العدد 201 -

السنة الثامنة عشرة شوال 1424هـ – كانون الأول 2003م

المحافظون الجدد وتأثيرهم في المجتمع الأميركي (2)

المحافظون الجدد وتأثيرهم في المجتمع الأميركي (2)

يسيطر المحافظون الجدد، في عهد بوش الابن، على الحكم في أميركا. وهؤلاء يعتمد فكرهم على العقل والمنطق لا على العرف، وعلى فرض أفكارهم الفلسفية على المجتمع. وهم من أجل الوصول إلى الحكم، والاحتفاظ به يتجاوزون الأخلاقية إلى الخداع، ويستعملون الدين للسيطرة على الجماهير، ويعتبرونه كالغراء الذي يحقق تماسك المجتمع، ويدفع الناس للتضحية لخدمة أهدافهم. وهم يسعون إلى توحيد شعوبهم عن طريق تجييش عاطفة قومية قوية لديهم، وإيجاد عدو يجتمعون عليه بعد إظهار أنه يشكل تهديداً حقيقياً لهم، وقد وجدوا أن الإسلام هو ذلك العدو.

ـــــــــــــــ

كيف وصل المحافظون الجدد إلى السلطة؟

قبل أن نبحث تأثير فكر المحافظين الجدد على المجتمع الأميركي، من الضروري أن نفهم كيف وصلوا إلى السلطة. وكما ذكرت من قبل، إنّ السمة الرئيسية في فكرهم هي أنه يجب أن تكون الفلسفة متعلقة بالمجتمع، بمعنى آخر، إنّ الأفكار الفلسفية هي للتطبيق، وليست لمجرد المتعة الفكرية، ودفعت هذه الفكرة كثيراً من تلامذة شتراوس لتقلد مناصب هامة في الحكومة ومراكز الأبحاث والإعلام.

يعتبر بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع من المحافظين الجدد داخل الحكومة. فهو العقل المدبّر لشؤون الدفاع في إدارة بوش. وأما المحافظون الجدد الآخرون فمنهم دوغلاس فيث، سكرتير مساعد في وزارة الدفاع للسياسة، وهو في المرتبة الثالثة في البنتاغون؛ ولويس سكوتر ليبي، رئيس أركان تشيني، وهو يحظى بحماية وولفويتز؛ جون بولتون، سكرتير مساعد للتحكم بالأسلحة، وقد عُيِّن حالياً في وزارة الخارجية لإبقاء كولن باول تحت السيطرة، وكذلك إيليوت أبرامز، وقد عُيِّن حديثاً كمدير لسياسة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. أما خارج الحكومة فإنّ أكثر المحافظين الجدد تأثيراً هم جيمس وولسلي، المدير السابق لـ (سي آي إي) الذي حاول مراراً أن يربط أحداث 11 سبتمبر ورسائل الجمرة الخبيثة بصدام حسين؛ وريتشارد بيرل، الذي استقال من منصبه التطوعي (بدون راتب) كرئيس لهيئة استشارية في وزارة الدفاع بعد فضيحة تتعلق بمحاولة تأثيره على أعضاء الكونجرس.

ويتواجد المحافظون الجدد في قلب مراكز أبحاث المحافظين. ويعتبر معهد المشاريع الأميركية أبرزها. وإن شخصيات مثل ريتشارد بيرل، ومايكل روبين، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط، وجون بولتون، أعضاء سابقون في هذا المعهد. وتموَّل هذه المراكز بشكلٍ كبير من قبل مؤسسات المحافظين، مثل مؤسستَيْ برادلي وأولين. وتدور السياسة الخارجية للمحافظين الجدد حول المبدأ أكثر من المصالح التجارية والصناعية.

وأكبر رابط بين مراكز أبحاث المحافظين واللوبي الإسرائيلي هو المعهد اليهودي لمسائل الامن القومي (جينسا) ومقره في واشنطن والذي يدعم (حزب الليكود). وقام هذا المعهد بإرسال كثير من خبراء الدفاع غير اليهود في رحلات إلى إسرائيل. فقد أرسل إلى إسرائيل الجنرال المتقاعد جي جارنر، الذي أُبعِد بشكلٍ مُذِلّ عن إدارة شؤون العراق بعد الحرب. ففي أكتوبر عام 2000 كان أحد الموقعين على رسالة باسم معهد جينسا بدأت بالقول: «نعتقد أنه أثناء الاضطرابات الحالية في إسرائيل فإن قوات جيش الدفاع في إسرائيل قد مارست ضبط النفس بشكلٍ رائع في وجه العنف الذي حركته قيادة السلطة الفلسطينية».

وينقسم اللوبي الإسرائيلي نفسه إلى جناحين، أحدهما يهودي والأخر مسيحي. ويوجد لوولفويتز وفيث علاقات وثيقة مع اللوبي اليهودي الأميركي لدعم إسرائيل. فوولفويتز، الذي لديه أقارب في إسرائيل، عمل كموظف ارتباط إدارة بوش مع لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية. أما فيث فقد مُنح جائزة من قبل المنظمة الصهيونية في أميركا، بوصفه «ناشط لصالح إسرائيل». وفي عهد كلينتون عندما كان فيث وبيرل خارج السلطة قاما معاً بإعداد ورقة سياسية لحزب الليكود تنصح الحكومة الإسرائيلية بوضع حدّ لخطة سلام أوسلو، وإعادة احتلال الضفة والقطاع وتحطيم حكومة ياسر عرفات. وهؤلاء الخبراء يختلفون عن النموذج العام لليهود الأميركيين الذين صوّت معظمهم لصالح غور عام 2000. وأكثر الناس حماساً لحزب الليكود وسط الناخبين الجمهوريين هم البروتستانت الأصوليون في الجنوب؛ حيث يعتقد اليمين الديني بأن اللَّه منح كل فلسطين لليهود، وتنفق جماعات المصلين الأصوليين ملايين الدولارات لتمويل بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة.

وآخر معقل للمحافظين الجدد في البنتاغون تحتله مجموعة من إمبراطوريات الإعلام اليمينية التي، رغم تباينها، تعود جذورها إلى الكومنولث البريطاني وكوريا الجنوبية. فروبرت مردوخ ينشر الدعاية بواسطة شبكته التلفزيونية «فوكس». وأما مجلته الأسبوعية ذا ويكلي ستاندارد التي يحررها ويليام كريستول، فهي تلعب دور الناطق الرسمي للمحافظين الجدد أمثال بيرل، وولفويتز وفيث وولسي، وكذلك لحكومة شارون. وهناك مطبوعة أخرى وهي ذا ناشونال إلتَرست، يموّلها كونراد بلاك الذي يملك حوالي 500 جريدة في أرجاء العالم، وأبرزها: جيروزاليِم بوست وديلي تيليغراف وصندي تيليغراف. ولكن أغرب هذه الإمبراطوريات الإعلامية هي الشبكة المتمركزة حول الواشنطن تايمز والتي يملكها المسيحي القسيس صَن ميانج مون ذو السوابق القانونية، وهو من كوريا الجنوبية. وتملك إمبراطوريته شبكة الأخبار (يو بي آي) التي يديرها حاليا جون سوليفان الذي كان يكتب لمارجريت تاتشر خطاباتها وعمل كمحرر لكونراد بلاك في كندا.

وجرى ربط المحافظين الجدد في التسعينات بواسطة (بي إن إيه سي) «مشروع القرن الأميركي الجديد»، والذي كان يديره كريستول من مكاتب ذا ويكلي ستاندارد. ولقد استخدموا ال «بي إن إيه سي» لإصدار عدد من الرسائل العامة التي جرى التوقيع عليها غالباً من قبل وولفويتز وأشخاص آخرين أصبحوا فيما بعد أعضاء في فريق بوش للسياسة الخارجية. وقد دعَوا في هذه الرسائل الولايات المتحدة لاحتلال العراق، ودعم حملات إسرائيل ضد الفلسطينيين.

