العدد 162 -

السنة الرابعة عشرة رجب 1421هـ – تشرين الأول 2000م

حمـل الدعـوة… وحامـلهـا

          إن مهمة حمل الدعوة هي أشرف مهمة وأصعبها… إنها مهمة الأنبياء… إنها مهمة تحرير العقول من ضلال الأفكار وزيغ الشبهات، وإعتاق النفوس من دواعي الهوى وأسر الشهوات… إنها مهمة إدخال الناس في شرف الإيمان بالله، والتقيد بمنهجه… إنها مهمة إقامة الحياة كلها على أساس العبودية لله وحده، وإخلاص الدين له وحده… إنها كانت مهمة نبينا ورسولنا الكريم التي أَخرَجت خيرَ أمة للناس، وأنبتت زرع الصحابة الكرام الذين أقاموا خلافة راشدة على منهاج النبوّة، رضي الله عن القائمين بها من مهاجرين وأنصار، ورضوا عنه، وهي اليوم إرثه صلى الله عليه وسلم لنا لنقيمها من جديد خلافة راشدة تكون كذلك على منهاج النبوة، يرضى عنها ساكن السماء والأرض.

          إنها مهمة لا يستطيع تحمل وعثائها، واجتياز عقباتها وتحقيق غاياتها إلاّ أولو العزم من المؤمنين الصادقين، ولكنها في الوقت نفسه مهمة واضحة المعالم واضحة التكاليف، الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أسوتنا وقدوتنا وسراجنا المنير، وصحابته رضي الله عنهم هم النجوم الزاهرة الذين علينا أن نقتدي بهداهم، وأن نكون على ما كانوا عليه مع الرسول صلى الله عليه وسلم من قوة الإيمان وصحة الالتزام، وتزكية النفوس.

          ولما كان الإسلام محفوظاً من الله سبحانه وتعالى، ولا تستطيع أن تناله يد التحريف والتبديل، ولكن الزلل في الفهم، غير معصوم منه المسلمون؛ لذلك تصبح المسألة كلها تتعلق بمن يفهم الإسلام الفهم الحق، ويقوم بحق الإسلام وحمل دعوته بأمانة؛ إذ إن على هؤلاء أن يشكلوا بدورهم القدوة الحسنة في فهم الإسلام وعرضه بشكل يؤدي إلى أن يلمس الناس مدى حاجتهم إليه، وأن يشكلوا المثل الصادق في الالتزام بحيث يقنعون المسلمين بأنهم مثال الصدق في القول، والاستقامة في العمل… عليهم أن يشكلوا النموذج الحيّ للمشروع الذي يريدون تنفيذه… من هنا كان الكلام على حامل الدعوة يأخذ أهمية بالغة في مجال الدعوة، وفي مجال الحياة كلها، بل لا يقل أهمية عن الكلام على أفكارها. فما لم يشكل حملة الدعوة القدوة والأسوة، وما لم يستمدّوا نورهم من مشكاة النبوة، وأخلاقهم من أخلاق النبوة، ويصبحوا كالصحابة نجوماً يهتدى بهم في ظلمات هذه الأيام فإن دعوتهم تبقى ناقصة، وتحتاج إلى سدّ هذا النقص ليأخذوا قيادة الناس بالفكر وبالعقل، وليحققوا في أنفسهم ما يمكّنهم، فكرياً وسلوكياً، من هذه القيادة بأمانة وإخلاص.

          فحامل الدعوة هو حامل الأمانة التي يعمل على تأديتها بأمانة، فعليه أن يكون من الأمناء الصادقين. لقد اختار الله سبحانه وتعالى لدعوة الإسلام ابتداءً رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم اختياراً، ثم كان الصحابة رضوان الله عليهم بما نالوه من فضل الصحبة وصدق الدعوة، وهم لم يبلغوا هذا الشأو وهذه المرتبة إلا بعد أن استقامت عقولهم على تعاليم الإسلام، وصفت قلوبهم وزكت نفوسهم. واليوم لا يقوم بحقّها إلاّ من تعهّد عقله وقلبه وجوارحه للقيام بأمر الله.

          إنه لا يكفي في مجال الدعوة صواب العمل ما لم يرافقه إخلاص القائمين به وصدقهم وثباتهم على الحق وصبرهم على أمر الله… وإنه إذا كانت الأفكار هي الماء الذي يروي ويحيي فإن حاملها هو الإناء الذي يحوي، لذلك يجب أن يحافظ عليه نظيفاً، حتى يبقى ما في داخله نقياً صافياً.

          لقد وصف الله سبحانه وتعالى، في كثير من المواضع، في كتابه الكريم صفات الصبر، والصدق، والثبات، والإخلاص… في حَمَلَةِ الإسلام ودعوته، طالباً إياها، حاثاً عليها، واعداً بها، فاتحاً أمام من تحلّى بها كل موصد، مذللاً بها كل عقبة. قال تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق) وقال تعالى: (فاصبر وما صبرك إلا بالله)، وقال تعالى: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) وقال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). وقال تعالى: (مخلصين له الدين حنفاء) حتى إنه يمكن القول إنه لن يكون أهلاً لنصرة الله إلا من نجح في تمحيص الله ما في قلبه وابتلاء ما في صدره. قال تعالى: (فليعلمنّ الله الذين صدقوا، وليعلمنّ الكاذبين) وقال تعالى: (وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين) وقال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) وقال تعالى: (ولبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم). ويمكن القول إنَّ منَّ الله بالنصر لن يكون إلا للمؤمنين الصادقين، حملة الدعوة المخلصين الصابرين الذين يستمدون العون من الله وحده في طريق الدعوة الشاق الطويل الذي يصل حملة الدعوة فيه إلى الظن أنه يكاد يكون لا آخر له، فيستعينون بالصبر والصلاة عسى أن يقربهم ذلك من المنّ بالنصر. ويمكن القول إن وعد الله بالاستخلاف للمؤمنين لن يكون إلا لمن تحلّى بالإخلاص الخالص لله تعالى حيث يتخلى المؤمنون حملة الدعوة عن حظ نفوسهم لمصلحة الدعوة، وحيث يقدمون ما يحبه الله على ما تحبه قلوبهم وتهواه، ويقدمون أمر الله تعالى على أمرهم. قال تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلَهم الوارثين) وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكِّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدِّلنَّهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).

          نعم إن طريق الدعوة يمتحن الله فيه القلوب للتقوى. وهنيئاً لمن فاز برضا الله سبحانه واستحق تأييده ونصره. فالمسألة تتعلق بإعداد النفوس لأن تحمل أمانة ربها، تتعلق باستخلاف الله لخير عباده على أرضه وعلى الناس، واستئمانهم على دينه. إنها مهمة ليست باليسيرة إلاّ على من يسّرها الله عليه وكان مع الله بكليته، حتى يكون الله معه في نصره وتأييده واستخلافه. ومعلوم أن حملة الدعوة يزدادون إيماناً يوماً بعد يوم، وتزداد ثقتهم بالله وبنصره، لأنهم يعيشون نعمة القرب من آيات الله وأحاديث رسوله إذ يستشهدون بها في دعوتهم فيلمسون مدى صدقها، ومطابقة أحكامها لحاجات الناس وغرائزهم، ومدى حاجة الناس إليها، ومدى بعد الأنظمة البشرية الوضعية عن الحق. ويتحققون أن ما من أمر من أمور الشرع تركه الناس إلا أحوجهم الله إليه، وأن ما من أمر طبق على الناس من خارج أمر الله إلا ذاقوا وباله وأذاه.

          ومعلوم كذلك أن حملة الدعوة تقوى عزيمتهم ويشتد إصرارهم في حمل الدعوة، عندما يقابلون ما يعيشون فيه من أجواء الاستضعاف والتكذيب والملاحقة والتشريد مع ما ذكره القرآن الكريم من تكذيب أصحاب الدعوات السابقين واستضعافهم وإخراجهم من ديارهم، ومع ما عاشته الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى مع الرسول الكريم وصحابته، قال تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) وهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذروة استضعاف دعوته: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم أنت رب المستضعفين أنت ربي… اللهم إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي… لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك». ويعلم حملة الدعوة، إزاء ذلك، أن النصر بيد الله وحده، وأن القوة والعزة لله جميعاً، وأن ما يلاقونه من بطش الحكام وشدة بأسهم إنْ هو إلا ابتلاء وتمحيص وإعداد وتهيئة يطمع حملة الدعوة أن يكونوا بعده هم الفائزين بنصر الله الذي لا يأتي إلا بعد معاناة واستيئاس قال تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا).

          وإن حامل الدعوة متى أوجد نفسه في جو العمل الصحيح أصبحت له مقاييسه الخاصة المستمدة من الشرع، والمخالفة لمقاييس الناس العادية: فهو إن ابتلاه الله باعتقال أو تشريد… عدَّ ذلك من باب الإعداد والتمحيص والامتحان وعدَّه الناس تهوراً وتفريطاً بنفسه، وإن ابتلاه باستشـهاد فهو يعدُّ ذلك إكراماً من الله له (ويتخذ منكم شهداء) وعدَّه الناس إلقاءً بالنفس إلى التهلكة ووتضييعاً لعائلته. والناس إن رأوا استضعاف حملة الدعوة يئسوا وازداد هو ثقة بنصر الله. وفي كل مرة يزداد الهجوم على الإسلام وحملة دعوته يعتبر الناس أن الإسلام يتراجع لمصلحة الأنظمة الجائرة والظالمة، ويعتبر هو أن الإسلام قد تقدم أشواطاً ما جعل الأنظمة تزيد من عيار هجومها عليه. وعندما يرى الناس أن كثيراً من الحركات الإسلامية تتراجع وتتخلى عن عملها، يظنون أن الدعوة الإسلامية قد وصلت إلى الحائط المسدود، بينما يرى هو أن السقوط كان طبيعياً لأنها كانت قائمة على فهم غير صحيح للواقع، ثم هي أخذت تراجع نفسها وصولاً إلى العمل الصحيح…، وهكذا يستمد الناس حكمهم من الواقع، ويستمد حامل الدعوة تقييمه وحكمه من الشرع، ويستمد ثقته القوية بقدرته على التغيير من إيمانه بالله وقناعته بأن شرع الله وحده هو الذي تستقيم عليه حياة الناس والعالم كله، ويستمد قوة إصراره وشدة عزيمته مما يحدثه الإيمان بالله في النفس من محبة له وتضحية في سبيله وطمع بنوال رضوانه، ويستمد ثقته بالوصول، من الإيمان بوعد الله الجميل بالاستخلاف والتمكين والنصر. قال تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضـعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).

          ثم إن حامل الدعوة عندما يجري الله النصر على يديه، ينتقل من ابتلاء العمل لإقامة دولة الإسلام إلى ابتلاء آخر، هو ابتلاء القيام بأمر الله سبحانه وتعالى تطبيقاً ونشراً. أي من مهمة إلى مهمة أخرى. ونجاحه في المهمة الثانية رهن بنجاحه في المهمة الأولى. وإن ما يكتسبه حامل الدعوة من صفات العلم الشرعي والانضباط بأصوله، والتزامه في طريقه بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم دون الحيد قيد شعرة عن جزئياتها وكلياتها، وصبره، وتحمله كل ألوان الشدة التي تواجه الدعوة، وشدة التصاقه وتمسكه بها… هو تهيئة له ليكون على مستوى حملها بعد إقامة الدولة الإسلامية، وهذا هو الأهم. لذلك كان على حامل الدعوة أن يتابع إعداد نفسه، ويتحرى مدى استعدادها للقيام بحق الله كما يتحرى صحة طريق سيره، فإن هذا يقربه من النصر بإذن الله. فالنصر له أماراته الدالة عليه، كما أن لكل طريق يسلكه الإنسان علامات تدل على أن السالك هو على الطريق الصحيح، ومن علامات النصر التي تدل عليه هو أهلية القائمين بالدعوة ومدى تحقق ما يدعون إليه في أنفسهم.

          ونحن نعلم أن حَمَلَة الدعوة درجات، ولكلٍّ درجته عند ربه. فكلما تابع الواحد منهم نفسه علت درجته وخدم الدعوة أكثر إذ يفتح الله قلوب الناس عليه، فيرون في قوة فكره خلاصاً لهم من الزيغ والضياع اللذَيْن يعيشونهما، وفي اطمئنان نفسه طمأنينة لهم افتقدوها في خضم حياتهم، وفي صفاء سريرته ما يجعلهم مقبلين على دعوته، غير مترددين… إذ إن على حملة الدعوة أن يشكلوا واحة خضراء في صحراء هذه الحياة القاحلة.

          ويزداد الكلام عن حامل الدعوة أهمية عندما نرى أن الله سبحانه وتعالى قد حذّر المسلمين، وبخاصة حملة الدعوة من أن يدْعوا الناس بالقول ويخالفوهم في الفعل. قال تعالى في حق بني إسرائيل ومحذراً المسلمين من أن يكونوا مثلهم: (أتأمرون الناس بالبر وتنسـون أنفسـكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) وقال عنهم أيضاً: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) وقال تعالى في حق المؤمنين: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وقال صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف على أمتي عليم اللسان منافق القلب». وفي حديث آخر له صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى. فيستجمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».

          وحبذا لو قرأ حامل الدعوة هذه النصوص وأمثالها من النصوص التي تحدثت عن صفات حامل الدعوة، بتروٍّ وتدبر وتفكير، وربطها بواقعه، ونظر إلى إلى مدى تحققها فيه، وقاس نفسه على ما كان عليه صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، والتابعون الأجلاء، وتابعوهم بإحسان، ليكون منهم ومشمولاً معهم برضى الله وتوفيقه وتأييده بالنصر.

          من هذا المنطلق، كان من المهم جداً أن نتكلم على حامل الدعوة ونتناول الجانب الذي يتعلق بتزكية نفسه وصدق التزامه، فإنه متى اقترن صواب الفكر مع إخلاص العمل في حامل الدعوة اكتملت شخصيته واتزنت، وكان أقرب ما يكون إلى الصحابة الذين رضي الله عنهم، عسى أن ننال بهذا الرضى فَرَجَهُ ونصره الذي نحن بأمس الحاجة إليه.

          ومن هنا كان على حامل الدعوة أن يهتم بما حواه عقله من أفكار الإسلام ويتحرى مدى صدقها، وفي الوقت نفسه عليه أن يتابع ما وقر في قلبه من نور الإيمان، وتمام اليقين، وصدق المشاعر، وما ظهر على جوارحه من استقامة السلوك ومضاء العزيمة، لأنه متى اكتملت شخصيته تهيّأ لأن يحمل الدعوة قبل قيام الدولة الإسلامية التي هي هدف العمل الآن، ثم متى قامت هذه الدولة يكون قد تهيّأ لتحقيق العبودية لله وحده في الحياة، التي هي الهدف من الخلق ككل، والتي تُعتبَر الدولةُ الإسلاميةُ طريقاً أساساً إليها.

          وإن اكتمال شخصية حامل الدعوة قبل قيام الدولة الإسلامية يعينه على أن يمضي في سبيل الدعوة وهو قائم بتعهد نفسه على عبادة ربه عبادة يرضي بها معبوده، متحرٍّ الصدق والإخلاص في العمل، مضحٍّ في سبيل الله، صابرٌ على ما يكابده من عنت الدعوة، محتسبٌ الأجرَ عند ربه، واثقٌ بنصره، متوكلٌٌ عليه جميل التوكل، مستمدٌ العونَ من الله وحده ومطمئنٌّ لوعده بالنصر والاستخلاف والتمكين.

          ثم إن اكتمال شخصية حامل الدعوة بعد قيام الدولة الإسلامية يعينه على أن يهيئ نفسه لأن يكون رجل دولة، قد خبر الناس وطبائعهم وعرف كيف يسوسهم ويرعاهم بالإسلام، وخبر سياسات الدول ودسائسها وعرف كيف يواجهها، وصار على دراية في السياسات الشرعية فعرف ماذا يقدم من أمور الحكم وما يؤخر، وما يعلن وما يخفي، وصار الحاكم من الخليفة إلى أصغر حاكم على درجة من التقوى والالتزام في خاصية نفسه ما يجعله تقياً نقياً طاهراً علماً، وفي شؤون الحكم ما يجعله رائداً لا يكذب أهله، راشداً في حكمه، أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قال تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون).

          نعم إن على حامل الدعوة أن يحقق في نفسه ما يريد أن يحققه في الآخرين، فيتعهد نفسه بالرعاية ويمتاز بالشفافية، ويتحرى الصدق في المواقف، والإخلاص في النية، ويلاحق نفسه في كل ذلك. وحتى يتمكن من أن يكون على بينة من هذا الأمر، ومن أن يقوم به على الوجه الصحيح، على حامل الدعوة أن يعرف كيف يتكوّن الرأي عند الإنسان، وكيف يتكون الموقف عنده. فحمل الفكر الصحيح إذا أضيفت إليه المعرفة بواقع الإنسان وكيفية مخاطبته، وكيفية الدخول إلى قلبه، أمكن كسبه كسباً حقيقياً، وكان هذا أوفى لمتطلبات الدعوة، ومحققاً لقول الله تعالى: (وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً) فمعرفة الإنسان مطلوبة، ومخاطبة العقل مطلوبة، ومخاطبة الفطرة مطلوبة، وقد أشار القرآن إلى كل ذلك في كثير من المواضع، وهذا هو منهج القرآن في المخاطبة. فمتى عرف حامل الدعوة واقع الإنسان جيداً، فهم حقيقة الخطاب الإلهي الحكيم جيداً، وفهم موقع التأثير فيه حتى ينحو منحاه ويسير على هداه.

          وحامل الدعوة للناس، هو إنسان مثلهم، يتأثر بما يريدهم أن يتأثروا به، وما يحاول أن يصل إليه في الناس يجب أن يصل إليه في نفسه ليكون العمل الصالح أمامهم، فهو إن أرادهم أن يكونوا أتقياء فعليه أن يكون تقياً قبلهم.

          فحامل الدعوة يجب أن يكون أشد إيماناً وأقرب للتقوى من غيره، لأنه أسبق منهم في القناعة، ولأن قناعته وشدة اهتمامه زائدة على ما عند الآخرين، فهو يحمل لهم الدعوة إلى الإيمان والالتزام والعيش في حياة إسلامية ترعاها دولة إسلامية، فمن الطبيعي أن يسبقهم في التقوى والالتزام ويزيد عليهم في الطاعات، وهذا ما رأيناه في الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

          ومن المهم أن يذكر في هذا المجال، أن ما على حامل الدعوة أن يتصف به من صفات، منها الواجب ومنها ما هو سوى الواجب وهو المندوب يقوم به حامل الدعوة تطوعاً من غير إلزام عن رضى ومحبة لله وللدعوة إليه.

          فالصفات الواجبة في حامل الدعوة مطلوب وجودها على سبيل الوجوب، وعدم وجودها يحجب النصر، والله سبحانه لا ينصر الحركة الإسلامية العاملة في التغيير إذا لم يتصف أفرادها بها وهي كالصبر والتضحية والإخلاص، والصدق والثبات والإنفاق على العمل… ونحن هنا نتكلم عن صفات حامل الدعوة فقط، لا عن مراحل الطريق وخطوات السير.

          أما الصفات المندوبة التي على حامل الدعوة أن يتصف بها على سبيل الندب، فهي تزيده تقرباً من الله ومن النصر، وهي توجد في حامل الدعوة لتكمل شخصيته ولتكمل التزامه. وتوجد كنتيجة طبيعية للقيام بالفرائض ولأن الله سبحانه قد طلب تحقيقها وأحب للمسلم القيام بها. فحين يعيش حامل الدعوة أجواء الدعوة القاسية يجد أن لا ملجأ ولا منجى إلا بالله ويكثُر التجاؤه إلى الله ويكون التجاء الضعيف المستضعف الخائف الذي يطلب من الله النصر والفرج والتمكين والاستخلاف في صلاته وقيامه، وصيامه، وقراءته للقرآن، ودعائه، راجياً وخاشعاً ومتدبراً… وإن الوقت الطويل الذي يقضيه حامل الدعوة، وفي هذه الأجواء القاسية، كفيل بأن تتحول هذه الصفات سواءٌ أكانت واجبة أم مستحبة إلى صفات أصيلة عريقة، وإلى أن تصبح من سماته الثابتة فيه، وهذا ما يلزم لحامل الدعوة أن يتصف به قبل قيام الدولة الإسلامية وبعدها. وهي لا توجد بالقراءة والحفظ والقناعة بها فقط، فإن ذلك أول مراحل وجودها في النفس، ولا تتحول إلى صفات ثابتة إلا بالمعاناة، والعيش بأجواء الدعوة الصعبة، التي تشكل امتحاناً لحامل الدعوة وابتلاءً وتمحيصا، وبالصبر والصدق والثبات على أمر الله. قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتَنون، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدَقوا وليعلمنّ الكاذبين).

          والجدير بالذكر، أنه متى اكتملت شخصية حامل الدعوة في دعوته الناس، اكتملت دعوته في تناولها الإسلام ككل، وذلك بعرض الأساس الذي يقوم عليه الإسلام وهو عقيدة «لا إله إلا الله  محمد رسول الله» وعرض ما يقيم هذه العقيدة في الحياة ويحافظ عليها وينشرها ويعمل على تطبيق الإسلام، وذلك بالدعوة والعمل على إقامة الدولة الإسلامية. وصار بدعوته هذه كأنه يدعو المسلمين إلى التقيّد بأحكام الإسلام في كل جوانب الحياة فيما يتعلق بالحكام الشرعية التي لا توجد إلا بوجود الدولة الإسلامية، وما أكثرها، أو فيما يتعلق بالأحكام الشرعية الفردية التي يحملها للناس كفرد ليتقيدوا بها، من صلاة وصوم وزكاة، والتقيد بأحكام المطعومات والملبوسات والأخلاق في خاصية أنفسهم والابتعاد عن المحرمات… ويَعلم حاملُ الدعوة ويُعلِم الآخرين أن ما يتعلق بأحكام الإسلام الفردية التي لا يتعلق وجودها بوجود الدولة الإسلامية هو كذلك لا يطبق عملياً من جميع المسلمين، ولا يحافظ على تطبيقه إلا بوجود الدولة الإسلامية. فالدولة الإسلامية هي الطريقة العملية لإيجاد الإسلام منفَّذاً في الحياة وليست وسائل الإعلام ولا أساليب الترغيب ولا دروس الوعظ والإرشاد وإن كان كل ذلك مطلوباً ولكنه لا يكفي. لذلك يربط حامل الدعوة دعوته كلها بعمله لإقامة الدولة الإسلامية ويعلم أنها تاج الفروض، بها يقام الإسلام وبها يعز أهله، وبها تنتشر دعوته، وبها يقام الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. لذلك يتعلق حامل الدعوة بالدعوة إلى إقامة شرع الله تعلق التقي المؤمن بصلاحية الإسلام، وبأحقية العبودية لله وحده، لا تعلق هوىً يستأثر بالنفس، ولا شهوة يتطلع بها إلى الحكم.

          وحامل الدعوة هو الغيور على دين الله، يَغيظه أشدّ الغيظ أن يرى أحكام الكفر منتشرة وأهلها ظاهرون، بينما الحق وأهله مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس، ويغضب لأن العزة هذه الأيام ليست لدين الله ولا لرسوله ولا للمؤمنين… ولا يفرحه الفرحة التي تملأ القلب وتذهب الغيظ وتشفي الصدر إلا مجيء نصر الله الذي يتنسم فيه رضى الله، لأن الله لا ينصر إلا من يرضى عليه، ولا ينصر إلا من ينصره (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).

          وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *