نظام النقد الدولي (3)
مرحلة ما بين الحربين 1914 – 1944م
نظـام النقـد الدولي (القاعـدة الذهبية) عُـلّق العمل به طوال الحرب العالمية الأولى/ حيث وقعت الاضطرابات النقدية، وخلخلت الوحدة النقدية.
وقبل أن ندخل في بحث مرحلة ما بين الحربين، نعيد استعراضاً تاريخياً لهذه المرحلة الأولى من نظام النقد الدولي.
ــــــــــ
كانت العلاقات الاقتصادية الدولية، حتى سنة 1914، تكوّن نظاماً متكاملاً. أي كان يسير على قاعدة ذهبية ثابتة، هي القاعدة الذهبية. ولعبت أوروبا دوراً مسيطراً على العالم. وكانت إنكلترا هي الدولة المتفوقة، وكان التنظيم الاقتصادي والمالي في العالم متركزاً حول لندن.
كان العالم حينذاك منقسماً إلى مجموعتين: المجموعة الأولى صناعية أو في طريقها إلى التصنيع، والمجموعة الثانية غير صناعية. وكانت دول المجموعة الصناعية، وهي الأقل عدداً، تنهب المواد الأولية، والمواد الغذائية، عن طريق الاستعمار. ودول المجموعة الثانية تستورد المنتجات المصنعة. وبذلك وجد انقسام بدائي في العمل على المستوى العالمي بالفعل. وكانت إنكلترا أقدم الدول في ميدان التصنيع، تقوم بالمتاجرة تقريباً بربع تجارة العالم، وكانت في الوقت نفسه مصنع العالم.
لقد كانت قاعدة الذهب كاملة (قبل مرحلة السبائك الذهبية)، وكان دور بريطانيا واضحاً تماماً فيما يتعلق بالنقد والأموال، حتى الحرب العالمية الأولى، وكان تحويل العملة يتم عالمياً حيث كان مفتوحاً للجميع في داخل البلاد وخارجها. وكان لكل فرد يقيم، أو لا يقيم في أي دولة من الدول، إمكانية الحصول من البنك المركزي على الذهب، وبدون حدود، وبسعر محدد، نظير أوراق العملة أو العملة الأجنبية. وكان من الممكن استبدال العملة الوطنية، والعملة الأجنبية والذهب، ببعضها بدون شروط ولا حدود وبأسعار معروفة وثابتة، مما يمكن القول بأنه كانت مساواة في التبادل.
والواقع هو أن تسيير هذا النظام للمدفوعات الدولية كان يخضع للندن، المكان النقدي والمالي الوحيد، الذي كان يقوم بدور المنظّم. وكان وسط مدينة لندن يتعامل في المواد الأولية أكثر من أي مركز آخر، وكان يموّل الغالبية العظمى للتجارة العالمية، وكان هو مصرف العالم، وكانت إنكلترا تقوم بـ 40% من الاستثمارات الدولية، وكان مفتاح الحركة العالمية للتبادل يتمثل في ميزان الإسترليني الذي كانت المصارف الأجنبية تحتفظ به في لندن. إذ إن الطرق التي كانت تأخذها الائتمانات الدولية كانت تتجمع صوب لندن، وهي آتية من كل المراكز النقدية الأخرى في العالم، والتي كانت مرتبطة ببعضها عن طريق لندن، وكانت قيم المبادلات المطبقة في كل دولة في العالم تناقش في لندن، وبمعنى آخر، كان استقرار وتنظيم الائتمانات واقتصاد العالم يعتمد على حسن سير هذه الآلة المالية في قلب لندن. وكانت قاعدة الذهب في الواقع، هي قاعدة النقد، وهي قاعدة الإسترليني. وكانت آلية الدفع مضمونة، وفي مركز نقدي ومالي واحد في العالم، وكان هناك مركز واحد في نظام المدفوعات الدولية.
خلال الحرب العالمية الأولى، أو عند نهايتها، بدا أن المجموع المتجانس الذي يشكل نظام العلاقات الاقتصادية الدولية قد تحطّم. إذ إن حرية التعاملات كانت قد تركت مكانها لعمليات مراقبة من كل نوع، وترك المجال العالمي مكانه لمجالات وطنية، والوحدة تركت مكانها للتفتت. وخلال مدة ثلاثين عاماً، كان النظام التجاري والنقدي المبني على سيطرة إنكلترا قد انهار. إذ إن الأزمة والحروب قد أسرعت بارتفاع البعض، وبتدهور أحوال البعض الآخر.
إذاً، وفي خلال ثلاثين عاماً (من سنة 1914- 1945)، انهار النظام العالمي تماماً. فقد تسببت إعادة توزيع القوى العالمية والتطور الاقتصادي معاً، في تفتيت نظام المبادلات والمدفوعات الدولية (أي انتهـت المرحلـة التاريخية الأولى لنظام النقد الدولي).
فبالنسبة لتغير وجهة المبادلات التجارية وطرق التعامل، أفادت الحرب بعض الدول نتيجةً لبُعدها. وهكذا نجد الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تدخل الحرب إلا في عام 1917، تنمّي إنتاجها وصادراتها بدرجة كبيرة. وكذلك الحال بالنسبة لليابان التي كثفت وضاعفت جهودها الإنتاجية ووجهت مطامعها نحو جنوب شرق آسيا. ومن ناحية أخرى، كانت الدول المتحاربة الأوروبية قد وصلت بدرجات متفاوتة حافة الخراب المالي (مثل فرنسا التي دارت المعارك على الأقاليم الأكثر تصنيعاً فيها) وكانت قد استخدمت رأسمالها بطريقة مكثفة، دون أن تتمكن من تجديده، الأمر الذي أدى إلى انخفاض صادراتها من المواد المصنعة.
أما بالنسبة للتعديلات التي أدخلت على وسائل المبادلات، فكانت قوية بحيث إنها أدت إلى انغلاق بعض الدول على نفسها. فقد وضعت بعض الدول الأوروبية تنظيماً، يؤدي إلى تقليل الإنفاق من العملة الأجنبية، والمحافظة على الصرف بين العملة الوطنية والعملات الأخرى. والواردات كانت غالباً ما تخضع لاحتكار الدولة (كما حصل في فرنسا)، بينما كانت عمليات منع التصدير تهدف إلى ضمان تموين الأهالي بشكل أحسن. كل ذلك كان من أجل الحماية الوطنية لإعادة البناء. وهكذا طبقت إنكلترا عام 1921 قانون حماية الصناعة، وحمت بعض الصناعات التي كانت قد نشأت أثناء فترة الحرب. وزادت فرنسا من رسوم تعرفتها الجمركية. واختارت الولايات المتحدة تعرفة جديدة للحماية، متوسطة بين تعريفة الذبذبات، والتعريفات الحرة، سنة 1922، بعد انعقاد مؤتمر جنوة. وقام المؤتمر الاقتصادي العالمي، الذي دعت إليه عصبة الأمم سنة 1927 بالتوصية بضرورة التخلي عن إجراءات الحماية، وضرورة خفض الرسوم الجمركية.
ولكن الأزمات التي حدثت سنة 1929، واستمرت طيلة الثلاثينات، تسببت في الدول الصناعية في بطالة ضخمة. وأصبح للتوازن الداخلي أولوية على التوازن الخارجي. الأمر الذي أدى إلى القطيعة النهائية لنظام المبادلات الدولية. ففيما بين عامي 1929- 1936، قامت الولايات المتحدة، التي كانت أول دولة تصيبها الأزمة – بل ابتدأت منها – قامت بزيادة حمايتها سنة 1930. وفرضت بريطانيا تعريفة من أجل الحماية، ووثقت صلاتها بالكومنولث عن طريق نظام تعريفة أفضليات 1932. وقامت فرنسا كذلك برفع رسومها، ولكن بنوع خاص، ووضعت موانع على استيراد المنتجات الزراعية. وقد فشلت مؤتمرات عديدة كانت قد عقدت من أجل معالجة هذه الأوضاع. وأخيراً لم تتردد بعض الدول في تعديل قيمة عملتها (فخفضت قيمة الجنيه الإسترليني في شهر أيلول 1931، والدولار سنة 1933، والفرنك سنة 1936، 37و38). وطبقت الولايات المتحدة اتفاقيات تبادلية مع دول أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية، ووافقت على خفض الرسوم الجمركية.
وقد أوصى مؤتمر جنوة سنة 1922، بأن تحتفظ الدولة بعملات معادلة للذهب، مثل الإسترليني والدولار والفرنك، وكانت هذه الدول تمتلك رصيداً من الذهب. ولكن هذا النظام أُبدل في الثلاثينيات بنظام (الكتل النقدية). فقد كانت دول الكومنولث، وبسبب علاقاتها التجارية والنقدية والمالية مع بريطانيا، تحتفظ بالجنيه الإسترليني، وأصبحت أعضاء في الكتلة النقدية للإسترليني، التي كانت بريطانيا الدولة الرئيسية فيها. وعندئذ مجموع الكتلة يمثل في علاقاته مع الخارج تطوراً مماثلاً إلى حد بعيد، وخاضعاً لسياسة المكان الرئيسي.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، زاد الانقسام بين المناطق النقدية، ووجدت كتل نقدية متعددة، كانت الأولى منطقة الإسترليني، لكن تحديدها لم ينتج عن قرار اتخذ من جانب واحد في لندن، وإنما من حرية الاشتراك لعدد من البلدان، التي كانت تطبق – تحت إدارة بريطانيا – سياسة متكاملة فيما يتعلق بمراقبة النقد، والأفضليات التجارية، ووضعوا، في ودائع متساوية من النقد في لندن، العملات والذهب الذي كانوا قد حصلوا عليه (وفي نظير ذلك وضع مبلغ ائتماني من الجنيهات لحساب كل دولة منها). بينما كانت المبالغ المودعة بالاشتراك تخدم احتياجات المجموع في هذه المنطقة، وكانت تدار في الصالح العام عن طريق بريطانيا، ثم ظهرت مناطق أخرى (مثل منطقة الفرنك، ومنطقة الاسكود، ومنطقة الفرنك البلجيكي)، وكانت تقترب في مظاهرها العامة من منطقة الإسترليني. وإذا كان الانتماء قد نتج، لا عن طريق حرية الاشتراك، وإنما عن طريق المشاركة في نظام سياسي واقتصادي ومالي معين، فإن التعاملات كانت حرة في داخل المنطقة، وكانت الإمكانيات الموضوعة بالاشتراك، والتي تستخدم طبقاً لخطة موضوعة، في تجاوب مع احتياجات كل الأعضاء، وعمل المجموع تجاه الخارج، وبإشراف من الدولة الأم.
كانت أميركا ترى أن هذه الكتل النقدية تشـكـل مناطـق مغلقة أمام تجارتها، أي أن وجودها كان يشكل تعارضاً مع مبدأ حرية التجارة، فقضت عليها نهائياً بوجود اتفاقية بريتون وودز. وذلك أولاً بتوقيع ميثاق الأطلنطي مع بريطانيا الذي وقعه تشرتشل. في حين رأى ديغول في اتفاق بريتون وودز تتويجاً للولايات المتحدة على عرش المجموعة الدولية.
هذا باختصار موجز لما بين الحربين العالميتين، حيث لم يكن هناك شيء نستطيع وضع الأصبع عليه فيما يتعلق بنظام نقدي عالمي. ولذلك فإن التفتيت كان عميقاً على المستوى الدولي، وكانت الأزمة الاقتصادية والحرب قد ترافقت مع تقليل حجم التجارة الدولية، والتبادلات النقدية والمالية، فانغلقت الدول على نفسها، وحاولت أن توازن ميزان مدفوعاتها بوسائل ثنائية. وبنوع خاص كان مركز التنسيق لمجموع العملات الدولية قد سار في طريق تدهور لا يمكن إصلاحه، واستعد مركز جديد لأخذ مكانه.
المرحلة الثانية لنظام النقد الدولي:
إن نظام النقد الدولي الجديد، في حقيقته، والذي أطلق عليه اسم (نظام الصرف بالذهب)، لم يظهر بشكل رسمي وعالمي إلا بعد توقيع اتفاقية بريتون وودز. وفي هذا المؤتمر تميز الدولار بأهمية خاصة، وتبعه في الدرجة الثانية الجنيه الإسترليني. (لقد ظهر نظام الصرف بالذهب، بعض الوقت، بعد مؤتمر جنوة 1922، لكنه انهار تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية 1929 كما هو مبين فيما بعد).
استطاعت الولايات المتحدة الأميركية، بفضل الحرب العالمية الثانية، أن تكدس في صناديقها أكثر من ثلثي ذهب العالم، أي حوالي (25) ملياراً من الدولارات. وفي المقابل كانت أرصدة الدولار في العالم لا تذكر. فالدولار آنئذٍ كان مغطى بالذهب بنسبة تفوق 100% بكثير. لذا كان من السهل على الحكومة الأميركية إعادة تبديل الدولار ذهباً. استمر الوضع على هذا النحو إلى مطلع الستينات، حين انقلبت الآية، وأخذت أرصدة الولايات المتحدة من الذهب بالتناقص، وأرصدة الدولار في العالم بالازدياد. وأصبحت الارقام في سنة 1960 (18.8) مليار أرصدة ذهبية و(18.7) مليار أرصدة دولار في الخارج. وللتذكير كانت هذه الأرقام سنة 1949 (24.5) مليار أرصدة ذهبية، و(6.2) مليار أرصدة دولار في الخارج. وواصل هذا السير المتناقض لأرصدة الذهب، وأرصدة الدولار، سبيله طوال الستينات. ففي 1965 انخفضت الأرصدة الذهبية الأميركية إلى (14) مليار، وارتفعت كمية أرصدة الدولار في الخارج إلى (25.2) ملياراً. وعندما نصل إلى أزمة الذهب الشهيرة التي اندلعت في 19 آذار 1968 نلاحظ أن الأرقام أصبحت على النحو التالي:
(11) مليار أرصدة ذهبية، وحوالي (35) مليار أرصدة دولار خارجية. وأصبحت الأرقام في 15/5/71 أي أثناء أزمة الدولار الأخيرة- وهي التي تدخل نيكسون واتخذ إجراءاته المشهورة بشأنها – (10.332) مليار أرصدة ذهبية مقابل أكثر من (40) مليار أرصدة دولار في الخارج.
يعود السبب في كل هذا التناقض إلى عجز ميزان المدفوعات الأميركي. أما كيفية نقصان الأرصدة الأميركية من الذهب؟ فإنه يعود إلى ازدياد الطلب الخاص على الذهب من أجل الاكتناز أو المضاربة.
فبعد أن ضعفت الثقة الجماعية بالنقود الورقية الإلزامية بعامة، وبالدولار بخاصة، بسبب التضخم النقدي الذي عمّ أكثر دول العالم، وبعد أن تطلع الجميع إلى الخطاب الذي ألقاه الجنرال ديغول سنة 1965، ودعا فيه إلى ضرورة العودة إلى نظام الذهب، حصلت حركة اندفاع على الذهب لم تعرف في التاريخ من قبل. فكميات الذهب التي كانت تطلب للاكتناز أو المضاربة في أزمة عام 1968 كانت تقدر بمئات الأطنان في اليوم الواحد. وللحيلولة دون هذه الانتكاسة، اضطرت الولايات المتحدة إلى سد النقص في العرض، لكي تحول دون ارتفاع سعر الذهب عن السعر الرسمي من أرصدتها الرسمية، الأمر الذي آل إلى نقصان هذه الأرصدة إلى حد تهديدها بالذوبان. ولذلك اضطرت الدول الأعضاء، أمام هذه الكارثة، إلى إلغاء (مجمع الذهب)، في اجتماع واشنطن سنة 1968، وإلى إنشاء سوق حرة للذهب إلى جانب السوق الرسمية. وهذا يدفع بالطلبات الخاصة إلى التوجه إلى السوق الحرة، والشراء منها بالسعر الذي تحدده قوى العرض والطلب.
هذا هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى ذوبان الأرصدة الذهبية الرسمية في الولايات المتحدة، مع العلم بأن بعض الدول – وبخاصة فرنسا – طلبت منها أيضاً تبديل قسم من أرصدتها الرسمية من الدولار ذهباً، الأمر الذي أسهم بدوره في ذوبانها.
قبل أن نتابع الحديث عن أزمة الدولار الأميركي، نودّ الإشارة إلى أنه على الرغم من أن فترة النصف الأخير من عقد الستينيات شهدت حالات أزمات نقدية عديدة، في كثير من الدول الغنية، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وعلى رأسها أميركا، إلا أن العيب الحقيقي، الذي أدى إلى تفاقم هذه الأزمات وتوسعها دولياً، يعود إلى صميم قاعدة نظام النقد الدولي، وليس إلى الاضطرابات المالية المحلية.
إن قضية أزمة الدولار الأخيرة تلفّها في الحقيقة اعتبارات سياسية. إذاً هي تختلف عن الأزمات السابقة؛ لأنها أصابت مباشرة وبصورة صريحة النقد الأساسي، نقد الأرصدة الدولية _ أي الدولار الأميركي نفسه. فالأمر لم يعد متعلقاً بالاطراف – أي بالنقود الأخرى – وإنما بالصميم، أي بأساس نظام النقد الدولي.
الأزمات النقدية من منظور سياسي:
عقدت الدول الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا (باستثناء فرنسا)، في أواخر الحرب العالمية الثانية، مؤتمراً اعتبر عن حق من أخطر المؤتمرات الدولية وهو مؤتمر مالطا. وكان الهدف منه اقتسام العالم، كغنيمة حرب فيما بينها. ولكن الجنرال ديغول الذي لم يحضر هذا المؤتمر، بل ولم يبلّغ بانعقاده من الأصل، لم يغفر لحلفائه تصرفهم هذا. حيث استبعدت فرنسا من حضوره عمداً، لا سيما وأنها قد اشتركت في الحرب، وضحّت مثلما ضحّوا، وقاست أكثر مما قاساه أي بلد آخر. لذا غرس ديغول في نفسه فكرة ضرب هذا المؤتمر ومحو آثاره، أي أضمر في نفسه الانتقام من حلفائه.
ولكن الحرب أسفرت عن مؤتمر آخر أشد منه أهمية وهو مؤتمر بريتون وودز، الذي عقد في أميركا سنة 1944، من أجل تنظيم الأوضاع النقدية الدولية.
وكان مما أسفر عنه هذا المؤتمر هو تمييز الدولار الأميركي بالدرجة الأولى، والجنيه الإسترليني بالدرجة الثانية، بين نقود العالم. وفي المقابل أهمل الفرنك الفرنسي، وتراكمت الآثار السيئة التي خلّفها المؤتمر في نفس ديغول. فآلى على نفسه إلا أن يضرب النفوذ الأميركي، وأن يعطي فرنسا المكانة التي تستحقها على الصعيد الدولي.
وعندما عاد إلى الحكم سنة 1958 بدأ فوراً بتطبيق مخططه. فأنشأ قوة نووية ضاربة لفرنسا، وطلب سحب القوات الأميركية المرابطة فيها، ثم انسحب من الحلف الأطلسي، كما طبق سياسة الانفتاح على الاتحاد السوفييتي. ثم بدأ بإصلاح الوضع الاقتصادي في بلاده، حيث كان قد ورث عن الجمهورية الرابعة اقتصاداً متردياً، نتيجة حرب الجزائر، وغيرها من الحروب السابقة. ونستطيع القول: إن فرنسا، قبل عودة الجنرال ديغول إلى الحكم، وصلت إلى حد الإفلاس على صعيد النقد الخارجي، إذ إن عجز ميزان مدفوعاتها بلغ أرقاماً مخيفة، وبلغت قروضها من الخارج الحد الأقصى، حتى استنفدت مصادر الاقتراض الخارجية كافة. فبدأ بالعلاج منهياً حرب فرنسا مع الجزائر، بأن أجرى تعديلات في الدستور الفرنسي، وأخرج الجزائر من كونها مقاطعة فرنسية. ثم سهل توقيع اتفاقية إيفيان، التي أخذت الجزائر بموجبها الاستقلال، رغم ضغوط أميركا وبريطانيا. ثم سددت فرنسا القسـم الأكبــر من ديـونـهـا وبخـاصـة ما كان منها لأميركا. واستـطـاعـت أن تجمع كمية كبيرة من الأرصدة النقدية، قاربـت (6) مليارات من الدولارات. واستبدل الفرنك القديم بآخر من نوع جديد، حتى تكونت لدى فرنسا كومة هائلة من الأرصدة الذهبية تفوق حاجتها للسيولة النقدية، كـل ذلك مـن أجـل ضـرب الدولار الأميركي. ولكن هل يستطيع الفرنك الفرنسي أن يناطح الدولار الأميركي العملاق؟ وأخيراً، لجأ إلى وسيلة تعتبر ناجعة، وهي ضرب نظام النقد الدولي القائم، فأخذ ينادي بالعودة إلى نظام القاعدة الذهبية. أي الاستعاضة عن الدولار، الذي اتخذ قاعدة للصرف الدولي بالذهب كأساس لنظام النقد الدولي.
ومما أوجد هزة عنيفة في عالم المال والاقتصاد، الهجوم الذي وجهه الجنرال ديغول إلى النظام النقدي الدولي والذي تمثل في ما جاء في خطابه المشهور الذي ألقاه في 14 شباط 1965. ومن الأفكار الرئيسية التي وردت فيه: إيجاد تكتل أوروبي في مواجهة الولايات المتحدة، ولو أن بريطانيا سارت في هذا المخطط مع فرنسا، لحصل التعجيل في ضرب الدولار. ثم انتقاد صلب نظام النقد الدولي القائم، حيث كان هذا النظام في البداية يرتكز إلى الدولار الأميركي، الذي تفوق نسبة غطائه الذهبي 100%، كما كان نقداً صعباً نادراً، تسعى الدول كافة للحصول عليه.
أما الآن فإن القسم الأكبر من الأرصدة الذهبية الأميركية قد ذاب، ولم يعد الدولار مغطى بالذهب، إلا بنسبة ضئيلة تقرب من 20%. وفي المقابل، ازدادت الأرصدة الذهبية، في بلدان السوق الأوروبية المشتركة، إلى حد يعادل أو يفوق حجم الأرصدة الأميركية. وأصبحت السوق الأوروبية تتشكل من خمس عشرة دولة. حيث أزيل ما بينها من الجمارك، وفتحت أسواقها للمبادلات التجارية الحرة بين الدول الأعضاء، مع تنقل الأيدي العاملة بحرية فيما بينها، بموجب اتفاقية ماسترخت. وأخيراً وجد الاتحاد الأوروبي سياسياً، فله برلمان وبنك مركزي اتحادي. ثم أصدر هذا الاتحاد نقداً جديداً في 1/1/1999 سمي (اليورو). وها هي أوروبا باتحادها السياسي والاقتصادي، وتبنّيها عملة نقدية عالمية جديدة، تكون قد حققت الرغبات التي كان الجنرال ديغول يسعى لتحقيقها. ولولا لجوء أميركا إلى حلف الأطلسي، وتوسعته، وتفعيله، لهبطت إلى مستوى نصف ما هي عليه الآن.
ولكن ما هو مدى تأثر الدولار من الأزمات المالية الحادة التي حدثت في العالم؟ أزمة جنوب شرق آسيا، ثم أزمة البرازيل، والأزمة الروسية المستفحلة التي استعصت على أي علاج؟ كما يمكننا القول إن أميركا اللاتينية، في معظمها، تعيش أزمات مالية واقتصادية!؟ نضيف إلى ذلك الأزمات الحادة التي أصابت الدولار نفسه بشكل خاص، والاقتصاد الاميركي بشكل عام، والمرض المزمن الذي أصاب ميزان المدفوعات الأميركي، منذ عقد الستينات حتى اليوم، مع التذبذب في الميزان التجاري بين دولة وأخرى، أو منطقة وأخرى.
كل هذه الأحداث، وهذه الهزات، وهذه الأزمات، ما مدى تأثيرها على الدولار الذي لا يزال يتربع على عرش المبادلات والتحويلات المالية؟ ولا يزال يعتبر هو قاعدة الصرف النقدية بين جميع العملات في العالم؟؟؟
إن أميركا سخرت قوى عديدة، وعوامل، ووسائل شتى، واتخذت إجراءات كثيرة، حافظت بها على هيبة الدولار، ومكانة الدولار، وقوة الدولار. وإن كان هو في ذاته يترنح، وكأنه ينتظر الضربة القاضية التي تطيح به عن عرشه، وبالتالي يطاح بدولة الدولار ذاتها.
أما العوامل والوسائل والإجراءات، التي تلجأ أميركا إليها، لتثبيت الدولار، والحفاظ على هيبته، ومكانته فهي:
أولاً: صندوق النقد الدولي: حيث يستقطب الصندوق دول العالم، وهي الدول الأعضاء الموقعة على اتفاق بريتون وودز، والتزامها بقوانينه وشروطه. وهي الدول ذاتها التي وقعت على اتفاقية البنك الدولي وشروطه.
ولما كان العالم ينقسم إلى دول غنية وصناعية، ودول فقيرة نامية، كان لا بد أن تعيش الدول الفقيرة النامية تحت رحمة الدول الغنية. فقد وجدت هذه الدول ابتداءً على شكل لا تستطيع معه العيش بذاتها. فقد أغرقت بالديون إلى الحد الذي التهم ويلتهم إجمالي إنتاجها المحلي، سواءً الإنتاج الغذائي، أو الإنتاج الاستهلاكي الآخر. فعاشت وتعيش على الديون المتتابعة المتراكمة، ويتبع هذه الديون الحمل الثقيل الذي يقصم الظهر وهو جدولتها. فتصبح عاجزة عن سداد الفواتير لهذه الديون، لا بل تتضاعف وتتضاعف، والجدولة مستمرة، والإنتاج المحلي وغير المحلي لا يفي بجزء يسير من فوائد هذه الديون (الربا). فتبقى هذه الدول في عجز دائم في ميزان مدفوعاتها، وفي اضطراب دائم في ميزانها التجاري. هذا مع عيش الكفاف، وأقل من الكفاف، أي تحت خط الفقر. فتتولد عندها المشاكل الداخلية، وتأخذ في المعاناة من هذه المشاكل، فتتسع الهوة بين الحاكم والمحكوم، وتتحول هذه الدول إلى دكتاتوريات، لا تلتزم بقانون، ولا تعرف للقوانين معنى. فيهب صندوق النقد الدولي لمعالجة ميزان المدفوعات، وإنقاذ اقتصاد البلد، ولكن بماذا؟؟؟ بفرض شروط وإجراءات تتعلق بالإصلاح الاقتصادي، ولكن على حساب الشعوب الكادحة. وتتلخص شروطه ومتطلباته في:
-
زيادة الضرائب.
-
رفع الدعم عن كثير من المواد الضرورية.
-
زيادة الأسعار.
-
فرض ضرائب إضافية مثل ضريبة المبيعات.
-
تخفيض سعر النقد المحلي.