وبمجرد أن نجح المحافظون الجدد في جمع قواهم معاً، شرعوا في العمل للاستحواذ على جورج بوش الابن ليقودهم إلى السلطة. فكيف حدث ذلك؟ قام بعضهم بدعم بوش أثناء الترشيحات الرئاسية الأولية، وقد خشوا أن يكون بوش الثاني مثل بوش الأول، الذي فشل في احتلال العراق سنة 1991، والذي ضغط على إسرائيل للسير في عملية أوسلو للسلام. كما خشوا أن يسيطر على إدارته كما سيطر على إدارة أبيه الجمهوريون المعتدلون الواقعيون أمثال باول وبيكر وسكو كروفت. لذلك دعموا السناتور المستقل جون ماكّين إلى أن تبين أن بوش سيفوز بالترشيح.

ثم حالف الحظ المحافظين الجدد عندما تولى تشيني مسؤولية فترة الرئاسة الانتقالية، فقد انتهز هذه الفرصة لملء الإدارة بأصدقائه من المحافظين الجدد. وبدلاً من أن يصبح وزير الخارجية باول الرئيس الفعلي في السياسة الخارجية كما توقع الكثيرون وجد نفسه محاصراً داخل شبكة تشيني اليمينية التي تتألف من وولفويتز وبيرل وفيث وبولتون وليبيّ.

والذي شجع بوش على إقامة علاقة قوية مع المحافظين الجدد هو نشأته. فهو ابن لوالدين من طبقة عليا، وتحوّل إلى الأصولية الجنوبية بعد معالجته من أزمة إدمان. وأحياناً يكون التحمّس للصهيونية المسيحية، والإعجاب الباهر بالجندي الإسرائيلي من ملامح ثقافة المسيحيين في الجنوب الأميركي، ولذلك أخذ بوش حتى قبل 11 سبتمبر يبتعد عن باول في اتجاه وولفويتز، أو وولفي كما كان يناديه.

المحافظون الجدد بعد 11 سبتمبر

عندما تسلم بوش السلطة كان لإدارته علاقات قوية مع صناعة البترول، والصناعة العسكرية من خلال مسؤولين كأمثال رايس وتشيني ورامسفيلد. وأصبح مبدأٌ يمينيٌّ متطرفٌ مصدراً لأفكار الإدارة، متجسّداً في شخصيات مثل وولفويتز وليبّي وفيث وبولتون ومحافظين جدد آخرين. وقد كُلف كارل روف، صديق بوش الحميم والاستراتيجي المتميز للحزب الجمهوري، بمهمة إيصال سياسة الإدارة إلى جمهور الناخبين. وكان ولا يزال التحدي الذي يواجهه هو كسب الناخبين لسياسة بوش، التي تمثل في جوهرها مجموعة من المصالح الصناعية والتجارية، ممتزجةً بفكرٍ شتراوسيّ. وهذا يعني أن كولن باول وإدارته تحولا فعليًّا إلى وضعٍ غير مرغوب فيه.

وبعد إنجاز الخطوة الرئيسية الأولى، جلس المحافظون الجدد في انتظار حدثٍ مفاجئ قوي يساعدهم على تحويل المجتمع الأميركي على ضوء فلسفة شتراوس. وقد تنبّأ مايكل لادين عام 1999 بهذا الحدث الذي كانوا ينتظرونه، حيث تحدث لادين عن حدث من نوع بيرل هاربر يوقظ أميركا. ولقد كان حادث 11 سبتمبر الحدث الذي كانوا ينتظرونه، وهو الذي أطلق العمل بخطة المحافظين الجدد من أجل «أميركا المهيمنة».

بدأت دعوتهم بتحريك الرأي العام الأميركي من خلال المشاعر الوطنية والقومية. ولم يكتفوا بالمبالغة في تصوير التهديد من قبل القاعدة والبلاد الإسلامية المارقة، بل ظلّوا يرددون ذلك على الرأي العام الأميركي، فساعد ذلك في توحيد الشعب الأميركي خلف بوش، وفي كبت أي معارضة له بخاصة المعارضة السياسية. وهكذا استحوذت على أميركا قومية عدوانية، وبدأ المحافظون الجدد بتطبيق أفكارهم.

وبحكم عداوتهم الشديدة للحرية والفردية والعلمانية، نجح المحافظون الجدد في تمرير «القانون الأميركي الوطني» الذي كبح الحريات المدنية. وقد شجعوا مسيحيين أصوليين أمثال جيري فولويل وبات روبرتسون على الاستهزاء بالإسلام علناً، وعلى لعب دورٍ أكبر في المجتمع. وهكذا أصبح جورج بوش أول رئيسٍ أميركي يعقد جلسات دراسة للتوراة في البيت الأبيض. ويعقد صديقه أشكروفت، المدعي العام، جلسات أسبوعية مماثلة في وزارة العدل. وبشكلٍ متزايد ينظر الرجلان إلى الحرب ضد الإرهاب من منطلق توراتي، أي الخير ضد الشر. وكان هدف المحافظين الجدد من تبنّي مثل هذه المبادرات تقوية المجتمع وإعطاء السياسة دعماً أخلاقياً قوياً.

وعلى المستوى الدولي، وقبل 11 سبتمبر، جرى على عجلٍ نبذ معاهدات مثل معاهدة مقاومة الصواريخ البالستية وغيرها. وبعد 11 سبتمبر (2001) قامت أميركا بسرعة بالتحرر من قيود القانون الدولي. وفي الوقت الذي ذهبت فيه أميركا للحرب ضد العراق، فإن الولايات المتحدة قد قامت بالفعل بانتهاك ميثاق جنيف، وتجاهلت المجتمع الدولي، وتجنبت الرجوع للأمم المتحدة، كل ذلك من أجل تحقيق طموحها في السيطرة العالمية. وبعد الحرب في العراق، توقع المحافظون الجدد أن يجبر، بروز قوة الجيش الأميركي، العراق والعرب جميعاً على الاستسلام. وبمثل هذا المنطق عمد البنتاغون إلى إهمال محنة الشعب العراقي، وذلك بالإمتناع عن إعادة الخدمات الأساسية له، كي يرضى بإحسان أميركا، ويسلّم في النهاية باحتلالها للعراق. وتمشياً مع فكر المحافظين الجدد بلزوم الحرب الدائمة، لم يضيع كثير منهم، داخل الحكومة وخارجها، الوقت في وصف سوريا وإيران كأهداف تالية لأميركا.

ومنذ وصول إدارة بوش للسلطة استخدمت الطريقة الشتراوسية في «المعاني الخفية» و«الخداع» لتضليل الشعب في الداخل والخارج. وتم إنشاء المكتب الخاص للخطط المسؤول عن تلفيق كثير من الأكاذيب، عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وعن عدد الإصابات الأميركية القليلة بشكل لا يصدق، حتى عندما تعارضت الحقائق المجردة مع ادعاءات البنتاغون، بأنّ أنصار صدام والمقاتلين الأجانب هم وراء كثير من المقاومة العراقية، قامت إدارة بوش باختلاق أكاذيب جديدة، رغبةً في تجنّب أي انطباع بأن المقاومة العراقية محلية. ولكن قمة الخداع برزت أمام الجلسة العامة للأمم المتحدة، عندما رفض بوش الاعتراف بالحقيقة الواضحة؛ وهو أن تبرير أميركا للحرب كان كذبةً كبيرة.

هل سيطول بقاء المحافظون الجدد؟

أما وقد حفز الإسلام أهل العراق لمقاومة الاحتلال الأميركي، بدأت تظهر على السطح التصدعات في سياسة المحافظين الجدد. وأسوأ من ذلك بالنسبة لهم هو الزيادة المتنامية في الإصابات الأميركية، وتكاليف احتلال العراق، مما أجبرهم على طلب مساعدة الأمم المتحدة. وإذا عجز بوش عن توفير الأمن في العراق، وعن كبح النقد الداخلي المتنامي، فإن أغنياء الرأسماليين الذين دفعوا فاتورة حملة انتخاب بوش عام 2000 يمكن أن يتطلعوا إلى إدارة قادرة على تأمين مصالحهم. ومن خلال زهو الغطرسة والغرق في النظريات الأكاديمية، ارتكب المحافظون الجدد أخطاء سياسية قاتلة. فقد استهانوا برد فعل حلفاء أميركا، وأخطأوا في تقدير قوة المسلمين في العراق، كما فشلوا في إعداد الشعب الأميركي لفكرة «أميركا المهيمنة». والزمن وحده كفيل بالإجابة عن الوقت الذي ستعيشه تجربة المحافظين الجدد .

عابد مختار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *