العدد 200 -

السنة الثامنة عشرة رمضان 1324هـ – تشرين الثاني 2003 م

موقف العلماء الجهاديين من أحداث السعودية (4)

موقف العلماء الجهاديين من أحداث السعودية (4)

ذكرنا سابقاً أن الدولة السعودية تتعاون مع أميركا إلى أقصى الحدود في حربها على الإسلام، ولا يكاد يمرّ يومٌ من غير ذكر ملاحقة الإسلاميين والقبض عليهم أو قتلهم…

وذكرنا كيف أن النظام السعودي يحتفظ حوله بثلّةٍ من العلماء، باعت دينها بدنيا آل سعود. أعطاهم النظام اسماً وشهرة ومناصب، فساروا مع النظام السعودي في تغطية أعماله الإجرامية وإضفاء الشرعية عليها…

وذكرنا كيف أن علماء ما يسمّون بالصحوة الإسلامية توقفوا حيث كان يجب أن يتقدموا، ولم يقدموا مشروع حل شرعي ينتظره منهم الكثير، بل ظهر منهم ما لا يشجع… وقد يكون يكون السبب في ذلك أن الأمر أكبر منهم علماً وموقفاً…

وبقي أن نذكر موقف العلماء الجهاديين: كيف ينظرون للواقع؟ وما هو مشروعهم للحل؟ وما موقف علماء السعودية منهم؟ وما الموقف الشرعي منه؟

بعدما وقف الحكم السعودي موقفه المشين، عقب ضرب أميركا للعراق سنة 1991م، وبعدما قام علماؤه الموظفون الرسميون، بإصدار الفتاوى التي تبرر موقفه، وتعتبره شرعياً، وبعدما حاصر علماء الصحوة، وضيّق عليهم، حتى شلّ إرادتهم، وجعل حركتهم غير فاعلة…؟ كانت نفوس مسلمين آخرين في السعودية، قد اتّقدت غيظاً مما جرى ويجري، وغلت نار الغيرة على الإسلام في دمائهم، وهالهم ما رأوه من انتهاك حرمات هذا الدين، وارتكاب المجازر بحق المسلمين…

رأوا أميركا تستهين بالإسلام، وتفتك بالمسلمين، وتستعمل أسلحة الدمار الشامل ضدهم، وتلقي في كل معركة تخوضها ضدهم مئات آلاف الأطنان من أسلحتها المحرّمة دولياً، وتساند اليهود ضد المسلمين، وتمنع المسلمين من استعادة قوتهم ووحدتهم، والرجوع إلى دينهم… رأوا أن أميركا قد احتلت جزيرة العرب وإن لم يسمّوا ذلك بالاحتلال، بحيث صار عديد الجيوش الأميركية أكبر بكثير من عديد الجيش السعودي، وأسلحته المتطورة جداً، لا يقارن السلاح السعودي بها بل يعتبر خردة… رأوا أن إرادة أميركا هي التي تسود، وأن الحرمين الشريفين قد حوصرا، والمسلمين قد ديست كرامتهم، وأن الإسلام هو المقصود.

رأوا حكام السعودية يقدمون لأميركا الأرض والبحر والجو، والمال والأمن والدعم… في حربها على الإسلام، رأوا كيف أن هؤلاء الحكام يستعينون بعلماء يبدو عليهم أن قد ضرب بينهم وبين رضا اللَّه بسور، وأنه قد ران على قلوبهم فأصبحت غلفاً لا تفقه من الواقع شيئاً ولا تأبه للشرع، يفتون لمصلحة حكام السعودية وأميركا في نفس الوقت، حيث يقولون عن جيوشها إنها مشكورة ومأجورة… رأوا أن السبل قد سدّت في وجه من يقف في وجوههم، فصبّوا جامّ غضبهم على النظام السعودي، ولكن من غير أن يقوموا بأي عمل مادي ضده، بل قرروا أن يواجهوا أميركا نفسها، أن يضربوا وجودها في السعودية، فقاموا بعدد من التفجيرات الكبيرة ضد أهداف أميركية، كان آخرها تفجيرات الرياض… فقامت قيامة النظام السعودي عليهم، وقامت أجهزته الأمنية والعسكرية بتعقبهم وضربهم، وأدخلت عملية ملاحقتهم ضمن ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وكعادتها أوعزت إلى العلماء الجاهزين، والذين يعتبرون تحت الطلب لإصدار فتاوى ضدهم فسمعوا وأطاعوا وقاموا بما أمروا به، فوصفوهم بالجهل، والبغي، والغلو، والمروق، والإرهاب، وعدم التوفيق بين النصوص، وعدم التفريق بين الجهاد والإرهاب، وإساءة الظن بالعلماء وبولاة الأمور… وحكم بعضهم بردة مرتكبي هذه المجازر واستغلوا مقتل بعض المسلمين، في هذه التفجيرات ليشوهوا صورتهم وأهدافهم…

إننا لو عدنا إلى أدبيات العلماء الجهاديين التي تشكل منطلقهم الفكري، لوجدنا أن هذه الفئة ترتكز على أصول شرعية، وعملهم وهدفهم شرعي، قد نختلف معهم عليها، ولكنها ليست فورة شباب: أو تصرف مراهقين كما يصورونهم، بل هي حمية الإسلام، والغيرة على المسلمين. إن العمل الجهادي في السعودية له فكره الشرعي الذي ينطلق منه، وله امتداده خارج السعودية، والذي يمثله بالتحديد تنظيم القاعدة. فعندما حدثت تفجيرات 11 أيلول، وجد تعاطف شديد، من قبل كثير من الشباب السعودي الملتزم، مع منفذيها الذين هم بغالبيتهم من السعودية، حتى أنهم كانوا يسمون بعض المشاركين فيها بالأسماء، ويذكرونهم بالخير، باعتبار أنهم من معارفهم؛ لذلك يرى المراقب أن مادة الفكر وطريقة التفكير، وفقه الواقع عندهم واحد.

إن وجود علماء ومشايخ جهاديين، مع وجود تشكيلة كبيرة من الشباب الجهاديين، جعل العمل الجهادي مكتملاً بفرعيه الفكري والعملي. هذا مع العلم أن هذا التيار الجهادي لم يواجه النظام السعودي مادياً بل فكرياً. وأن المواجهة المادية انصبت على أميركا ابتداءً. ومن أبرز علماء الداخل ناصر الفهد، وعلي الخضير، وأحمد الخالدي، وحمد الحميدي (معتقل) وسليمان الحصين،… وهؤلاء يرون أن النظام السعودي قد فقد الشرعية، ولا تجب له طاعة، وكفروا كل من يعين الأميركيين، أو يقاتل في صفهم، أو يواليهم… واستدلوا بآيات وأحاديث كثيرة، ونقلوا أقوال علماء سلفيين، وغير سلفيين، موثوق بهم، لتأييد رأيهم واعتبروا أنه يجب على المسلمين عدم السكوت، وحرموا القعود عن الجهاد ضد الأميركيين، وأوجبو العمل على إخراجهم من جزيرة العرب التي لا يجوز أن يوجد فيها إلا دين الإسلام.

ولقد أصدر المشايخ علي الخضير وناصر الفهد وأحمد الخالدي ثلاثة بيانات، يكشف محتواها بعضاّ مهماً من فكر الحركة الجهادية.

فالبيان الأول كان رسالة موجهة إلى جميع العاملين من مدنيين وعسكريين، ممن أرادوا المشاركة تحت لواء النصارى الأميركان والإنجليز ونحوهم، في حملتهم الصليبية ضد إخواننا المسلمين المستضعفين في العراق.

(إن الدخول تحت راية النصارى الكفار، والقتال معهم، وإعانتهم بأي نوع من أنواع الإعانة: كالقتال معهم، أو أن يكون قوة إسناد لهم، أو يقوم بتأمين خطوط الإمداد، أو تأمين خطوط التموين، وجلب الطعام والشراب لهم، أو يقوم بنقلهم من موضعٍ إلى غيره، أو سهل لهم ذلك، أو قام على حراستهم…، أو غير ذلك من أوجه المساعدة والإعانة، فقد كفر باللَّه العظيم وارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام بالإجماع).

أما البيان الثاني فقد كان على شكل رسالتين. لشباب الجهاد. الأولى للمعتقلين والمطاردين، وقد جاء فيها: (إلى الأخوة الذين ابتلوا بالأسر والتعذيب، ونحو ذلك، فنقول لهم: إن هذا هو طريق الأنبياء والصالحين من قبلكم، ولا يمكن للدين أن ينتصر إلا بالمرور بمثل هذه العوائق والعقبات، واعلموا أيها المجاهدون، أن ما أصابكم ويصيبكم من قتل، أو تشريد، أو نفي، أو أسر، أو ابتلاء، أو مطاردة، أو تعذيب، وغير ذلك، فإنه رفعة لكم في الدنيا والآخرة، بحول اللَّه وقوته، وزيادة في أجوركم.

ونحن نعلم أنهم ما نقموا منكم إلا الجهاد في سبيل اللَّه، ونصرة المستضعفين من المسلمين… ومن المؤسف أنكم لم تسلموا من بعض من ينتسب إلى العلم والدعوة، والخير، الذين لم يكتفوا بخذلانهم لكم، بل تكلموا في أعراضكم…)

أما الرسالة الثانية فقد كانت لمن لم يعتقل، وجاء فيها: (إلى الأخوة المجاهدين العاملين، والذين قد يهِنون لما أصاب إخوانهم في سبيل اللَّه فنقول لهم: امضوا على بركة اللَّه في عملكم لدين اللَّه، فإن هذا هو السبيل، ولا تلتفتوا لمثل هذه العقبات، ولا تجعلوا ما حل بإخوانكم يفت في عضدكم، ولا تيأسوا من روح اللَّه، وكونوا كعباد اللَّه الذين قال تعالى فيهم (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران/146] وخذوا حذركم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ)[النساء/71]).

وأما البيان الثالث، فجاء على شكل رسالة لمنسوبي جهاز المباحث، وجاء فيه: (إن تتبع المجاهدين في سبيل اللَّه لأجل جهادهم، أو مناصرتهم للجهاد، ومطاردتهم واعتقالهم، ونحو ذلك، هو أعظم أنواع المناصرة للصليبيين عليهم. ومن ناصر الصليبيين على المجاهدين، بأي نوعٍ من أنواع النصرة، سواء بكتابة التقارير ضدهم، أم التجسس عليهم، أم التبليغ عنهم، أم المطاردة لهم، أم اعتقالهم، أم التحقيق معهم، ونحو ذلك، فهو كافر مرتد عن دين اللَّه، وإن كان يصلي، ويزكي ويصوم، وينطق الشهادتين، ويزعم أنه مسلم. وهل من إعانة للكفار في (حملتهم الصليبية) أعظم من هذه الإعانة؟! وهل من خدمة لطاغوت العصر (أميركا) أكبر من هذه الخدمة؟ فما تمكنت أميركا من تحجيم الجهاد في سبيل اللَّه واعتقال بعض المجاهدين، وجمع المعلومات عنهم، ومحاصرة الكثير منهم، وقطع التبرعات عنهم، وتجميد أموال كثير من أهل الخير إلا بمثل ما يقوم به هؤلاء).

ويلاحظ في هذه البيانات الثلاثة أن العلماء الذين أصدروها، اعتمدوا، لتأييد فهمهم، وإثبات صحته، على أدلة شرعية، وعلى أقوال علماء معتبرين، عند جميع السلفيين. ومن ذلك:

– فإنهم عندما كفروا، من يعين النصارى، ويدخل تحت رايتهم نقلوا قول الشيخ عبد العزيز بن باز في فتاواه 1/274: (وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين، وساعدهم بأي نوعٍ من المساعدة، فهو كافرٌ مثلهم، كما قال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة/51]).

– وعندما ذكروا كفر من والى المشركين نقلوا قول العلامة عندهم محمد بن عتيق في كتابه (سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك) الذي قال فيه: (فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أن اللَّه سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم، وشدد فيها، حتى إنه ليس في كتاب اللَّه تعالى حكم، فيه من الأدلة أكثر ولا أبين، من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده، قال تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)[المائدة/80]). واستشهد بقول ابن تيمية: (فبين سبحانه أن الإيمان باللَّه والنبي، وما أنزل إليه، ملتزمٌ بعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم).

– كذلك نقلوا قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في (المورد العذب الزلال): (فمن أعظمها – يعني نواقض التوحيد – أمور ثلاثة، ثم قال: الأمر الثالث: موالاة المشرك والركون إليه، ونصرته، وإعانته باليد أو اللسان أو المال).

– ونقلوا عن الشيخ عبد اللَّه بن عبد اللطيف آل الشيخ قوله في (الدرر السيئة): (التولي: كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي. والموالاة: كبيرة من كبائر الذنوب كبر الدواة، أو يرى القلم، أو التبشبش لهم، أو رفع السوط لهم).

يتبين مما سبق عرضه أن العلماء الجهاديين اتهموا النظام السعودي بمظاهرة الصليبيين الأميركيين، وبموالاتهم، وبإعانتهم على المسلمين، وكفروا آحاد من يفعل ذلك، ولكنهم لم يفكروا بمواجهته مادياً، وحتى الآن لم يقوموا بأي عمل ضده. بيد أنهم قرروا أن المواجهة المادية تبدأ أولاً مع أميركا، ويظهر ذلك من أقوالهم وأفعالهم. ففي خطبة جمعة للشيخ الدكتور سليمان الحصين بعنوان (وجوب جهاد الصليبيين في جزيرة العرب)، ذكر فيها: “إن الواجب علينا أن نتنادى جميعاً لطرد الصليبيين من بلادنا، إنهم يقومون انطلاقاً من بلاد المسلمين لضرب المسلمين.. إننا آثمون جميعاً لسكوتنا عنهم، فالقواعد العسكرية، والمطارات، والموانئ، والأجواء المفتوحة، كل ذلك إعانة منا للصليبيين، وإن فتنة عظيمة تنتظرنا إذا استمر سكوتنا ورضينا بعجزنا…. إن الحروب الصليبية توحد المسلمين وتجمع كلمتهم… يجب أن يعلم الصليبيون الحاقدون، من الأميركيين والبريطانيين، أنهم هدفٌ لنا إن لم يسارعوا بالانهزام، أيها المؤمنون، إذا عجزت الحكومات والأنظمة عن فعل ذلك، أو رضيت به و أقرت به، وجب على الأفراد النفير للقضاء على الصليبيين وإخراجهم… ونحن اليوم، غزانا الروم، واستباحوا بلادنا، وانطلقوا منها لحرب المسلمين وغزوهم، ولا زلنا نتناقش ونتجادل: هل الجهاد فرض عين أو لا؟ وهل يلزم فيه إذن الإمام أو لا… ونخشى واللَّه بسبب قعودنا أن لا يسلم أحدٌ منا من صفة النفاق… إنها إبادة أمة، إنها اغتيال للعزة في نفوس الأمة، إنها استمرار لسياسة التركيع والخنوع، أنظن أن سكوتنا عن جهادهم وقتالهم وإخراجهم من بلادنا، سيحفظ علينا الأمن والاستقرار، كلا واللَّه، إن سكوتنا مشاركة في الجريمة، إن سكوتنا دليلٌ على استحقاقنا لغضب الجبار جل جلاله… لن يعيد لأمتنا اليوم عزها ومجدها، ولن يرفع الذل عنها إلا الجهاد في سبيل اللَّه… إن شباب الإسلام مهما قرعت أسماعهم المواعظ والخطب، فلن تحيا قلوبهم إلا بـ حي على الجهاد، حي على الجهاد، حي على الجهاد”.

هذه الخطبة، نقلنا منها ما يوضح تماماً موقف العلماء الجهاديين، من ان الجهاد وحده هو الطريق الوحيد اليوم، الذي يعيد العزة المفقودة للأمة، ويرفع عنها الذل، وان الجهاد يكون ضد اميركا وبريطانيا الصليبيتين.

ان الموقف الجهادي الذي وقفه علماء الجهاد، في السعودية، يلتقي مع الموقف الجهادي خارجها، إذ إنه يخرج من مشكاة واحدة، وملخصه: إن حضور الجيوش الاميركية، وتمركزها في بلاد الحرمين، بعد غزو صدام للكويت، يعتبر اكبر جريمة، واعظم خيانة، اقترفها حكام السعودية والخليج، الذين يشترون البقاء على العرش باي ثمن، ثم مباركة ذلك بفتوى دينية من علماء السلطة اعتبرت ان هذه القوات جاءت للدفاع عن حياض الإسلام. ومع ان مثل هذه الفتاوى لا تملك نصيباً من التقوى، فقد جاء الواقع ليفضح الحكام وعلماءهم، ويظهر فسادهم، فقد صالت أميركا، وجالت، وخاضت في دماء المسلمين، واذلتهم، وارتكبت في حقهم افظع المجازر، ولم تراعِ حرمة شيخ ولا امرأة ولا رضيع، بل انهالت على الحجر والشجر والبشر بحمم الموت، حتى اصبحت الاجسام كالركام مقطعة الاشلاء. لقد وصل إجرام أميركا الى الدرجة التي أوجدت عقداً نفسية عند جنودها، بالإضافة إلى انتحار بعضهم. هذا الواقع الذي اشترك في صنعه، الى جانب أميركا الحكام والعلماء العملاء، من الطبيعي ان يرفضه المسلمون، ومن بين هؤلاء من ذهب ابعد من الرفض، والإنكار القلبي، وقرر أن الجهاد في سبيل الله ضد أميركا هو مفتاح تغيير أحوال المسلمين، ورد أميركا على اعقابها، وحتى تغيير الحكومات غير الإسلامية. فإقامة الدولة الإسلامية طريقه الجهاد في سبيل الله. ولكن أولاً المطلوب هو الجهاد ضد الأميركيين، والوجود الأميركي في المنطقة. ولأن أميركا لا يمكن ان تواجهها دول، فيجب هزيمتها بحرب غير تقليدية، وبجيوش غير نظامية…

هذا هو موقف هؤلاء العلماء، وخلفيته الشرعية. فما هو موقف علماء المسلمين في السعودية منهم؟

سبق ان ذكرنا موقف العلماء الرسميين منهم، وقلنا إنه موقف تابع لموقف حكام السعودية، ويصب بالتالي في مصلحة أميركا في حربها على الإسلام. كذلك ذكرنا موقف العلماء الصحويين، الذي أدان هذه التفجيرات، لعدة أسباب، منها أنها تشكل الشرارة الأولى لإثارة الفتنة في الداخل، وتشكل كذلك فرصة مناسبة للتدخلات الخارجية، بحجة ملاحقة الإرهاب، ولأنها لا تقوم على مراعاة المصالح والمفاسد، ولم يميز أصحابها بين ثبات مبدأ العداوة في الدين، وبين سعة أساليب التعاون مع المخالفين، ورفضوا أن تزهق دماء مسلمة معصومة.

وإذا كان العلماء الرسميون قد قدموا حلاًّ لما يجري، وهو السمع والطاعة لولي الأمر، والالتفاف حول قادة المملكة، ومناصحتهم، والتعاون معهم، والدعاء لهم… فإن العلماء الصحويين لم يقدموا حلاًّ، مع أن الأحداث، في السعودية وخارجها، تسير بسرعة، وتنبئ بتطورات مأساوية، وإن لم يسبقها هؤلاء فستسبقهم، وإن لم يمتلكوا القدرة على القيادة فستقودهم… بيد أن هناك مؤشرات فكرية، قد توحي بأن طريقة الحل عند هؤلاء العلماء ربما تكون إصلاحية، مع العلم أن فكرة الإصلاح لأفراد المسلمين صحيحة، لأنهم مسلمون من حيث الأساس، أما الدولة السعودية فليست كذلك، لأنها ليست إسلامية من حيث دستورها، ولا قوانينها منبثقة من العقيدة الإسلامية بل هي تتستر بالمذهب الوهابي تستراً. وهي تقوم على التحلّل من النصوص الشرعية عن طريق نظام اللوائح، وإيجاد تشريعات وضعية لتحل محل الشريعة الإسلامية، فضلاً عن تعاملها بالربا، واعترافها بالقوانين الدولية الكافرة، والمؤسسات الدولية القائمة عليها، ورضاها بالاحتكام إليها. ثم إن المواقف التي تقفها الدولة السعودية مع أميركا في حربها على الإسلام، لتدل بعمق على هوية هذا النظام. وليس هذا فحسب، فحتى نحكم على النظام السعودي بأنه إسلامي أو غير إسلامي فعلينا أن ننظر إلى دستوره، وكيفية انبثاق أحكامه هل هو من العقيدة الإسلامية؟ وعلينا أن ننظر إلى شكل الحكم هل هو إسلامي، أي نظام خلافة، يحكمه خلفاء، اختارتهم الأمة ليحكموهم بالإسلام؟ وهل النظام الاقتصادي قائم في المملكة على أساس الإسلام من حيث بناؤه وتطبيقاته؟ وهل السياسة الخارجية قائمة على أساس الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام؟ طبعاً لا نجد شيئاً مما ذكرنا في السعودية.

ثم إن هناك موقفاً ممّا يجري في السعودية قد تسمعه من علماء مستقلّين، لم يحسبوا أنفسهم على أي فئة، وملخصه أن هذه التفجيرات لا تجوز شرعاً، ولا تحقق للدعوة مصلحتها، لأسباب منها:

– إن كثيراً من ضحايا هذه التفجيرات من المسلمين، ودماء المسلمين معصومة، وقتل النفس المسلمة بغير حق، من الموبقات السبع، وقد يحرم المسلم من الجنة بدم أراقه.

– إن غير المسلمين من الكفار فيهم من ليس من المقاتلين، بل هو ممن قدم بعهد أو شبهة عهد… ويقولون إذا كان بعض الشباب قد انطلقوا في استباحة دماء من يفِدون معاهدين إلى بلاد الإسلام، من منطلق عدم شرعية الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية، ويترتب على ذلك بطلان عهودهم، فإنهم يردون عليهم، بان هؤلاء المعاهدين لهم شبهة عهد، ويستدلون على ذلك بأحاديث منها: فقد روى عبد الرزاق في المصنف، وسعد بن منصور، والبيهقي، وأبو عبيد في الأموال، عن فضيل الرقاشي، قال: (شهدت قرية من قرى فارس يقال لها شاهرتا، فحاصرناها شهراً، حتى إذا كنا ذات يوم، وطمعنا أن نصبحهم، انصرفنا عنهم عند المقيل، فتخلف عبد لنا، فاستأمنوه، فكتب إليهم في سهم أمانا، ثم رمى به إليهم، فلما رجعنا إليهم، خرجوا في ثيابهم، ووضعوا أسلحتهم، فقلنا: ما شأنكم؟ فقالوا: أمّنتمونا، وأخرجوا إلينا السهم، فيه كتاب أمانهم، فقلنا: هذا عبد، والعبد لا يقدر على شيئ، قالوا: لا ندري عبدكم من حرّكم، وقد خرجوا بأمان، قلنا: فارجعوا بأمان، قالوا: لا نرجع إليه أبداً، فكتبنا إلى عمر بعض قصتهم، فكتب عمر: إن العبد المسلم من المسلمين، أمانه أمانهم، قال: ففاتنا ما كنا أشرفنا عليه من غنائمهم).

– إن هذه التفجيرات لا تحقق المصالح المرجوة منها، بل الواقع، إن مفاسدها أكثر من مصالحها، ومن هذه المفاسد، تحقيق مزيد من تسلط الغرب على بلاد المسلمين.

– تشويه صورة الصالحين لدى الناس، وظهورهم بمظهر القتلة، ومحاصرة الدعاة، وتعويق طريق الدعوة.

ثم ذكروا أن المواقف في مثل هذه الأوضاع يجب أن تصدر عن العلماء الربانيين، من اهل العلم الصادقين، المستقلين في مواقفهم، لا من العلماء الذين لم يبلغوا درجة الرسوخ في العلم، وهم غير مجتهدين.

وذكروا كذلك أن النظرة للإصلاح يجب أن تتسع، فمسيرة الإصلاح طويلة، والأوضاع معقدة، ولا يجوز القيام بأعمال متسرعة، وذلك كما حدث مع الجماعات الإسلامية في الجزائر ومصر والشام، ثم تراجع أصحابها وأعلنوا ندمهم.

هذه هي مواقف العلماء بعامة في السعودية، ويبدو أنها لا تحمل حلا، بل تحمل نصائح لا تغير واقعاً.

إن موقف العلماء الصحويين والمستقليين يبدو متقارباً، إن لم يكن واحداً. أما الحل فإنه ما زال مفقوداً، ولكن الخط العريض الذي ظهر عليهم، في نظرتهم إليه، هو النظرة الإصلاحية، في معالجة الأوضاع المعقدة، لا التغيير.

ونحن قبل أن نعرض الموقف مما جرى ويجري، ونعرض الحل، لا بد من إدراك الواقع الذي سينزل عليه الحكم الشرعي، وتحديده بدقة، حتى لا نقع بمثل ما وقع به غيرنا. إذ إن فهم الواقع، الذي يسمى مناط الحكم، من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن أن يتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي الصحيح دون معرفته. وفهم الواقع يحتاج إلى إعمال العقل لا الشرع، أي إنه لا يحتاج إلى علماء. والمطلوب في فهم الواقع، فهمه على حقيقته، تماماً كما هو، دون تدخل النفوس والأهواء والمصالح، والمطلوب في فهم الواقع كذلك، أن يجعل الواقع موضع التفكير لا مصدر التفكير، فلا يقال إن الواقع يوجب علينا أن نفعل كذا، أو يحرم علينا أن نفعل كذا، فالواقع لا يحل ولا يحرم بل يفهم على حقيقته، وإنما الشرع هو الذي يحل ويحرم. ثم إن الواقع إذا كان معقداً، بحيث توجد فيه مشاكل كثيرة ومتداخلة، فإنه يجب التمييز بين هذه المشاكل، هل هي مشاكل ناتجة عن مشاكل أخرى، أو مشاكل ناتجة عنها مشاكل أخرى، أي يجب التمييز بين المشكلة الأساسية والمشاكل المتفرعة عنها، فبمعالجة المشكلة الأساسية تتم معالجة ما نتج عنها.

إذا كان الأمر كذلك في فهم الواقع، فما الواقع في السعودية؟

بداية نقول إن المشاكل في السعودية كثيرة ومتداخلة، وهذه المشاكل إذا أردنا ان ننظر إلى ما هو أساسي منها، وما هو متفرع عنها، فإننا نجد أن المشكلة الأساسية تنحصر في عدم تطبيق الإسلام في السعودية. فالدولة لم تقم على أساس الإسلام ولم تحكم بالإسلام، ولم تقم علاقاتها الداخلية والخارجية على أساس الإسلام، وهي التي سمحت لأميركا بالتواجد العسكري في السعودية، وهي التي قدمت لأميركا كل عون، وهي التي تمنع المسلمين من أن يقوموا بأي عمل ضد الوجود الأميركي فيها… وبهذا يتبين أن أصل المشكلة هو وجود هذا النظام السعودي، وأن الحل الذي يعتبر حلاًّ لكل هذه المشاكل المعقدة، هو إقامة نظام إسلامي، وبالتحديد إقامة نظام الخلافة الذي أمر المسلمون كافة بإقامته، وإقامة الدين عن طريقه، وبهذا الحل سيتوحد المسلمون جميعهم في دولة واحدة، وستتوحد كلمتهم على خليفتهم، وسيلغى الوجود الأميركي في السعودية، وغير السعودية، وسيطبق الإسلام في الداخل، وتعالج جميع مشاكل المسلمين الحياتية، وينشر الإسلام بالدعوة والجهاد في سبيل الله في الخارج… نعم إنه لن يحل المشاكل في السعودية حلاًّ جذريا، ويقضى على كل المشاكل الأخرى إلا خلافة راشدة يرضى عنها ساكن السماء والأرض.

أما كيف تتم إقامة الخلافة، التي أول ما بزغ نورها في الحجاز؟ فهو تماماً ما فعله الرسول r لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة. وإذا وجد البعض أن هناك فارقاً بين واقعنا، وواقع الرسول r، وبالتالي وجد أن هذا يؤدي إلى اختلاف طريقة العمل، فإن الرد على هذا الكلام يتعلق كذلك بفقه الواقع، الذي يقول عنه الأصوليون إنه أصعب من فقه الشرع. إن واقع أي مجتمع يقوم على الأرض، نجد أنه يقوم على أناس يؤمنون بأفكار معينة، وتجمعهم مشاعر من جنس هذه الأفكار، ويحكمهم نظام يرعى تطبيق هذه الأفكار، وما عدا ذلك، هو أشكال وصور لا عبرة بتغيرها. وهذه المقومات الأساسية للمجتمع، التي لا تختلف في القديم عنها في الحديث، وسواء أكانت المجتمعات معقدة في تركيبها أم بسيطة، فإن واقع المجتمعات يبقى واحداً، وبالتالي فإن عملية التغيير الشرعية لها واحدة، وعليه، فإن ما فعله الرسول r يكون هو نفسه ما يجب علينا أن نفعله. هذا هو الحل الجذري لما يجري في السعودية وهو العمل لإقامة الخلافة الإسلامية. فهل يعي العلماء في السعودية على هذا الحل، ويتلمسون خطى الرسول r في التغيير، أي في إقامة الخلافة الإسلامية الموعودة، ليقيموا الدين بها، ويحققوا أهداف الإسلام التي جاء من أجلها.

إن المسألة تحتاج إلى تغيير، وبخطئ من يظن أنها تحتاج إلى إصلاح، أو أن الحل يأتي من خلال آل سعود، فالمسألة أكبر من ذلك، إنها تتعلق بإقامة الدين، بإقامة الدنيا على الدين، لتحقيق العبودية لله سبحانه، بتعبيد الناس لله رب العالمين. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ @ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ[الذاريات/56-57] .

[انتهى]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *