العدد 162 -

السنة الرابعة عشرة رجب 1421هـ – تشرين الأول 2000م

أبشِـروا أيها المسلمون، فالخـلافة كائنة، فلا يلفتنَّكم عن العمل لها الذين لا يعملون

          وصلت إلى « الـوعــي» رسالة من أحد الإخوة تحت العنوان أعلاه، فيها مجموعة أحاديث، جمعها من مصادرها، مبيِّناً صحة سندها ودلالة متنها على عودة الخلافة الراشدة بإذن الله. إنَّ هذه الأحاديث النبوية تبشر بعودة الخلافة، وبالتالي فهي تشرح الصدور وتشفي القلوب، وتدفع المسلمين وبخاصة العاملين لإقامة الخلافة، للعمل بجد، وإخلاص وصدق، لعل الله سبحانه أن يكرمهم بعودة الخلافة على أيديهم، فيفوزوا في الدارين: نصر في الدنيا عظيم، وأجر في الاخرة ومقام كريم.

          لقد كان السلف الصالح يفهم الأحاديث المبشرة بالنصر والفتح، يفهمونها حافزاً لهم للعمل لتحقيق ذلك النصر والفتح، وليس أن يتكلوا عليها، فيقعدوا آملين أن يحدث ذلك النصر والفتح وحده. هكذا فهموا الحديث الذي بشرهم بفتح مدينة هرقل (القسطنطينية)، فقد حرص الخلفاء أن يرسلوا الجيوش لفتح القسطنطينية وحرص المسلمون أن يكونوا جنوداً في تلك الجيوش ليكونوا ممن يكرمهم الله بتحقق ذلك الفتح على أيديهم، واستمروا على ذلك إلى أن أكرم الله السلطان العثماني محمداً الفاتح، بفتح مدينة هرقل وجعلها عاصمة دار الإسلام (إسلام بول) أي مدينة الإسلام التي أصبحت فيما بعد (استانبول).

          إنَّ هذه الأحاديث التي جمعها الأخ الكريم يجب أن تكون حافزاً للمسلمين، للعمل بقوة، وجد وإخلاص، لإقامة دولة الخلافة، فيكرمهم الله بتحقيق مدلول تلك الأحاديث على أيديهم فيفوزوا في الدارين وذلك الفوز العظيم.


          يقول الأخ الكريم في رسالته:

          قبل الخوض في موضوع الخلافة وهل هي كائنة أو أنها مجرد أُمنية تخطر ببال المتقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يحسن أن نقوم بتعريف الخلافة والحكم في تنصيب الخليفة وأدلته بإيجاز:

          فالخـلافة رئاسة عامة للمسلمين وهي رئاسة دنيوية لتطبيق الشرع وحمل الدعوة إلى العالم. فهي إمارة عامة وليست خاصة، والخليفة أمير للمؤمنين يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطبيق الشرع لا في تبليغه، ولذلك كانت دنيوية لا دينية، فالخليفة لا يبلغ عن الله، وليس معيناً بوصية من الله، بل يعينه المسلمون لينوب عنهم في التطبيق داخل دار الإسلام وحمل الدعوة خارجها.

          وتنصيب الخليفة فرض على الكفاية، بمعنى أنه مطلوب من الجميع ولا يسقط الإثم إلا بإقامة الفرض فعلاً أو بالتلبس بالعمل لإقامته. أي أنه لا ينجو أحد من الإثم قبل إقامة الخلافة إلا بالتلبس بالعمل الجاد الموصل لإقامتها، وقد رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة هذا العمل عندما أقام الدولة، وتفصيلها في غير هذا المقام.

          أما الأدلة على إقامة هذا الفرض فهي الكتاب والسنة والإجماع:

          أولاً: الكتـاب: قال تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله) وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) وقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). فالآية الأولى خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وخطابه خطاب لأمته ما لم يرد دليل التخصيص، والحكم بما أنزل الله لا يكون إلا بحاكم. وكذلك التحكيم في الآية الثانية لا يكون إلا بحاكم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

          أما الآية الثالثة فإنه سبحانه أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة، ولما كانت الجماعة لا تكون إلا على الخليفة كما يفهم من مجموع أحاديث الجماعة، كان نصب الخليفة واجباً بناءً على نفس القاعدة السابقة.

          ثانياً: السـنة: أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة الله لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» والواجب في هذا الحديث أن تكون في عنق كل مسلم بيعة لا أن يبايع كل مسلم الخليفة، ووجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة سواء بايع بالفعل أم لا، ولهذا كان الحديث دليلاً على وجوب نصب الخليفة لأن البيعة لا تكون إلا له. وعند مسلم من حديث أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به» وهذا خبر أريد به الطلب. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والطيالسي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «… وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع…» والجماعة لا تكون إلا على رجل واحد هو الإمام كما في حديث حذيفة الذي رواه مسلم وفيه «…قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم…» وحديث عرفجة عند مسلم «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» وحديث فضالة بن عبيد عند أحمد والبيهقي «ثلاثة لا تسأل عنهم رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً…»، فهو صلى الله عليه وسلم أمرنا بالجماعة وبين لنا أنها تكون على رجل هو الإمام. وما دامت الجماعة لا تكون إلا على إمام كان نصبه واجباً من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

          ثالثاً: الإجـماع: فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على نصب خليفة خلال ثلاثة أيام ولا حاجة للتفصيل في هذا المقام.

          فالعمل لإقامة الخـلافة فرض بل هو الفرض الذي تقام به الفروض، وكونها ستقوم أم لا، لا علاقة له بالفرض، ولا يجوز للمكلف أن يتعلل بعلم الله وقضائه للقعود عن القيام بهذا الواجب. تماماً كمن عليه نفقة واجبة ولا يجد مالاً للقيام بالنفقة الواجبة، فإنه يجب عليه السعي لقوله عليه السلام: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول أو يقوت» فلا يحل له أن يقعد عن السعي والاكتساب بحجة أن الله لن يرزقه، فالنصر بإقامة الخـلافة والرزق بيد الله فهو الذي ينصر وهو الذي يرزق، وهذا ليس من شأن العبد، وإنما الذي من شأنه أن يسعى في طلب الرزق للنفقة الواجبة، والتلبس بالعمل لإقامة الخـلافة. والله سبحانه لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به، فكون أمريكا قوية وكذلك كثير من دول الكفر لا يشكل رخصة للقعود، فما دمنا مكلفين فعلينا العمل والله متكفل بالنصر.

          على أن الله سبحانه وتعالى قد كشف لنا علمه في هذه المسألة بالدليل القطعي الذي يثبت أن الخلافة كائنة بعد أن يقضى عليها، وأن العدل والحكم بما أنزل الله آت، وهذا مما يزيدنا إيماناً وتصميماً وجدية في العمل، فقد تواترت الأخبار بهذا تواتراً معنوياً، لا يجعل مجالاً للشك أو القعود وهذا بيانه:

          أولاً: حديث الخـلافة على منهاج النبوة:

          أخرج أحمد في المسند عن النعمان بن بشير قال: كنا قعوداً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بشير رجلاً يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء؟ فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».

          ثانياً: حديث دخول الإسلام كل بيت على ظهر الأرض:

          أخرج أحمد في مسنده عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر». قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.

          وأخرج حديث تميم هذا الحاكم في المستدرك ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

          أخرج الحاكم في المستدرك من طريق المقداد بن الأسود الكندي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض من بيت مدر ولا وبر إلا أدخل الله عليهم كلمة الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل يعزهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فلا يدينوا لها». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

          وأخرج حديث المقداد هذا البيهقي في السنن الكبرى إلا أنه قال في آخره: [وإما يذلهم فيدينون له].

          كما أخرج حديث المقداد أحمد في مسنده.

          وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. قال الهيثمي رجال الطبراني رجال الصحيح.

          وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه.

          وأخرج الحاكم من حديث أبي ثعلبة الخشني يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة رضي الله تعالى عنها ثم يأتي أزواجه. فلما رجع خرج من المسجد تلقته فاطمة عند باب البيت تلثم فاه وعينها تبكي، فقال لها يا بنية ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله ألا أراك شعثاً نصِباً قد اخلولقت ثيابك! قال فقال فلا تبكي فإن الله عز وجل بعث أباك لأمر لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلا أدخل الله به عزاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث بلغ الليل». قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

          وأخرج الطبراني حديث أبي ثعلبة في مسند الشاميين.

          هذا الحديث رواه ثلاثة من الصحابة ورواه عنهم على الأقل ثلاثة من التابعين ورواه عنهم تسعة من تابعي التابعين على الأقل. وفيه إخبار عن دخول الإسلام كل بيت على ظهر الأرض وأكثر أوروبا الغربية لم يدخلها الإسلام وكذلك الأمريكيتين وأستراليا وكثير من إفريقيا. ودخول الإسلام فسّر الحديث بأنه إما الدخول في الإسلام أو بالدينونة له أي الخضوع، والخضوع لا يكون إلا بالحكم، وكل الروايات تصرح بالدينونة للإسلام إلا رواية الحاكم التي ذكرناها، ويمكن فهمها على أنهم لا يدينون بكلمة الإسلام ولكنهم يذلون لها بالجزية والخضوع لأحكام الإسلام، فهي لا تخرج عن معنى بقية الروايات. ثم الخضوع لحكم الإسلام يستلزم وجود دولته، فالحديث بمفهومه يدل على أن دولة الإسلام كائنة وأنها تعم الأرض بسلطانها.

          ثالثاً: حديث الورق المعلق:

          أخرج الحاكم في المستدرك من طريق عمر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون أي أهل الإيمان أفضل إيماناً؟ قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: هم كذلك ويحق ذلك لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنـزلة التي أنزلهم بها بل غيرهم، قالوا: يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة. قال: هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنـزلة التي أنزلهم بل غيرهم. قال قلنا فمن هم يا رسول الله؟ قال: أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يروني ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

          وأخرج البزار من طريق عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه: «أولئك أعظم الخلق منـزلة وأولئك أعظم الخلق إيماناً عند الله يوم القيامة».

          قال الهيثمي: أحد إسنادي البزار المرفوع حسن. المنهال بن بحر وثقه أبو حاتم وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح.

          هذا الحديث رواه على الأقل ثلاثة من تابعي التابعين عن ثلاثة من التابعين عن صحابي. وهو يدل بمفهومه على أن دولة الإسلام كائنة بعد أن يقضى عليها، والذي يدل على أنها كائنة قوله: [فيعملون بما فيه] وما من ألفاظ العموم فتشمل عمل الأفراد كالصلاة وتشمل عمل الدولة كالحدود وحمل الدعوة وعقد المعاهدات وتطبيق سائر الأحكام التي جعلها الله سبحانه وتعالى من اختصاصها. وأما الدليل على أنها تكون بعد القضاء على دولة الإسلام الأولى فقوله: [فيجدون الورق المعلق]، والورق المعلق يشمل الكتاب والسنة، وقد كان هذا الورق موجوداً زمن الصحابة، وكان بعض السنة معلقاً أيضاً عند بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو، وكان معلقاً أيضاً عند الأجيال التي جاءت بعد الصحابة، فما الفرق بيننا وبينهم؟ الفرق والله أعلم أنهم وجدوا الورق المعلق ووجدوا الدولة التي تعمل به، أما نحن فلم نجد إلا الورق المعلق ولم نجد الدولة فعملنا لها وسنعمل به فيها إن شاء الله. فيكون معنى الحديث: فيجدون الورق المعلق لا يعمل به فيعملون بما فيه كله. أي أن الورق المعلق لا يعمل به قبلهم فيعملون به. أي أنهم يجدونه على الرفوف فيضعونه موضع التطبيق في الحياة.

          وفي هذا الحديث دقيقة ينبغي التنبيه إليها وهي أن هؤلاء الأقوام ليسوا أفضل من الملائكة والأنبياء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملائكة والأنبياء [هم كذلك] أي أنهم أفضل أهل الإيمان إيماناً، أي أنه من الطبيعي والبديهي أن يكونوا كذلك، ولا يحتاج هذا إلى سؤال، والذي يحتاج إلى السؤال عنهم هم غيرهم ممن لا يكونون بمنـزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فهذا الفضل في إيمانهم يحق لهم بالمنـزلة التي أنزلهم الله إياها. فهؤلاء الأقوام أفضل أهل الإيمان إيماناً خلا الملائكة والأنبياء. وكونهم أفضل أهل الإيمان إيماناً لا يجعلهم أفضل من الصحابة، ذلك أن فضلهم محصور بالإيمان أي مقيد بالإيمان وليس فضلاً مطلقاً، وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: [إيماناً]، فالفضل كما يكون بالإيمان والتقوى، يكون بالأعمال، وهؤلاء الأقوام إنما فضلوا غيرهم بكونهم آمنوا بورق معلق وعملوا به دون أن يروا نبياً ولا وحياً ولا دولة، ففضلهم محصور ومقيد بهذه الجزئية من التفاضل، لكن لو جمعنا الجزئيات التي يتفاضل بها المؤمنون أي التفاضل مطلقاً لكان الصحابة خيراً منهم ولا كلام.

          رابعاً: حديث نزول الخـلافة الأرض المقدسة:

          أخرج أبو داود من طريق ابن زغب الأيادي قال: نزل عليّ عبد الله بن حوالة الأزدي فقال لي: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئاً، وعرف الجهد في وجوهنا فقام فينا فقال: اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم. ثم وضع يده على رأسي أو قال على هامتي ثم قال: يا ابن حوالة، إذا رأيت الخـلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك». قال الألباني صحيح.

          وأخرجه الحاكم من طريق ابن زغب الإبادي وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه أحمد بنفس إسناد الحاكم.

          هذا الحديث إن كان ابن زغب هو عبد الله فهو صحابي، وإن كان عبد الرحمن فهو تابعي فيكون رواه صحابيان على القول الأول وصحابي واحد على القول الثاني. وتابعي واحد على القول الأول وتابعيان على القول الثاني، وثلاثة من تابعي التابعين على القولين. وهو يدل بمنطوقه على أن الخـلافة ستنـزل الأرض المقدسة، ولا يقال إنها قد نزلتها في عهد الراشدين، لا يقال ذلك لأنها لم تدن الزلازل والبلايا والأمور العظام بعد الفتح، وهذا يقتضي نزولاً ثانياً تكون بعده الزلازل والبلابل والأمور العظام.

          خامساً: حديث عقر دار المؤمنين بالشام:

          أخرج ابن حبان في صحيحه تحت باب: ذكر البيان بأن الشام هي عقر دار المؤمنين في آخر الزمان: من طريق النواس بن سمعان قال… فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… وعقر دار المؤمنين الشام».

          وأخرجه أحمد من حديث سلمة بن نفيل أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال… فقال له النبي صلى الله عليه وسلم… ألا إن عقر دار المؤمنين الشام…

          وأخرجه الطبراني في الكبير من طريق سلمة بن نفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقر دار الإسلام بالشام». قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله ثقات.

          هذا الحديث يرويه خمسة من تابعي التابعين عن اثنين من التابعين عن اثنين من الصحابة. ويقتضي صدق المخبر أن يكون الحديث عن عقر دار الإسلام الثاني لا عن عقرها الأول. إذ عقر الدار وسطها وأصلها، وعقر الدار الأولى كانت المدينة المنورة، وهذا يقتضي أن يكون المراد هنا عقر الدار الثانية.

          سادساً: حديث العدل والجور:

          أخرج أحمد في المسند من طريق معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره. ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره».

          قال الهيثمي: فيه خالد بن طهمان وثقه أبو حاتم والرازي وابن حبان وقال يخطئ ويهم وبقية رجاله ثقات.

          وقال الشافعي في أحكام القرآن عند تفسير قوله تعالى: (أن تحكموا بالعدل): اتباع حكمه المنـزل.

          هذا الحديث رواه واحد من تابعي التابعين عن اثنين من التابعين عن صحابي واحد. وهو يدل على أنه سيأتي على الناس زمان يحكمون فيه بالإسلام لا يخالطه غيره، بعد أن يمر عليهم زمان يحكمون فيه بغير ما أنزل الله صرفاً لا يخالطه من الإسلام شيء. فكل حكم بغير الإسلام جور وكل حكم به عدل. وقد ولد في الجور من لا يعرف غيره، وسيأتي الله سبحانه بالعدل، أي بالدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله لا تخلط بالعدل غيره.

          ولا يقال إن العدل سيأتي بالتدريج، وأنه يمر على الناس زمان يحكمون فيه بخليط من العدل والجور، ثم ينقى العدل من الجور حتى يكون عدلاً محضاً لم يشب، لا يقال هذا لأن العدل لا يجتمع مع الجور ولا يسمى حينئذٍ عدلاً، فالحاكم الذي ينهب الملكية العامة ثم يقطع يد السارق لا يسمى قطعه هذا عدلاً، والحاكم الذي يأذن بوجود أحزاب تدعو إلى العبادات وطباعة كتب الثقافة الإسلامية ولا يأذن بوجود أحزاب إسلامية سياسية لا يعتبر فعله عدلاً، والحاكم الذي يشتري الأسلحة من الكفار ويمنع تصنيعها في بلاد المسلمين لا يعتبر شراؤه عدلاً. والحاكم الذي يشجع على إحياء الأرض الموات ويأذن بأخذ القروض الربوية لا يسمى تشجيعه عدلاً. والحاكم الذي يبيح الاختلاط والخلوة ويأذن بخروج النساء كاسيات عاريات وبسفرهن مع غير المحارم ثم يقيم حد الزنا لا تسمى إقامته للحد عدلاً. فالعدل يمكن أن يأتي بالتدريج في الأمكنة لا في ماهيته وأحكامه، فكلما انضم أو ضم قطر جاءه العدل وذهب عنه الجور.

          سابعاً: حديث مهاجر إبراهيم والهجرة بعد الهجرة:

          أخرج أبو داود في السنن: من طريق عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم…».

          وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه: من طريق موسى بن علي بن رباح قال سمعت أبي يقول: … قال أبو هريرة حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر الحديث.

          وأخرجه أحمد في مسنده من طريق عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر الحديث.

          هذا الحديث رواه على الأقل خمسة من تابعي التابعين عن ثلاثة من التابعين عن اثنين من الصحابة. وهو يدل على أنها ستكون هجرة إلى الشام بعد الهجرة إلى المدينة، والهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، وكان الخروج في المرة الأولى إلى المدينة وسيكون الخروج في المرة الثانية إلى الشام. يؤيد هذا الفهم حديث عقر دار الإسلام.

          ثامناً: حديث الغرباء النـزَّاع من القبائل:

          أخرج مسلم في صحيحه: من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء».

          وأخرجه ابن ماجة: من طريق أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وذكر الحديث. قال الألباني حسن صحيح.

          وفي رواية عند ابن ماجة: عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء؟ قال: النـزاع من القبائل».

          وفي رواية عند ابن ماجة أيضاً: من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.

          وأخرجه الترمذي من طريقين وقال حسن صحيح فيهما:

          الأولى: عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ثم قال وفي الباب عن سعد وابن عمر وجابر وأنس وعبد الله بن عمرو.

          الثانية: من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأورية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي».

          وأخرجه أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.

          أسانيد هذه الأحاديث التي تتبعتها فيها سبعة من الصحابة وتسعة من التابعين وتسعة من تابعي التابعين. ووجه الاستدلال به على ما نحن فيه أنه يخبر عن رجوع الإسلام وعودته كما بدأ، ورجوع الإسلام يعني رجوع دولته وإلا فالإسلام موجود والمسلمون موجودون إلا أنه غائب عن حياتهم.

          وخلاصة القول أن الخبر عن رجوع دولة الإسلام وأنها كائنة، هذا المعنى قد تواتر، فقد رواه على الأقل خمسة وعشرون صحابياً، ورواه عنهم تسعة وثلاثون تابعياً ورواه عنهم اثنان وستون من تابعيهم، ممن يؤمن تواطؤهم على الكذب، وبهذا يثبت التواتر المعنوي. على أن هناك أحاديث وآثار في الباب لم تعد الحاجة قائمة للتفصيل فيها لثبوت التواتر المعنوي بما ذكر.

          منها ما أخرجه الحاكم وصححه عن أبي شريح: [… فسمعت من يقول إنهم اثنتا عشرة غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً فيجتمع المسلمون إلى صاحبهم ببيت المقدس].

          ومنها عند ابن عساكر ولم أخرّجه عن ميسرة بن جليس عنه صلى الله عليه وسلم: «هذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ كائن بعدي بالمدينة ثم بالشام ثم بالجزيرة ثم بالعراق ثم بالمدينة ثم ببيت المقدس، فإذا كانت ببيت المقدس فثم عقر دارها ولن يخرجها قوم فتعود إليهم أبداً» وأظن أن المقصود بالمدينة الثانية مدينة هرقل.

          ومنها عند ابن عساكر ولم أخرجه أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون في بيت المقدس بيعة هدى».

          ومنها عند الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا وقعت الملاحم خرج بعث من الموالي من دمشق هم أكرم العرب فرساً وأجوده سلاحاً، يؤيد الله بهم الدين».

          وأخرج الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمرو قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام.

          فالسعيد من بادر إلى العمل مع العاملين لقيامها، وأخلص عمله لله، لعل الله يتقبل منه فيكون من الغرباء النـزاع الذين يغرسهم الله لهذا الدين، والشقي من والى الكفار والمنافقين في صدهم عن هذا السبيل، والخاسر من أتبع نفسه هواها ووقف متفرجاً ينتظر على من تدور الدائرة q

ع.ع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *