العدد 208 -

السنة الثامنة عشرة جمادى الأولى 1425هـ – حزيران/ تموز 2004م

بغداد حاضرة الدنيا وشاهدها (قصيدة)

بغداد حاضرة الدنيا وشاهدها (قصيدة)

عَشِقْتُ بَغدادَ لَمّا عشتُ ماضيها=وهِمْتُ شرخَ شبابي في مغانيها
وصُنْتُ رَيِّقَها لما نَعُمْتُ به=من مسِّ سوءٍ ومن عينٍ تُعاديها
وقُلْتُ شعري على الشُّطْآنِ مُبْتَكِراً=وطاوعَتني على المعنى قوافيها
مادَ النَّخيلُ إذ الورقا تُذَكِّرُني=أَيامَ هارونَ والنّعمى تُوافيها
وغَرَّدَتْ فوقَ أغصانٍ بلابلُها=هَبَّ النّسيمُ ومادتْ في تَثنِّيها
تطاوَلَتْ وَزَهَتْ في ثوْبِ عِزَّتِها=في حضنِ دجلةَ والمنصورُ بانيها
وأنجبَتْ من رجالِ الحكمِ من صَعَدُوا=فوقَ الثُّرَيا وجاسوا في أعاليها
وأمسَكوا الأرْضَ من أطرافِها وغَدَتْ=دارُ الخلافةِ أمْنَ المحتمي فيها
تعدو الجِيادُ وقد شَدَّتْ أعِنَّتَها=أيدي الكُماةِ وفي الهيجاءِ تُرْخيها
سيوفُهمْ مُرهَفاتٌ في أَكُفِّهِمِ=إذا تطاولَتِ الأَعْناقُ تَفْريها
عُنْفُ الفُتُوَّةِ مِن هَبَّاتِ معتصِمٍ=ظَعِينَةٌ في بلادِ الرّومِ يَفْديها
وحَرَّكَ الجيْشَ لَبّى صَوْتَ صارخَةٍ=وأشعَلَ الأرضَ نيراناً بمنْ فيها
ومِلْءُ جَفْنيْكِ نوماً في كَلاءَتِهِ=يا أُخْتَ بغدادَ إنَّ العدْلَ راعِيها
تاريخُ بَغْدادَ في أحْضانِ مكتبتي=بينَ القماطِرِ والجُدْرانُ تحويها
وأنبتَتْ ساسةً دَوَّتْ على مَلأ=أَصواتُهُمْ من فِجاجِ الأرْضِ تأْتِيها
فيها رِجالٌ من الأفْذاذِ قدْ بَذَلوا=جُهْداً جَهيداً على أيامِ ماضيها
في البَحْثِ والعِلمِ والتاريخِ كم كَتَبُوا=وفي التَّراجِمِ شَدَّ القَوْسَ باريها
ودَوَّنُوا لُغَةَ الفُصْحى مُشافَهَةً=بينَ المضارِبِ سيْراً في بَواديها
وأَصَّلوا الفِقْهَ إذ أرْسَوْا قواعِدَهُ=وحَقَّقُوا السُّنَّةَ السَّمْحاءَ تَنْزِيها
يا ويْحَ نَفْسي وعِشْقي لا يُبارِحُها=بينَ الجوانِحِ واللوْعاتُ تذكيها
وفاضَتِ العَيْنُ رَقْراقاً مَدامِعُها=أَكادُ مِنْ زَفَراتِ القَلْبِ أُخْفيها
ثمَُّ انْثَنَيْتُ ونفسي لا تُطاوِعُني=بَلَوْتُ من زَفرَتي الحرَّى مآسِيها
أَرْثي الخِلافَةَ أمْ أنْعى مَآثِرَها=ولا مَآثِرَ في الدُّنيا تُضاهيها
أَبعْدَ هذا بُغاثُ البَعثِ تَحْرُسُها=واستَنْسَرتْ وبَغَتْ هَوْناً وتسْفيها
خانتْ قَوادِمُها ما كانَ يَعْضِدُها=وأسْلَمَتْها على البَلْوى خَوافيها
دارَ السَّلامِ سَلاماً لا يُضارِعُهُ=حُمّى الحِمامِ ولا أحزانُ باكيها
والعَيْنُ ساخِنةٌ ينْهَلُّ ساجِمُها=وفاضتِ الرُّوحُ إلاّ عَنْ تراقيها
والنفسُ واجِمةٌ قد ثارَ لاهِبُها=أَمْواهُ دَجْلةَ ما كادتْ لِتُطْفيها
مَنْ لِلْعِراقِ وقدْ عاثَ العُلوجُ به؟=ومَنْ لبغْدادَ يومَ الرَّوْعِ يَحْميها؟
مَنْ لِلخِلافةِ إِذ غابتْ معالِمُها=وأَظْلَمَ الكَوْنُ واشْتَدَّتْ عَواديها؟
مَنْ يرفَعُ الرايةَ السَّوداءَ خافِقَةً=شَريعةَ اللهِ في الأمصارِ يُحْييها؟
سَهِرْتُ لَيْلي لأَرْوِي قِصَّةً كُتِبَتْ=بِدَمْعِ عَذراءَ كادَ الحزنُ يَذويها
كم مِثلَ هاتيكِ يا بغدادُ قدْ قُطِعَتْ=أَوْصالُها فَتَناءَتْ عن أهاليها
لكنَّها ما اسْتَهانَتْ دونَ عِفَّتِها=ولا اسْتَكانَتْ لِضَيمٍ إنْ يُدانِيها
يا أُخْتَ دَجْلةَ لا تَخْشَيْ نوازِلَها=يا بِنْتَ بَغدادَ إنّي لَسْتُ ناسيها
مدَّتْ يدَيْها إلى الأقْصى تخاطِبُهُ=وَفِي جِنينَ تُلاقِي مَنْ يواسِيها
كِلْتاهُما مُسْتَغيثٌ صاحَ واشَرَفي=وأَطلَقَتْ ثمَّ واغَوْثاهُ مِنْ فِيها
فأَيُّ قَلْبٍ وَعَى مِقْدارَ مِحْنَتها؟=وأَيُّ أُذنٍ لِذي عَزمٍ تُلَبِّيها
لَوْلا الخِيانةُ ما كانَتْ قَذائِفُهُمْ=ولا الصَّواريخُ بالنّيرانِ تُصْلِيها
ولا البَوارِجُ ، أمْ كانَ الخليجُ لها=ممهّداً ولَمًا الأوغادُ تأْتيها
ولا السويسُ، وهذي مِصرُ خانِعَةٌ=قدِ اسْتُبيحَتْ على هَوْنٍ مَوانيها
نَسَجْتُ مِن مُقْلَتي عصماءَ ذاتَ شذىً=ومِنْ شُغافٍ إلى بغدادَ أُهديها
ما قُلْتُها للتّغَنِّي والفَخارِ بها=لكِنْ لأُفْرِغ عَزمِي في مَطاويها
ورائِدُ القَومِ حَقّاً ليسَ يكْذِبُهُمْ=تِلكَ الحقيقةُ عندَ النُّصحِ يجْليها
فيها نِداءٌ لِمَنْ شُدَّتْ عزائِمُهُمْ=إلى الجِهادِ فمَنْ لبَّى مُناديها
بَغدادُ حاضِرَةُ الدّنيا وشاهِدُها=عبرَ القرونِ لها دانتْ أَعاديها
لَمَّا بَناها بنو العَبَّاسِ كانَ لَهُمْ=فَضْلُ العُمومةِ واسْتَعْلَوا بِهِ تيها
أُرومَةُ المصطفى أَكْرِمْ بِهِ شَرَفاً=ما إنْ تَرى مِنْ أُروماتٍ تُدانيها
قادوا الجحافِلَ حتى دانَ مَشْرِقُها=وغَرَّبوا ومهادُ الأرضِ تَطْويها
كم مِنْ كَميٍّ له في الحرْبِ مَعْلَمَةٌ=ونفْسُهُ في سبيلِ اللهِ يَشْريها
لقَدْ وَقَفْنا على فْينّا نُحاصِرُها=وتِلْكَ باريسُ كُنّا في ضَواحيها
أَيامُنا تِلكَ أَيمُ اللهِ عائدَةٌ=ونَجْمَعُ الأرضَ قاصِيها لِقاصيها
فالحرْبُ مُعْلَنَةٌ والسّاحُ في سَعَةٍ=والخيْلُ زاحِمَةٌ تعلو نواصيها
هذي الملايينُ في شَوقٍ تَرَقَّبُها=لمّا استهانَ بِخَلْقِ اللهِ باغيها
بوشٌ وأوْباشُهُ فاللهُ يَقْصِمُهُمْ=ونَنْقُصُ الأرْضَ بالأَطرافِ نأتيها
لَمْ يَدْرِ أنّ المنايا في انتظارِهِمُ=والمَوْتُ في خُطُواتٍ كان يَمْشيها
جُيوشُهُمْ وقَدِ اغْتَرَّتْ بِقُوَّتِها=غُرورُها سَوفَ يُشْقيها ويُرْديها
فهلْ جَنَيْتُم وُرُوداً مِنْ حَدائِقِها؟=أم هَلْ وَجَدتُم قُبوراً في أراضِيها
لَم يَدرِ أنّ بني الإسلامِ قَدْ لَمَسُوا=عُقْمَ السّياسةِ مِمّن كان يُمليها
وأَدْرَكُوا أنّ حُكْمَ اللهِ يُنْقِذهُمْ=مِنَ الأعادي ومَنْ مِنْهُمْ يُواليها
إنّ الخِلافَةَ يا بَغدادُ عائِدةٌ=لكنَّما القُدْسُ بعدَ اليومِ تُؤْويها
ويَصْدُقُ الوَعدُ والأَقْصى نُخَلِّصُهُ=ويَظْهَرُ الدّينُ والأَبعادُ يَطْويها

فتحي سليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *