العدد 215 -

السنة التاسعة عشرة ذو الحجة 1425هـ – كانون الثاني 2005م

الحج دروس وعبر

الحج دروس وعبر

عندما أراد سبحانه للبيت العتيق أن يبنى وترفع قواعده، وأراد لأرض الحرم أن تكون مهوى أفئدة الناس، أمر نبيه إبراهيم عليه السلام بإسكان سيدنا إسماعيل وأمه مكة. وليس أدل على ذلك من سؤال هاجر، أم إسماعيل، زوجها سيدنا إبراهيم، عندما ولّى ظهره وأراد أن يغادر المكان ويتركهما، قامت إليه هاجر، وتعلقت بثيابه، وقالت: «يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الواد الذي ليس فيه ضرع، ولا زرع، ولا أنيس، ولا زاد، ولا ماء؟» فقالت له ذلك تكراراً ومراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: «آلله أمرك بهذا؟» قال: «نعم»، قالت: «إذن لا يضيعنا». ثم رجعت.

فانطلق سيدنا إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذا الدعاء الذي ذكره الله في القرآن، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم].

وهكذا استجاب رب العالمين لنداء سيدنا إبراهيم، فجعل مكة مهوى أفئدة الناس تحن إليها وتحن إلى زيارة بيت الله الحرام؛ ولذلك انظروا لأنفسكم، ألا يتمنى كل واحد منا أن يزور بيت الله الحرام، ويعتصر ألماً عندما يرى الحجيج يلبون وهو في بيته ينظر إليهم، ويتمنى لو أنه معهم ينادي: «لبيك اللهم لبيك»، ويتمنى لو أن هذه الموانع تزول من أمامه، ويكون بمستطاعه زيارة ذلك البيت العتيق. فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف. والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.

وهذه هي مكة التي لم يكن فيها زرع، ولا بشر، ولا شجر مثمر، يأتيها رزقها من كل جانب، وتنقل إليها ثمرات وطيبات كل شيء. واستجابة لنداء سيدنا إبراهيم عليه السلام جبيت لَطائفُ كل شيء إلى ذلك البلد، الذي ما كان فيه أنيس، ولا جليس، ولا شجر، ولا ثمر، فأصبح قديماً تغشاه القوافل التجارية، ولم يكتفِ أهله برحلة واحدة، بل كانت لهم رحلتان: رحلة الصيف، ورحلة الشتاء، قال تعالى: ﴿لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ، إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش]. وعندما أُمر سيدنا إبراهيم ببناء البيت العتيق، كأول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون فيه الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران]، أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى، وبني في بلد حرام، حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، كما ثبت في الصحيحين. وسميت مكة ببكة؛ قيل لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها، ويخضعون عندها؛ وقيل لأن الناس يزدحمون بها. وعندما أنهى إبراهيم عليه السلام البناء، أُمر بالنداء، بقوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج].

ولما فرغ إبراهيم، عليه السلام، من بناء البيت, قيل له: أذن في الناس بالحج, قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن، وعليّ الإبلاغ، فصعد إبراهيم، خليل الله، جبل أبا قبيس وصاح: يا أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت؛ ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار؛ فحجوا; فخفضت الجبال رؤوسها، ورُفعت له القرى، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك! فلم يسمعه يومئذ من إنس, ولا جن, ولا شجر, ولا أكمة, ولا تراب, ولا جبل, ولا ماء, ولا شيء، إلا قال: لبيك اللهم لبيك!

واستجابة لنداء سيدنا إبراهيم، فرض علينا معشر المسلمين الحج، قال تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران].

وقد جعل الشرع الحج من الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام، وجعله من أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد. فقد ورد في البخاري عن أبِي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بِاللهِ ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل اللهِ. قيل: ثم ماذا؟ قال حج مبرور. بل إن الشرع قد بيَّن أن الحج يمحو الذنوب والآثام، فقد ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه». وحذر الإسلام من عدم الحج للمقتدر، وجعله معصية من أكبر المعاصي، فقد ورد عند الدارمي: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس، فمات ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، أو إن شاء نصرانياً».

ولكن ما هي الدروس المستفادة من الحج، فوق كونه اجتماع كبير للمسلمين يعبر عن وحدة الشعور والمشاعر، ووحدة الفكر الهدف، ووحدة الواقع والمآسي والمصير؟

الحج يعني الإقلاع عن كل حرام، وعهداً مع الله أن لا يفرط الحاج بفرض فرضه الله. والحج يذكر الحاج عند لباسه لباس الإحرام بالموت ولباس الموت، وكفى بالموت واعظاً يا عمر. والحج يعني أن تتذكر ما عاناه الصحابة، رضوان الله عليهم، لأجل هذا الدين، فهنا عُذِّب بلال رضي الله عنه وكان عبداً فصبر واحتمل ذلك، ولم يكن مثلنا حراً. وهنا قتلت سمية أم عمار صابرةً محتسبةً أمرها لله؛ لتكون أول شهيدة في الإسلام، وهي جارية ولم تكن حرة أيضاً. وهنا عذب خباب وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا وقعت غزوة بدر الكبرى، التي فصل فيها الحق بين الحق والباطل. وهنا وقعت أحد التي هزم في بدايتها المسلمون لمخالفتهم أمراً واحداً من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم. فكيف بكم تريدون نصراً وحكامكم ما زالوا يطبقون الكفر وأحكامه.

والحاج عندما ينظر للكعبة، وتدخل هيبتها في قلبه، يتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف مخاطباً الكعبة: حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً»، ويقارن ذلك بما يراه اليوم من هوان المسلمين، وقتل الأميركيين لهم في كل مكان، وما فعله حكام الخليج من جعلهم الحرمة لدماء الكفار وإباحة دماء المسلمين، هؤلاء الحكام الذين لم يذكروا ما رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنًى: «أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن هذا يوم حرام. أفتدرون أي بلد هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: بلد حرام. أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهر حرام. قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».

والحاج عندما ينظر للكعبة، ويتذكر كيف كانت محاطة بالأصنام، وكيف عمل صلى الله عليه وسلم على تحطيم تلكم الأصنام، ولم يبقِ منها شيئاً، فطهرها من الأدناس والأرجاس، يتذكر ذلك وهو يتفكر في الأصنام البشرية التي نصبت نفسها آلهة من دون الله، تشرع ما تشاء، وتسن أحكاماً كيف تريد، وينظر كيف حولت هذه الأصنام البشرية معيشة الأمة إلى جحيم، واستبدلت نعيم الإسلام بجحيم الكفر، ما يوجب على الحاج أن يعمل ما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لإزالة هذه الأصنام البشرية وتحطيمها كما حطمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفرح كما فرح المؤمنون عندما كان يردد صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء].

والحج يُذكِّر بما روي عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب». قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أتاه الثلج واليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»، فأجلى يهود خيبر. فأين ذلك مما يصنعه ملوك الجزيرة ومشايخها عندما يستجلبون اليهود والنصارى إلى أرض الجزيرة التي أمر الله بتطهيرها من الكافرين.

والحج يذكر، فيما يذكر، بسورة البراءة من المشركين، ونبذ العهود والمعاهدات التي كانت معقودة معهم، وإنذارهم أربعة أشهر قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة].

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة لأهل مكة: «لا يحج بعد العام هذا مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسولُه». قال: فسار بها ثلاثاً ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «إلحقه، فرد علي أبا بكر، وبلغها أنت». قال: ففعل. قال: فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر بكى، قال: يا رسول الله حدث في شيء، قال: «ما حدث فيك إلا خير، ولكن أمرت أن لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني».

والحج يذكر بقوة الله وقدرته، كيف حول مكة من أرض جرداء لا ماء فيها ولا زرع، فأصبحت مهوى الأفئدة، ومن أغنى بلدان العالم، يأتيها رزقها من كل جانب، وكأن الآيات تنـزل الآن تذكر أهل مكة بأن لا يخافوا عيلة ولا فقراً. فقد كانت مكة آمنة في حين كانت الأعراب حولها لا تعرف الأمان، وكان أهلها شبعى وغيرهم يتضور جوعاً قبل الإسلام. فكيف يخافون على أنفسهم ورزقهم وقد أمنهم الله، وهم على كفرهم، بوصفهم من سكان بيت الله الحرام. انظروا لقوله تعالى معاتباً كفار قريش عندما رفضوا اتباع الهدى خوفاً من أن يتخطفهم الناس فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [القصص] وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ [العنكبوت].

يقول تعالى، ممتناً على قريش فيما أحلهم من حرمه، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا؛ فهم في أمن عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، فالله يقول إنا جعلنا بلدهم حرماً, حرمنا على الناس أن يدخلوه بغارة، أو حرب, آمناً, يأمن فيه من سكنه, فأوى إليه من السباء والخوف والحرام الذي لا يأمنه غيرهم من الناس ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ يقول: وتسلب الناس من حولهم قتلا وسبياً.

وكأن الآيات تقول لحكام الخليج: إن بيت الله بيت حرام على الكفار، فلا يجوز لهم أن يدخلوهم أرض الحرم؛ لأنها حرام عليهم. وعلى أولئك الحكام أن لا يخشوا إلا ربهم، فقد كان لكم في أهل قريش مثل، وما آل إليه حالهم عندما دار الله الدائرة عليهم، ونصر المسلمين عليهم.

وأخيراً نقول للحجاج الحج عج وثج. والعج رفع الصوت في التلبية، والثج هو النحر، نحر البُدْنِ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الحج أفضل؟ قال: «العج والثج»؛ ولذلك فالثجُّ يعني براءة الحج من الشرك والمشركين. الحج موالاة للمؤمنين، والحج إكمال للدين، ونحر لكل إثم قديم، واستعداد للتضحية لأجل هذا الدين.

أبو رسل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *