العدد 208 -

السنة الثامنة عشرة جمادى الأولى 1425هـ – حزيران/ تموز 2004م

مع القرآن الكريم : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

مع القرآن الكريم : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )

ذكر ابن كثير في تفسيره: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه. فقوله ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ يعني من الأصنام والأنداد. ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وهو، الله وحده لا شريك له. فـ ﴿مَا﴾ ههنا بمعنى من، قال ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ @ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾أي ولا أعبد عبادتكم، أي لا أسلكها، ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، ولهذا قال: ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم، كما قال: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ فتبرّأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بدّ له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أي لا معبود إلا الله، ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمشركون يعبدون غير الله، عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾كما قال تعالى: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾وقال: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾وقال البخاري يقال ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾الكفر، ﴿وَلِيَ دِينِ ﴾الإسلام.
وذكر سيد قطب في ظلال القرآن: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ نفي بعد نفي، وجزم بعد جزم، وتوكيد بعد توكيد، بكل أساليب النفي، والجزم، والتوكيد…
﴿قُلْ﴾ .. فهو الأمر الإلهي الحاسم، الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده، ليس لمحمد فيه شيء، إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره، الحاكم الذي لا رادّ لحكمه.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾.. ناداهم بحقيقتهم، ووصفهم بصفتهم… إنهم ليسوا على دين، وليسوا بمؤمنين، وإنما هم كافرون، فلا التقاء إذاً بينك وبينهم في طريق..
وهكذا يوحي مطلع السورة، وافتتاح الخطاب، بحقيقة الانفصال، الذي لا يرجى معه اتصال!
﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فعبادتي غير عبادتكم، ومعبودي غير معبودكم. ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ فعبادتكم غير عبادتي، ومعبودكم غير معبودي. ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ توكيد للفقرة الأولى، في صيغة الجملة الإسمية، وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها. ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ تكرار لتوكيد الفقرة الثانية كي لا تبقى مظنة ولا شبهة… ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه، والاختلاف الذي لا تشابه فيه، والانفصال الذي لا اتصال فيه، والتمييز الذي لا اختلاط فيه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.. مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق.
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق.
إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر.. ولا يلتقيان… التوحيد منهج يتجه بالإنسان – مع الوجود كله – إلى الله وحده لا شريك له، ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة، وعن الوجود. هذه الجهة التي يتلقى عنه الإنسان هي الله، الله وحده بلا شريك، ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس، غير ملتبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية.. وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية، وضرورية للمدعوين…
إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد، والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته، هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها، والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.
وأول خطوة في الطريق هو تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصوراً، ومنهجاً، وعملاً. الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق…
لا ترقيع، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، مهما تزيّت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادّعت هذا العنوان.
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس. شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء، لهم دينهم، وله دينه. لهم طريقهم، وله طريقه، ولا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة، ولا نزول عن قليل في دينه أو كثير!
وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح.. ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة، وهذه المفاصلة، وهذا الحسم.. ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد… إنما هي الدعوة إلى الإسلام، كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية، والتميز الكامل عن الجاهلية.. ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.. وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته.. كلها من الله.. دون شريك .. كلها.. في كل نواحي الحياة والسلوك.
وبغير هذه المفاصلة، سيبقى الغبش، وتبقى المداهنة، ويبقى اللبس، ويبقى الترقيع… والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة، الواهنة، الضعيفة، إنها لا تقوم إلا على الحسم، والصراحة، والشجاعة، والوضوح… وهذا هو طريق الدعوة الأول: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *