العدد 204 -

السنة الثامنة عشرة محرم 1425هـ – آذار 2004م

لغز الحياة والموت (2) الحياة رحلة قصيرة تنتهي بالموت المحتوم لكل مخلوق

لغز الحياة والموت (2)

الحياة رحلة قصيرة تنتهي بالموت المحتوم لكل مخلوق

1- الإنسان بفطرته التي فطره الله تعالى عليها يخشى الموت ويحاذر وقوعه، بل يفر منه محاولا الخلاص من سلطانه. وتؤكد وجود هذه الفطرة البشرية وقائع الحياة التي لا تكاد تحصى، وكثير من الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ)[البقرة/243]. وقوله تعالى:( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق/19]. وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الجمعة/8] وقوله تعالى:( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)[الأحزاب/16].

 2- وكما بينت هذه الآيات محاولة فرار الإنسان من الموت فإنها قد بينت أيضا ألا فائدة من الفرار من الموت ولا سبيل إلى الخلاص منه، وذلك في قوله تعالى:( فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ)،( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، ( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ). وكذلك في قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[الأنبياء/35]. وقوله تعالى:( حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)[الأنعام/61]

 بل إن الله تعالى يتحداهم أن يحموا أنفسهم من الموت إذا جاءهم كما في قوله تعالى:( قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[آل عمران/168]. ولو أنهم حاولوا أن يحموا أنفسهم من الموت أو أن يهربوا منه إذا جاءهم أجلهم فما هم بقادرين على النجاة منه، كما في قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)[النساء/78]، وكما حاول ابن نوح أن يصنع فما أفلح في أن يحمي نفسه، كما قال تعالى في شأنه:( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هود/43].

 3- وإذا كان الموت أمرا لا مفر منه ، وأنّ كل نفس ستذوق طعمه لا محالة، كما يرشدنا القرآن الكريم وكما هو ظاهر كالشمس لكل ذي عينين، فمن يذيق الناس طعم الموت، ومن يجعله نهاية كل مخلوق ؟ يجيب القرآن الكريم على ذلك بشكل قاطع أن الله تعالى وحده هو الذي قضى بالموت على كل مخلوق وألزمه أن يتجرع كأسه وأن يستسلم لسلطانه، كما  بينّا ذلك في الآيات التي أوردناها سالفاً.

4- ولئن أنكر البعض أن هناك خالقاً خلقهم، وأنه هو الذي أحياهم وهو الذي يميتهم، فإنهم لم يستطيعوا أن ينكروا أن هناك عمليتي حياة وموت، تجريان أمام أبصارهم، في ملايين الأحياء الجديدة من بشر وحيوان ونبات وفي ملايين الأموات، ولكنهم عزوا ذلك للدهر والزمان، منكرين بالطبع أن هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، وقد سُمّي هؤلاء بالدهريين. ويسجل القرآن الكريم إفكهم فيقول تعالى:( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[الجاثية/24].

5- والله تعالى لم يقضِ بالموت على كل مخلوق فحسب، بل جعل لكل مخلوق بل ولكل أمة من الأمم، أجلاً لا ريب فيه، لا يملك أحد ان يتجاوزه بالزيادة أو النقصان. والآيات القرآنية تقرر ذلك على وجه قطعي. فيقول تعالى:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً)[آل عمران/145]، ويقول: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[الزمر/42]. ويقول:( وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون/11]. ويقول:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف/34]. ويقول: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[النحل/61]. وقال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ @ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ @ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[نوح/2-4]. وقال تعالى:( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا)[الإسراء/99]. وقال تعالى:( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ @ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)[المؤمنون/42-43].

6- وإذا ساور البعض وهْمٌ بأن أحداً سوى الله قادر على أن يفرض الموت على نفس لم يحِنْ أجلها فإن القرآن قد جاء يبطل هذا الوهْم ويدحضه. فقد مكر قوم إبراهيم عليه السلام به ليقتلوه انتصارا لأصنامهم التي حطمها فأوقدوا له ناراً وألقوه فيها، ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم وكيدهم، قال تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ @ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ 69 وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ @ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء/68-71].

ولما ترك يونس عليه السلام قومه مغاضبا وجاء الى سفينة تأخذه بعيداً عن قومه ، فلعبت بها الأمواج واقترح ركابها إلقاءَ بعضهم في البحر طمعا في نجاة البعض الآخر من الغرق . فكان نصيب يونس عليه السلام ان يُرمَى في الماء فالتقطه الحوت لا ليكون قبراً له ، بل سفينة نجاة تحمله الى شاطئ السلامة والأمان مع ظل وطعام . ويذكر القرآن الكريم هذا الحدث العظيم: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ @ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ @ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ @ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ @ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ @ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ @ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ @ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ)[الصافات/139-146].

ومن المكائد التي يذكرها القرآن الكريم ما صنع مشركو مكة من تآمرهم في دار الندوة على حياة رسول الله r، إذ أزمعوا آخر الأمر أن يقتلوه ، وما درى أولئك والناس جميعا أن لو اجتمع الخلق على أن يضروا أحداً بشيء لم يقدّره الله عليه ما قدروا على ذلك، ولو أجمعوا أمرهم على أن يضعوا حداً لحياة إنسان لم يحن أجله ما وسعهم ذلك . لذلك نجّى الله تعالى نبيّه من كيدهم ورعاه وحفظه هو وصاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه حتى حلاّ على أهل النصرة في المدينة أعزاء ظافرين. يقول تعالى: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال/30]. ويقول جل جلاله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة/40]

جواد الزهيري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *