدلول معناه. وهو بخلاف الرأي الذي ينشأ من داخل الإنسان فيأتي به من عند نفسه بعد إجراء العملية التفكيرية بواسطة العقل؛ ومن هنا تظهر أهمية معرفة ما هو خارج الإنسان من معارف خارجية لتدعيم صحة رأيه، ولا يحصل ذلك إلا بالتعليم والدراسة والبحث وإجهاد النفس وتحمل العناء بالقراءة والسماع والتلقي. وكلما زاد الإنسان اطلاعاً ازداد حجة ودليلاً.
ومن هنا كان تحصيل الثقافة وغيرها من المعارف والعلوم التي تلزم لحامل الدعوة من أجل أداء دعوته فرضاً من باب «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» لأن عدم تحصيله لهذه المعارف يجعله قاصراً عن أداء مهمته في حمل دعوته للناس أي قاصراً عن أداء فرض من الفروض.
وصحة الدليل شرط في صحة الرأي الذي يرشده إليه وإن كان ليس كافياً، إذ لا بد من صحة الاستدلال، أي انطباق الدليل على مدلوله.
وتختلف شروط صحة الدليل باختلاف نوع المعرفة، فإن كانت من النقليات فإنها تقتضي سلامة النقل من الكذب والخلط والغلط والتحريف، وكل ما يؤثر على سلامة النقل. وإن كان من العقليات فإن صحة الدليل تقتضي موافقته للعقل أو موافقة أصله للعقل، وتقتضي موافقته للواقع المحسوس.
وقد وضع العلماء في كل عصر لكل نوع من أنواع المعرفة ضوابط دقيقة لضمان صحة الأدلة القائمة عليها وألفوا بها آلاف المراجع والكتب، فوضع علماء الأصول مثلاً ضوابط لصحة الأدلة التي ثبتت بنـزول الوحي فيها، فيكفي عندها مثلاً بطلان حجية المصالح المرسلة لأنها مرسلة من الدليل.
كما وضع علماء مصطلح الحديث ضوابط لمعرفة الأحاديث الصحيحة من غيرها، فانبرى لتنقية الحديث من الشوائب التي علقت به علماء جهابذة أفذاذ وضعوا قواعد علم المصطلح اشتمل على علم رجال الحديث وعلم الجرح والتعديل والرواية والرواة وغيرها، فتمكنوا بذلك من تنقية كل ما علق به، فأصبح من الميسور أخذ الحديث نقياً صافياً كما أخذه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكفي عندها معرفة أن الحديث ضعيف حتى يضرب بالرأي المستنبط منه عُرضَ الحائط.
أما وجه الاستدلال، فإنه لا يقل أهمية عن لزوم صحة الدليل لصحة الرأي، فمثلاً قد يكون الدليل صحيحاً لا تشوبه شائبة، كآية أو حديث صحيح ولكن وجه الاستدلال به غير صحيح فيكون الرأيُ المستنبطُ خطأً قطعاً؛ إذ يتراءى للمرء أنه يدل على المسألة ولكن في حقيقة الأمر يكون خلاف ذلك، أو قد يقوم مغرضٌ صاحب هوىً بإقحام دليل صحيح ليس به أي وجه من أوجه الاستدلال للتدليل على صحة رأيه.
وإن من أكثر الأمور خطورةً على صحة الرأي هو بطلان الدليل أو الاستدلال أو بطلانهما معاً، فإذا كان الدليل صحيحاً وكان وجه الاستدلال صحيحاً بعد فقه الواقع ومطابقته له، فإن الرأي يكون أقرب إلى الصواب إذا سلم من الأمور الأخرى التي تؤثر على صوابه. ولصحة الدليل القسطُ الأكبرُ في معرفة حقائق الأمور وهو الضمان الصحيح لتحصين الإنسان من تأثير الهوى وزيغ الضلال، ولذلك لم يترك الشارعُ الإنسانَ يتخبط في فهمه للحياة بل زوده بالأدلة الصحيحة القاطعة عنها لفهمها فهماً واقعياً مستنيراً ولمعرفة دقائقها؛ فحصّنه مثلاً من الشرك حين بنى العقائد على يقين وحصّنه من الضلال حين بنى الأحكام على أدلة أتى بها الوحي من عند الله.
والمفكر، أو حامل الدعوة يهتم بالدليل قبل التفاته للرأي، كالمهندس الذي يهتم بالأساس قبل البناء لضمان سلامة الإنشاء، سواء أكان الرأي رأياً لحامل الدعوة أم رأي الآخرين من الناس، فإن كان رأيه اطمأن لصحته ونَقَله للناس نقلاً مؤثراً، من القلب إلى القلب، عن قناعة وإيمان. وإن كان رأي الآخرين حكم على صحته من صحة دليله وصحة وجه استدلاله، فيطمئن لأخذه أو لرفضه، فيكون قد حصن نفسه من الآراء المغرضة أو الأهواء الضالة.
وحتى يحقق حامل الدعوة هدفه من حمل الأفكار للناس، وهو جعلهم يحملونها، عليه أن يدعِّم رأيه بالدليل المثبت لصحة رأيه، فلا يكتفي بإعطاء الرأي مرسلاً من غير دليله، بل لا بد وأن يفهمه مستمعه بالدليل الصحيح. ولذا كان لزاماً على حامل الدعوة البحث عن الأدلة والتنقيب عنها وحفظها واستظهارها ليزداد بها حجة وحتى يؤثر في مستمعه، لأنه بدون إسناد الرأي إلى دليله لا يأخذ المستمع بسهولة كل ما يسمع، بل يظل الرأي عنده محل شك وحيرة إلى أن يهتدي هو بنفسه إلى دليل على صحة ما سمع أو ينسى أو يتناسى ذلك الرأي قبل أن يهتدي إلى دليل على صحته.
ولذلك من الطبيعي أن نرى الناس أكثر قبولاً وأسرع استجابة لنشرات الحزب السياسية وغيرها التي تحتوي على الأدلة من التي تفتقر إليها؛ بينما النشرات الموجهة للشباب خاصة تلاقي قبولاً، بل تسليماً، ولو خلت من الأدلة، لأن الثقة المطلقة في فهم القيادة وفي فهم مقدرتها أمر مُسَلَّم به عندهم ويقوم مقام الدليل؛ وهذا هو وجه الاختلاف عنه مع باقي الناس.
وتأتي أهمية الدليل في نقل الأفكار للمستمع من أن الدليل هو الخطاب الموجه للعقل بمنأى عن عواطف الإنسان ورغباته وميوله، فهو الفيصل والحَكَمُ المحايد بين القائل والسامع؛ إذ إنه لا سلطان على الإنسان أقوى من سلطان العقل، ولا سلطان على العقل أقوى من سلطان الفكر، ولا سلطان للفكر إلا بدليل. وهكذا فإن حامل الفكر للناس بدون دليله كالجندي في المعركة بدون سلاحه.
وعند إيراد الدليل الصحيح لا بد للمستمع من الاستجابة السريعة، إن كان نزيهاً، ومن الاستجابة بينه وبين نفسه إن كان مكابراً، لأن الإنسان لا يملك عدم التأثر بالفكر أو الرأي الصواب، وإن كان يملك التظاهر برده.
فإذا كان المستمع نزيهاً ترى وتلاحظ علامات الاستجابة والارتياح بادية على محيّاه عند سماع الدليل، على الأخص إن كان صحيحاً. فإيراد الدليل من قبل حامل الدعوة هو البداية الجادة للتأثير فيمن يستمع إليه أو يقرأ له.
هذا من حيث الدليل وماهيته وعلاقته بالرأي وأهمية هذه العلاقة، أما من حيث مطابقة الرأي للواقع فإنه من الأمور التي تكفي أحياناً للحكم على صحته وبطلانه. وقد حاجَّ اللهُ الكفار به في بيان بطلان رأيهم عندما قالوا إن محمداً يأتي بالقرآن من غلام نصراني في لسانه عجمة. قال تعالى: (يقولون إنما يعلّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ وهذا لسانٌ عربيٌ مبين).
والحجة نفسها، أي مطابقة الرأي للواقع، استعملها الكفار فيما بينهم حين تشاوروا للرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ اجتمع الوليد بن المغيرة في نفر من قريش فقال لهم: يا معشر قريش، إنه حضر هذا الموسم، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضاً، ويردُّ قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه؛ قال: بل أنتم فقولوا؛ قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهَّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجْعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بِخَنْقه، ولا تَخالُجه، ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كلَّه رَجَزه وهَزَجه وقريضَه ومَبْسوطة، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحار وسِحْرهم، فما هو بنفْثهم ولا عقْدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوةً، وإن أصله لعَذق، وإن فرعه لجِناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأَنْ تقولوا ساحر جاء بقولٍ هو سحر يُفرِّق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته؛ فتفرقوا عنه بذلك؛ فنـزل قوله تعالى يصف هذا الموقف من الوليد بن المغيرة: (إنه فَكَّرَ وقدَّرَ @ فقُتِل كيفَ قدَّرَ @ ثم قُتِلَ كيفَ قدَّرَ @ ثم نَظَرَ @ ثم عَبَسَ وبَسَرَ @ ثم أدْبَرَ واسْتكبَرَ @ فقال إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ @ إنْ هذا إلاّ قولُ البَشَر).
والحجة نفسها استعملها النضر بن الحارث في مخاطبة قريش: قال: يا معشر قريش؛ إنه والله قد نَزَل بكم أمْرٌ ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صُدْغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السَّحَرَة ونفْثهم وعَقْدهم، وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالُجهم وسمعنا سجْعهم، وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلَّها، هَزَجه ورَجَزَه، وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنْقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله قد نزل بكم أمرٌ عظيم.
وليس المقصود بالواقع في المطابقة أي واقع، لأنه قد يكون فاسداً فيحتاج إلى تغيير بأفكار جديدة لا تنطبق معه، مثل الواقع المتمثل في التشريعات والأنظمة والأفكار والمفاهيم والآراء وقواعد السلوك، فهذه ليست هي المقصودة لأنها في حقيقتها آراء وإن سُميت أحياناً بالواقع من باب أنها سائدة بين الناس في المجتمع؛ بل المقصود هو الواقع المادي الحسي الذي أُخِذت منه هذه الآراء. فمثلاً إلغاء الملكية الفردية تشريع أسند إلى رأي يرى إِنكار حب التملك عند الإنسان، وهو تشريع باطل أسند لرأي باطل يخالف ما هو عليه واقع الإنسان من حبه للتملك الذي يعتبر مظهراً من مظاهر غريزة حب البقاء. فالواقع المقصود هو الذي تقع عليه الحواس فيدركه العقل، كمن يرى سراباً فيظنه ماءً أو يسمع صوت رعد فيظنه صوت طائرة ولكن عند التحقق من مطابقته للواقع يجده خلاف ذلك فيحكم على بطلان الرأي.
ومنه نرى مدى بطلان وضلال الرأي القائل بعبادة المخلوقات كالإنسان أو البقرة أو الصنم أو الشمس أو القمر لأنه رأي لا يطابق الواقع المتمثل في عجزها ونقصها واحتياجها. وقد أقام سيدنا إبراهيم الحجة على عبدة الأصنام من كون عبادتها لا تنطبق مع واقعها. قال تعالى: (قالوا أأنتَ فعلْتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم @ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون @ فرجعوا إلى أنفسِهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون @ ثم نُكِسوا على رؤوسهم لقد علمْتَ ما هؤلاء ينطقونَ @ قال أفتعبدونَ مِنْ دون الله ما لا ينفعُكُمْ شيئاً ولا يضرُّكُمْ @ أفٍّ لكمْ ولِما تعبدون من دون الله أفلا تعقلونَ @ قالوا حَرِّقوه وانصروا آلهتَكمْ إن كنتم فاعلين). وقد فسرها الإمام القرطبي بقوله: بعدما سمعوا من إبراهيم قوله رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه بعبادة من لا ينطق بلفظة ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنه البأس، من لا يردُّ عن رأسه الفأس.
ويلزم لحصول مطابقة الواقع، واستنباط الرأي كرأي، يلزم تحصيل المعلومات المتعلقة بالمسألة المعينة، وذلك عن طريق التعلم بالدراسة والبحث والتلقي، وهو ما يسمى بفقه الواقع، لأن المعلومات من مقومات عملية التفكير، وبدونها ـ المعلومات ـ لا تحصل عملية تفكير، فما بالك إذا كان المطلوب الرأي الصواب…!! ونظراً لأهمية المعلومات وضرورتها أوحى الله بها إلى سيدنا آدم عليه السلام، قال تعالى: (وعلم آدمَ الأسماءَ كُلَّها)، أوحاها لضرورتها ولزومها لتكوين العقل وحصول الرأي.
كما وجعل الله التقوى مترتبة على العلم، قال تعالى: (واتقوا اللهَ ويعلمكم اللهُ) وقال: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ). فالعلماء أشدّ خشيةً بفضل العلم. وقد حَضَّ الشارع على طلب العلم، قال عليه الصلاة والسلام: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»؛ وكلما كانت المعلومات صحيحة وأكثر دقة كان الرأي أقرب إلى الصواب.
أما الأمر الثالث فهو الشورى، أي أخذ الرأي من الناس، والشورى لغة من الفعل أشار وأصله شَوَرَ، ومعنى أشار العسل أي استخرجه من الوَقْبة واجتباه من خلاياه ومواضعه. وفي الاستعمال لا يخرج معنى الشورى عن هذا المعنى اللغوي وليس لها معنىً اصطلاحي. وتقول استشاره أي طلب منه المشورة، وشاوره في الأمر أو استشاره أي شاوره مشاورة.
والشورى خير وبركة، وفائدتها عظيمة إذا أُخِذت من جيّد المشورة، يخشى الله، من أهل التقوى والأمانة، ولا يستغني عنها من يبحث عن صواب الرأي، لأن الإنسان ناقص وهو في حاجة دائماً لمن يجبر عليه هذا النقص، وآراء الرجال كالمصابيح تبدد الظلام فتنير الطريق وتكشف خبايا الأمور، فبالشورى يستفيد المشاور كثيراً من معلومات المستشار ومن قدراته العقلية وتجاربه العملية، فإنه يعطيك من رأيه ما دفع عليه غالياً وأنت تأخذه مجاناً. قال عليه الصلاة والسلام: «ما ندم من استشار وما خاب من استخار». وقال: «ما شقيَ قطُّ عبدٌ بمشورة وما سَعِدَ باستغناء رأي». وقال الحسن رضي الله عنه: ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمرهم.
والشورى من سمات القيادة الناجحة وسجية من سجاياها، في حين أن التفرد في الرأي من صفات القيادة الفاشلة ونقيصة من نقائصها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه. فقد أخذ الرأي الصواب في مكان معركة بدر من الصحابي الحباب بن المنذر، وأخذه من سلمان الفارسي في الدفاع عن المدينة بمعركة الأحزاب وهو حفر الخندق.
واستشار الخلفاء الراشدون، واشتُهر عنهم ذلك، ولم يتفردوا بالرأي، فقد استشار أبو بكر رضي الله عنه المسلمين في استخلاف عمر وفي حروب الردة وغيرها، واستشار عمر رضي الله عنه في أرض السواد وغيرها، وسار على ذلك عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكانت الشورى من سماتهم البارزة في رعاية شئون المسلمين؛ بل وكانت الشورى من مميزات الحكم الإسلامي عند الخلفاء على مر القرون. وقد أثنى الله تعالى على المسلمين بأنهم لا يتفردون برأي حتى يتشاوروا فيه، وحثهم على الشورى بقوله: (وأمرهم شورى بينهم). وقال: (وشاوِرْهم في الأمر).
أما الأمر الرابع لتحري الرأي الصواب فهو البعد عن الهوى، وذلك عند تكوين الرأي أو عند أخذه من الناس. والهوى لغةً محبةُ الشيء وغلبته على القلب. قال الراغب: معناه ميل النفس إلى الشهوة وسمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية. وقال الجوهري: سمي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه في النار. ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه.
الهوى خَطِرٌ على تكوين الرأي الصواب وعلى تحصيله من الناس، وهو آفة الرأي، فإذا غلب الهوى على إنسان أفقده القدرة على التفكير في المسألة المعينة، لأنه يولد الرأي المسبق عن الأشياء والأفعال والأفكار، أي قبل قيام العقل بدوره في إدراك ومعرفة ما يلزم للحكم على صحة الرأي وبطلانه، كأن يتأكد من صحة الدليل ووجه الاستدلال الصحيح ومدى مطابقته للواقع. فعندما تغلب شهوة الإنسان على تفكيره تفسد عليه رأيه ورأي الناس عليه، ويفقد نزاهته ويصبح صاحب غرض لا يصلح لإعطاء الرأي أو أخذه؛ وحتى لو استشار الناس فلا يستطيع أخذ الصواب منهم. فلا يصح لمن يطلب الرأي أن يترك لميوله ورغباته أدنى تأثير على فهمه وإدراكه للأمور، لأن مكان الإدراك هو العقل فقط وترك ذلك للهوى يؤدي إلى الخطأ قطعاً، بل إلى الزيغ والضلال والبعد عن الحق؛ إذ الهوى يعمي القلب والبصيرة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُبُّك للشيء يُعمي ويُصم» وفي الدعاء عنه عليه الصلاة والسلام «اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتِّباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه».
فالذي يبحث عن صواب الرأي عليه أن يكوِّنه بعيداً عن أهوائه ورغباته وعليه أن يأخذه إن كان صحيحاً أينما وجده، بغض النظر عن محبته وبُغضه لقائله؛ قال تعالى: (… فَبَشِّرْ عبادي الذين يستمعون القولَ فيتبعونَ أحسنهُ أولئك الذين هداهم اللهُ وأولئك هُمْ أولو الألباب)، وقال عليه الصلاة والسلام: «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها».
وأكثر الناس وقوعاً تحت تأثير الهوى هم أصحاب التكتلات الجماعية والأحزاب التي لا تتكتل حول الدليل وبطانة الرؤساء والأمراء، لأن الولاء المطلق للحزب أو الجماعة، والثقة التامة بالرئيس وحبه، بل والفتنة به أحياناً، وعدم تحكيم الشرع؛ كل ذلك يجعل العضو غير قادر في كثير من الأحيان على إعطاء الرأي الصواب والحكم الصحيح فيما يعرض عليه من أمور. فبسبب تبعية هؤلاء الناس لهذه الحركات يصبحون فريسة لتأثير الهوى والضلال أكثر من غيرهم.
وإن ما يلاقيه الشباب من صدود أصحاب هذه الحركات ومن نفور يزيد كثيراً عن الناس العاديين، وما يسمعونه منهم من افتراء وتشويه لآراء الحزب واجتهاداته، والتي لا تمت للحزب بصلة لخير شاهد على صحة ذلك. فيكتفي أصحاب الحركات بترديد ما يمليه عليهم رؤساؤهم كالببغاوات، لا يدرون مدى خطورته وتأثيره عليهم وعلى سير نهضة الأمة التي ينتمون إليها.
وما نلاقيه اليوم من عقبات في الطريق من كثير من الحركات فإن مرده إلى تأثير الهوى إلى حد كبير، إضافة إلى خطأ الأفكار وضلالها أحياناً وإلى خطأ الطريق الذي يسيرون عليه. ولو حكّمت هذه الحركات الدليل الشرعي لما كان بيننا وبينها قيد شعرة من خلاف ولَتَمَّ جمعها تحت رأي واحد بأقرب من رد الطرف.
وقد عانت الدولة الإسلامية في الماضي على مر القرون، من هذه الحركات، صاحبة الهوى، وأشغلوها وشتتوا جهودها وأثاروا عليها النـزاعات العرقية المذهبية المغرضة. وقد وصل الحال ببعضها أن خرجت من الملة كالدروز والحشاشون والقرامطة والحزمية والإسماعيلية وغيرها. ولم تكن دعوة المطالبة بدم عثمان بعيدة عن الهوى، حيث أدت إلى فتنة المسلمين وانقسامهم في مهد الدولة الإسلامية. وما نشاهد اليوم من فساد الحكم في العالم الإسلامي ومن فساد بطانة السوء من حولهم إلا وللهوى القسط الأوفر في ذلك.
فالتمادي في الهوى لا يفسد الرأي فقط بل يؤدي إلى ضلال في الاعتقاد والعياذ بالله، فذمه الشارع وحذر منه في مواطن كثيرة؛ قال ابن عباس: ما ذكر الله هوىً في القرآن إلا ذمه. قال تعالى: (ولو اتَّبع الحقُّ أهواءَهُمْ لفسدت السماواتُ والأرضُ ومن فيهنَّ)، وقال: (ومَنْ أضَلُّ ممَّن اتَّبع هواه بغير هدىً من الله)، وقال: (بل اتَّبع الذين ظلموا أهواءَهُم بغير علم)، وقال: (ولا تتبعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عن سبيل الله)، وقال: (واتبع هواه وكان أمرُهُ فُرُطاً). ومثَّل القرآنُ صاحبَ الهوى بالكلب، قال تعالى: (واتَّبع هواه فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلبِ إن تحْملْ عليه يلهثْ أو تتركْه يلهثْ ذلك مَثَلُ القوم الذين كذَّبوا بآياتنا). وهذا شر تمثيل، لأنه مثله في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً بكلب لاهث أبداً، حُمل عليه أو لم يُحمل عليه، فهو لا يملك لنفسه ترك اللهاث. قال أبو أمامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عُبِدَ تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى»، وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوىً متَّبَعاً ودنيا مؤثرةً وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فعليك بخاصة نفسك ودعْ عنك أمر العامة»، وقال: «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فالمهلكات شُحٌّ مطاع وهوىً متَّبَع وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب».
هذا هو الهوى وهذه خطورته على الرأي الصواب وعلى العقيدة؛ فهو يفسد الرأي ويسبب ضلال العقيدة وزيع الاعتقاد.
وهكذا فإنه بعد تمحيص الرأي والوقوف على دليله ووجه استدلاله والنظر في مطابقته للواقع واستشارة من يثق المرء بدينه وخبرته وحذقه ونصيحته وورعه وبُعدِه عن الهوى، بذلك يكون قد وصل إلى السداد في القول والعمل. فإذا قام حامل الدعوة بذلك لم يبق أمامه إلا الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن تقيداً بقوله تعالى: (أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسن).
بذلك يكون حامل الدعوة قد أقام الحجة على مستمعه، كما طلبها الشارع، بالطريقة الشرعية التي حددها في نقل الأفكار للناس وحصل البلاغ المبين المبرئ للذمة أمام الله تعالى q
أبو العـبد
2000-11-11