العدد 211 -

السنة الثامنة عشرة شعبان 1425هـ – أيلول 2004م

مع القرآن الكريم : فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا

مع القرآن الكريم : فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 42 – 45]

ذكر سيد قطب في تفسيره لهذه الآيات: «إنها المواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه، نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه؛ فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له، ولم توجههم النعمة إلى الشكر.. كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء؛ فحقت عليهم كلمة الله، ونزل بساحتهم الدمار الذي لا تنجو منه ديار…
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ويتذللون له، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة… ولكنهم لم يفعلوا، ولم يلجأوا إلى الله، وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد: ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر، فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة التي وردته إلى ربه، وكانت رحمةً له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه..
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل… فإنهم لما نسوا ما ذكروا به، وعلم الله سبحانه أنهم مهلكون… فتح عليهم أبواب كل شيء، للاستدراج بعد الابتلاء.
والتعبير القرآني ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يصور الأرزاق، والخيران، والمتاع، والسلطان… متدفقة كالسيول، بلا حواجز ولا قيود… ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة، واستغرقوا في المتاع بها، والفرح لها، بلا شكر ولا ذكر، وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم، ومن خشيته وتقواه، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع، واستسلموا للشهوات… وتبع كل ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجر هذا وذاك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها… عندئذٍ جاء موعد السنة التي لا تتبدل: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ فكان أخذهم على غرة، وهم في سهوة وسكرة، فإذا هم حائرون، وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ ودابر القوم هو آخر واحد منهم، فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى. و﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ تعني هنا الذين أشركوا..
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ تعقيب على استئصال الظالمين (المشركين)، بعد هذا الاستدراج الإلهي، والكيد المتين… وهل يحمد الله على نعمة، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين؟ أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير؟
لقد أخذ الله قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، كما أخذ الفراعنة، والإغريق، والرومان، وغيرهم، بهذه السنّة. ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها… هذا التفسير الرباني.
ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة، وكان لها من التمكين في الأرض، وكان لها من الرخاء والمتاع، ما لا يقل عما تتمتع به اليوم أمم، مستغرقة في السلطان والرخاء، والمتاع، مخدوعة بما هي فيه، خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء…
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة، والذين يدورون في فلكها يستدرجهم اللألاء الخاطف، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم، وهي لا تعبد الله، أو لا تعرفه، وهي تتمرد على سلطانه، وهي تعيث في الأرض فساداً.
ويقول سيد قطب رحمه الله: ولقد كنت، في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأميركية، أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية… تشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب!.. لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك. وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه، وشعورهم بأنه وقف على “الرجل الأبيض”، وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية بشعة، وفي صلف على أهل الأرض كلهم، لا يقاس إليه صلف النازية، الذي شهر به اليهود في الأرض كلها، حتى صار علماً على الصلف العنصري، بينما الأميركي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونين من المسلمين… كنت أرى هذا كله، فأذكر الآية، وأتوقع سنة الله، وأكاد أرى خطواتها، وهي تدب إلى الغافلين…
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك ألوان من العذاب باقية. والبشرية، وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء، تذوق منها الكثير… إن العذاب النفسي، والشقاء الروحي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الخلقي… الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع، وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء.
وليس هذا كله إلا بداية الطريق. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، على معاصيه، ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾
غير أنه ينبغي، مع ذلك، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في أمة… ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق… فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد، فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق، ولا يكونون أهله… والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقرّ حاكمية الله في الأرض .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *