العدد 209 -

السنة الثامنة عشرة جمادى الثانية 1425هـ – تموز 2004م

نظام النقد الدولي (6) العصر الذهبي للدولار قد ولّى

نظام النقد الدولي (6)

العصر الذهبي للدولار قد ولّى

قلنا إن معظم مخزون الذهب العالمي كان مكدّساً في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك أنه جراء الحرب العالمية الثانية الواسعة انهزمت وتحطمت دول، وذابت دول، وتفتتت دول، واتسعت رقعة دول. وجرى اهتبال الفرص، والتطلع إلى تحقيق المكاسب، والانتقال من مكانة إلى أخرى فوقها، حتى اعتلاء عرش العالم، وسقوط دول إلى هاوية الاحتراق.

فلقد احترقت فرنسا، ودُمرت بريطانيا، واحتُلت أوروبا بكاملها من قبل النازية. وكانت موسكو تتنزل عليها قذائف المدفعية الألمانية كالمطر المنهمر، واليابان تنتقل في انتصاراتها من جزيرة إلى أخرى في المحيطين الهادي والهندي.
بريطانيا تستصرخ أميركا، وأميركا تنتظر فرصة متربصة حتى حصلت على ما تريد، حيث أخذت توقيعاً من تشرشل رئيس الوزراء البريطاني بفتح مستعمراتها أمام العبور الأميركي. ثم حدثت معركة بيرل هاربر، فأعلنت أميركا الحرب ساعتئذٍ على اليابان وألمانيا وإيطاليا (دول المِحْوَر).

ثم انتهت الحرب إلى ما انتهت عليه، وخرجت أميركا من الحرب تموج في غناها، وفي تكدس الذهب في خزائنها، فاستطاعت إيجاد نظام الصرف بالذهب، من خلال مؤتمر بريتون وودز، ثم ألغت هذا النظام سنة 1971، وأصبحت الأزمات النقدية الدولية تتلاحق. وأكثر عنصر فاعل في هذه الأزمات هو عجز ميزان المدفوعات الأميركي، وسبب ذلك أن الولايات المتحدة تعتبر مصرفاً دولياً، ومصدراً للنقد الدولي، فإنها إذا ما وقعت في عجز في ميزان مدفوعاتها، فإنها ليست بحاجة إلى سيولة دولية من أجل تغطيته.وإنما تستطيع القضاء عليه بنقدها الوطني. وهذا هو ما تفعله الولايات المتحدة منذ مدة طويلة. فمن الملاحظ أن مصدر السيولة الدولية هو فائض ميزان مدفوعاتها الممثل بالذهب أو بالنقود القوية للتحويل، وصندوق النقد الدولي، والمصارف المركزية الكبرى.

ونستطيع أن نقول الآن كيف وصلت الولايات المتحدة إلى تكديس هذا العجز الهائل في ميزان مدفوعاتها، والذي هو في الواقع دَيْن عليها؟

الجواب: إن هذا العجز المتراكم في ميزان المدفوعات الأميركي قد حصل بفعل ميكانيكية نظام النقد الدولي. وتفصيل ذلك:

إذا حصل عجز في ميزان مدفوعات أي بلد لا يعتبر مصدراً للنقد الدولي، فإنه لا يمكن أن يستمر أكثر من بضع سنوات. وإذا لم يسارع ذلك البلد إلى القضاء على هذا العجز، فإنه يحدث له أضرار نقدية واقتصادية بالغة.

أما بالنسبة للبلد الذي يعتبر مصدراً للنقد الدولي – أي أميركا – فالأمر يختلف كثيراً. إذ إن هذا البلد ليس مضطراً إطلاقاً للقضاء على عجز ميزان مدفوعاته. لا بل على النقيض، فإنه يستطيع أن يتركه يتراكم مدة طويلة للغاية. والسبب في ذلك هو أنه يستطيع بكل بساطة أن يغطيه بنقده الوطني، على اعتبار أنه نقد شبه دولي، ومقبول في كل مكان، إذ إن كل دولة في حاجة إليه، وهي ليست في حاجة إلى نقد دولة غيرها، ومن البديهي أن الحصول على نقده الوطني ليس عملية صعبة، كما هو الشأن بالنسبة للبلدان الأخرى، التي تضطر، من أجل تغطية عجز ميزان مدفوعاتها، إلى الحصول على الذهب، أو القطع الأجنبي. وعملية الحصول هذه ليست سهلة إطلاقاً. من هنا نرى أنه لا يوجد أي سبب نقدي أو اقتصادي يجبر الولايات المتحدة على القضاء على عجز ميزان مدفوعاتها. فالأمر يتعلق بمصلحتها الداخلية فقط. فإذا رأت أن مصلحتها الداخلية تقضي عليها بإصدار كميات إضافية من الدولارات، فإنها تفعل ذلك، ولا يهمها مطلقاً الآثار السيئة التي يمكن أن تحدث جراء ذلك في الخارج. وما على البلدان الأخرى إلا أن تدبر أمرها وتحتاط.

في الأزمة العالمية الكبرى المشهورة، خفضت الولايات المتحدة دولارها في شهر كانون الثاني 1934 بنسبة 40.9%، وقد مر الدولار الأميركي في مرحلة تضخم نقدي فظيعة، ما كان يستدعي تخفيض نقدها. وقد كان يتداخل مع العامل الاقتصادي، في التخفيض، العامل السياسي، وبخاصة من بريطانيا؛ ولذلك فإن أزمة الذهب، وارتفاع سعره الجنوني سنة 1968، قد افتعلتها بريطانيا، بمساندة فرنسا، لضرب الدولار. فبعد أن الغي (مجمع الذهب) اتفق على أن يكون للذهب سعران، عندئذٍ قامت بريطانيا بتخفيض نقدها الإسترليني، إذ كان يعتبر رافداً للدولة، فاضطرت أميركا إلى تخفيض الدولار.

ومنذ العام 1968 – 1973، وأزمات الدولار متتالية، أشهرها أزمة 1971، حيث لجأ نيكسون إلى إصدار قراراته المشهورة بإسقاط الذهب، وإبعاده عن عمليات التحويل، وتثبيت الأسعار.
وفي سنة 1972، قامت ألمانيا بامتناع شراء الدولار، ورفعت قيمة المارك إلى ما نسبته 4%، فاضطرت أميركا إلى تخفيض قيمة الدولار إلى ما نسبته 6%.

وفي سنة 1973، عندما حصلت مضاربات حادة في سوق المضاربات الأوروبية، كانت بريطانيا على رأس المضاربين، فاضطرت الولايات المتحدة إلى تخفيض قيمة الدولار إلى ما نسبته 10%، وكانت بريطانيا حينها قد خفضت نسبة الإسترليني إلى 14% ولندن هي أهم مراكز تجميع الذهب، وسوق عالمي للذهب.

ووضع سعرين للذهب يعني الانفلات من صلاحيات صندوق النقد الدولي، وتعريض الدولار إلى تلقي الضربات.
وإذا تتبعنا النشرة المالية نجد أن تقييم كافة العملات بما فيها الذهب والبترول لا يكون إلا بالدولار. فانخفاض الدولار وارتفاعه لا يحصل عملياً، حيث إنه المقياس الذي تقاس به كافة العملات من حيث ارتفاع أسعارها وانخفاضها، وأما ارتفاع الدولار وانخفاضه، فبأي مقياس نقيسه؟؟

وحقيقة ارتفاعه وانخفاضه يكون غير مباشر وذلك بالعمل على رفع بعض العملات، فيكون انخفاضه غير مباشر، أو تخفيض بعض العملات فيكون ارتفاعه غير مباشر. ولذلك فإن الاقتصاد الأميركي لا يتأثر بالهزات المالية والاقتصادية، ولا يظهر ذلك عليه إلا في المدى الطويل، فيبقى الدولار في مركزه كقاعدة للتحويل وأساس للصرف مدعوماً سياسياً.

فصندوق النقد الدولي مؤسسة مالية، ولكن دوره وإن تحرك مالياً في الظاهر، إلا أنه في حقيقته تحرك سياسي. فهو مؤسسة مالية، وعملها سياسي، فهو رافد من روافد السياسة الأميركية في العالم، كما أنه مرجع لكافة المؤسسات المالية الأخرى، كالمصارف المركزية الكبرى والنوادي المالية، وصناديق الإقراض والإنماء، وصناديق الاستثمار والتوفير. كل هذه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصندوق النقد الدولي مالياً ثم سياسياً.

فعندما حدثت مشكلة تيمور الشرقية مثلاً ورفضت إندونيسيا الموافقة على إرسال قوات سلام دولية، بادر كلينتون على الفور مهدداً بقطع المساعدات والمعونات العسكرية عن أندونيسيا. فتبعه صندوق النقد الدولي مهدداً بإيقاف القروض والمساعدات التي وضعت لإنعاش الاقتصاد الإندونيسي الذي كان قد هبط إلى الحضيض.

إن الكتلة الأوروبية بوحدتها السياسية والاقتصادية تشكل عامل انفصال أي عامل تحدٍّ (كتلة مستقلة فيها كل مقومات الاستقلالية) إذ استطاعت أن تخرج إلى عالم المال والاقتصاد نقداً جديداً هو اليورو تدعمه سياسياً وإنتاجياً وينساب في تحركه تلقائياً في مناطق عديدة من العالم، وبخاصة المناطق التي تريد أن تتخلص من كابوس الدولار وهيمنة الدولار، بالإضافة إلى الأسواق التقليدية التي تتحرك فيها دول أوروبا بناءً على تواجدها القديم – زمن الاستعمار -.

وقد ساعد اليورو في منافسته الدولار، ما اعترى ميزان المدفوعات الأميركي من عجز، فقد بلغت تراكمات العجز في ميزان العجز الأميركي، في أوائل شهر كانون الأول 2003، (491) مليار دولار – واستمرار هذا العجز في الزيادة والارتفاع، يؤدي إلى تآكل الدولار، فهذه نسبة الدولار مع العملات الأخرى قد تدنت إلى حد ينذر بكارثة تصيب الدولار، والاقتصاد الأميركي عموماً.

إن العجز في ميزان المدفوعات هو عبارة عن ديون متراكمة على تلك الدولة، كما إن وجود العديد من المليارات الموزعة في أسواق العالم، وفي مصارف العالم، يعرض الدولار إلى حافة الخطر، لأنه لا يثبت أمام المضاربات المالية.

وبما أن العالم مرتبط ارتباطاً وثيقاً في معاملاته المالية والتجارية، فإن العصر الذهبي لللدولار قد ولّى، فقد فقدت كثير من الأوساط المالية ثقتها بالدولار، لفقدانها ثقتها بسلامة سير السياسة الأميركية في العالم.

كما أن الأوساط المالية والاقتصادية، في كثير من مناطق العالم، تبحث لها عن ملاذ آمن تأوي إليه، لتتقي ضربات التقلبات والأزمات الاقتصادية، الناتجة عن الاضطرابات السياسية الحالية.

فالأوساط المالية والاقتصادية تنظر إلى الدولار كعدو لها، والمراقبون والمحللون الاقتصاديون يتطلعون إلى عهد جديد، ونظام نقدي دولي جديد، فنظام النقد الحالي لا لون له، فالدولار يتآكل جراء العجز المتراكم في ميزان المدفوعات الأميركي، وموجات التضخم التي يمر بها الاقتصاد الأميركي تضعف قوة الدولار الشرائية، والمضاربات النقدية في الأسواق الدولية تؤدي إلى وقوع الدولار في أزمات متلاحقة، لكثرة الدولارات المنتشرة في العالم (الدولارات الضائعة).

والنفقات المترتبة على كاهل الميزانية الفدرالية تثقل كاهلها إلى حد ينوء بها الناتج المحلي. إن بنداً واحداً يلتهم الآن نصف الميزانية الفدرالية، وهو بند الإعانات الاجتماعية للمسنين، وفي العام 2003 استهلك هذا البند وحده 75% من الميزانية الفدرالية، ويقول الخبراء إنه سنة 2013 سيأتي على الميزانية برمتها، فكيف بهذه الميزانية، وما يترتب عليها من إنفاق على التسليح العسكري، والإنفاق على غزو الفضاء، والإنفاق على المعونات الخارجية لتثبيت نفوذها؟

لما كان الدولار متربعاً على عرش المال العالمي، بقي الإسترليني عملة احتياطية، له مساحات يوجد فيها، وهي دول الكومنولث، وهو في حد ذاته يعتبر من العملات الصعبة، يصلح لأن يوضع رصيداً في البنوك المركزية العالمية، وكذلك الفرنك والمارك والين، فهذه تأخذ الأهمية نفسها في اعتبارها عملات صعبة تدخرها البنوك المركزية في خزائنها.

وإذا أتينا إلى دول الاتحاد الأوروبي، واستقلاليته الاقتصادية، نجد أن زمن الهيمنة الدولارية قد ولّى، حيث ظهر في ساحة المال عالمياً منافس قوي للدولار وهو (اليورو)، وإذا أضفنا إلى كل ذلك الاضطرابات السياسية التي تواجه أميركا نتيجة استراتيجيتها الجديدة في العالم، نجد أن حجم المساحة التي يتحرك فيها الدولار ليست آمنة، بقدر المساحة التي يتحرك فيها اليورو، وكلاهما يتنافسان في حلبة السباق، وهكذا أميطت العالمية عن الدولار، بظهور اليورو أولاً، وفقدان صندوق النقد الدولي لكثير من صلاحياته ثانياً، ثم التطلع إلى العودة إلى قاعدة الذهب ثالثاً، وبخاصة والاتحاد الأوروبي الآن يهيء نفسه لهذا، لا سيما وأن اعتماد اليورو عملة موحدة لدول أوروبا، قد بني على أساس وضع رصيد ذهبي له.

إذ نصت اتفاقية (ماسترخت) في شباط 1992، في سياق إنشاء العملة الموحدة اعتباراً من سنة 1999، أن انتقال البنوك المركزية الوطنية إلى النظام الأوروبي للبنوك المركزية، برئاسة البنك المركزي الأوروبي، سيترافق بجمع مبلغ مبدئي قدره (50) بليون يورو من الذهب من الدول المشاركة، كما قرر مجلس المحافظين في البنك المركزي الأوروبي سنة 1998 أن نسبة 15% من احتياطاته المبدئية البالغة (29.5) بليون يورو، التي من المقرر أن تحول له في 1/1/1999، يجب أن تكون ذهباً.

ودعت مجلة (فورتشن) الأميركية صراحةً إلى بناء نقدي جديد يستند إلى عدة عملات رئيسية بدل اعتماده على الدولار الأميركي، كما دعت إلى عودة الذهب إلى النظام النقدي، بعد إقرار سعر عالمي وواقعي له. وذكرت مجلة (الإكونومست) البريطانية، في عددها الصادر بتاريخ 22/9/97، أن المصارف السويسرية قد نصحت زبائنها سراً بالاحتفا ظ بنسبة 10% على الأقل من موجوداتهم بالذهب، كما إن بعض المستشارين الماليين قد نصحوا شركات وممولين خليجيين بتحديد سقف لمقتنياتهم من الدولار، نتيجة للخوف من تدهور متزايد في أسعار الدولار، وللحفا ظ على تركيبة متوازنة من الموجودات النقدية والذهبية.

إنه وإن كان الدولار قد تربع على عرش المال، وكان في أوج عظمته، إلا أن المصارف في سويسرا، وهي تعتبر ملاذاً آمناً وسرياً للمدخرات والاستثمارات المالية، فإنها كانت تحتفظ بكميات هائلة من الأرصدة الذهبية تقدر بآلاف الأطنان. وتقول آخر الإحصائيات إن البنوك المركزية تحتفظ بحوالي (30) ألف طن من الذهب

بقلم: فتحي محمد سليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *