نحن والطائفية (1)
حاول المستعمر بكل قوته أن يحارب أحكام المواطنة في الدولة العثمانية آنذاك وتحويل وتغيير نظام “الملل” الإسلامي في الدولة العثمانية إلى نظام المواطنة الوضعية التي لا تنظر إلى عنصر الدين في تفصيل الواجبات والحقوق في الدولة. الهدف كان مسح ومحق تصنيف الناس حسب التابعية لدار الإسلام؛ لما يترتب على ذلك من أحكام التجارة والجهاد وغيرها من العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات والملل المختلفة.
ولازلنا نرى آثار تلك المحاربة، وإن تغيرت الأساليب. فكان الهدف في السابق إدخال تغيرات في هيكل وأنظمة الخلافة العثمانية باسم الإصلاح والتحديث. أما الآن، و بغياب الدولة التي تمثل المسلمين، أصبح المستهدف الإسلام، وفهمنا لهذا الدين. كل هذا يقع تحت شعار «التجديد الديني» أو «تغيير الخطاب الديني».
تمهيد الطريق لإلغاء نظام الذمة
لقد غذت قوى الاستعمار نزعات الطائفية والقومية في البلاد الإسلامية في آخر عهد الدولة العثمانية، عن طريق دعم دعوة الانفصال عن الدولة العثمانية. وفي نفس الوقت استخدمت أبواق دعاية لها، تدعو إلى تبني الدولة العثمانية ما يسمى بنظام المواطنة على نمط أوروبي، في ما يسمى بالدول الوطنية الحديثة. كانت أول غرسة لضرب الدولة العثمانية من الداخل، واستبدالها بدول لا تنتمي للإسلام، وتأخذ النمط الأوروبي كبديل حتى تبعد الإسلام شيئاً فشيئاً من قلوب الناس، واستبدالها بمشاعر ما يسمى وطنية وقومية. فقد صرح لُوْرَنْس الجاسوس الإنكليزي المعروف بذلك، أثناء تنقله بين معسكرات أبناء الشريف حُسَيْن فقال: «وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا…وفي الحج أتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النـزعة الدينية؟؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني على الاعتقاد الديني؟؟…وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟؟».
ويقول في تقرير بعثه إلى المخابرات البريطانية في كانون الثاني عام 1916م بعنوان سياسات مكة قال فيه: «لو تمكنا من تحريض العرب على انتزاع حقوقهم من تركيا فجأةً وبالعنف؛ لقضينا على خطر الإسلام إلى الأبد، ودفعنا المسلمين إلى إعلان الحرب على أنفسهم، فتمزقهم من داخلهم، وفي عقر دارهم، وسيقوم نتيجة ذلك خليفة للمسلمين في تركيا وآخر في العالم العربي؛ ليخوضا حرباً دينية فيما بينهما، ولن يخيفنا بعد هذا الإسلام…أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية، ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها…وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فسيبقون في دوامة الفوضى السياسية، داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتناحرة غير قابلة للتماسك…».
وقد ذكر المرحوم السلطان عبد الحميد ذلك في مذكراته عن محاولات الاستعمار الأجنبي زعزعة الخلافة العثمانية من الداخل إذ قال: «وهل تستحق الدولة العثمانية هذه الحملات، وقد آوت النصارى الهاربين من جحيم الصراع المذهبي في الغرب خلال القرون الوسطى؟ ألم تكن الدولة العثمانية هي الملجأ الوحيد لليهود الناجين من بطش محاكم التفتيش في إسبانيا؟ ألم تبذل جمعية الهلال الأحمر العثمانية كل جهد ممكن لإيجاد المأوى والملبس لمن طرِد من وطنه في سبيل معتقده؟ ولكن من يعرف هذه الحقائق التاريخية أو يعترف بها؟ فماذا يقول غلاَدِسْتُون، وهو رجل إنجلترا الأول عن المسألة الشرقية، سوى التعريض بنا بأن بلادنا تحكم بالقوة والبطش بلا قوانين ولا أعراف، ألم يثبت كذب ما ادّعوه من وقوع مذابح للبلغار والأرمن؟ ألم يتبين أن أمر التخريب الذي زعموه في المدن بعد طرد سكانها هو محض افتراء؟ وأن النصارى يعيشون مع المسلمين حياة طبيعية وجنباً إلى جنب؟».
نستطيع أن نقول إن تمهيد الطريق لإلغاء نظام التابعية في بلاد الإسلام، واستبدالها بأنظمة وضعية، بدأت ومهد لها عن طريق الدعوة لنبذ الرابطة الإسلامية، واستبدالها بأفكار أخرى، كحب الوطن، وحب العشيرة والقوم. حتى انتقلت هذه الدعوات من مجرد حركات ورموز، إلى ثورات وقلاقل مدعومة من المستعمر، انتهت ولو بعد حين بدول علمانية تستوحي نظام التابعية على أسس إقليمية وقومية. لقد عرف السلطان عبد الحميد خبث هذه الدعوة والهدف منها إذ يقول في مذكراته: «إن الإنجليز قد أفسدوا عقول المصريين؛ لأن بعض المصريين يعتقد أن سلامة مصر ستأتي من الإنجليز، وأن هذا البعض أصبح يقدم القومية على الدين، ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوروبية. وإنجلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإسلامية إلى هزّ عرشي، وأن الفكر القومي قد تقدم تقدماً ملموساً في مصر، والمثقفون المصريون أصبحوا من حيث لا يشعرون ألعوبة في يد الإنجليز. إنهم بذلك يهزّون اقتدار الدولة الإسلامية، ويهزّون معها اعتبار الخلافة».
لقد حصل ما توقعه السلطان عبد الحميد، فسرعان ما ضربت النـزعات القومية الخلافة العثمانية من الداخل، حتى على أنقاضها خرجت دول تتبنى القومية والإقليمية كأساس للمواطنة بدلاً من جعل الشرع الحنيف الأساس الذي تقاس عليه أحكام التابعية.
الطوائف المختلفة في الدولة الإسلامية
التاريخ يشهد لحسن معاملة المسلمين للطوائف المختلفة في الدولة الإسلامية، لقد أعطى الإسلام الاستقلال الذاتي للملل المختلفة تحت سلطان الإسلام، فلهم محاكمهم ومعابدهم الخاصة بهم، لا تتدخل سلطة الدولة في أمور دينهم. لعلنا نضرب بعض الأمثلة لذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده عبر العصور:
-
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى نصارى نجران: ينقل ابن سعد في طبقاته نص هذا الكتاب كما يلي «وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلملأسقف بني الحارث ابن كعب، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم، أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين».
-
كتاب خالد بن وليد رضي الله عنهإلى أهل دمشق: عند فتح دمشق كتب خالد بن الوليد إلى أهلها «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلموالخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية».
-
استرجاع خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهكنيسة يوحنا: أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا المعروف من النصارى بالقهر، وضمه للجامع الأموي، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة اشتكى له النصارى من أهل الذمة، فأمر باسترجاع الكنيسة لهم.
-
الدفاع والذود عن أهل الذمة: لما كان عهد الذمة عهد أمان وحماية، وجب على المسلمين الدفاع عنهم وعن أموالهم وأعراضهم والذود عنهم، في هذا الصدد قال النوويّ: «ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم». فوق ذلك يجب فك أسر أهل الذمة إن أسرهم العدو، يقول ابن النجار الحنبلي «يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يؤذيهم، وفكُّ أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى». عهد الذمة عهد عظيم، يترتب عليه بذل كل شيء لحماية أهل الذمة؛ لأن عهد الذمة عهد نصرة بكل ما تعني الكلمة، يقول القرافي: «فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم». في هذه المسألة يذكر الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين «من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة».
-
وأيضاً في هذا الصدد قد أورد البَلاَذِرِي أن السامِرَة (فرقة من اليهود) «كانوا عيوناً وأدلاء» للمسلمين، وأن يهود حمص قاموا بحراسة أبواب المدينة، حين خرج منها جيش المسلمين للالتحاق بمعركة اليرموك، «وكذلك فعل أهل المدن، التي صولحت من النصارى واليهود». كما نقل برنارد لويس في كتابه “العرب في التاريخ” أن عرافاً يهودياً كتب عن الحكم الإسلامي فجعل ملاكاً يقول لكاهن «لا تخف يا ابن يهوه، فالخالق تبارك اسمه لم يضع مملكة إسماعيل إلا ليخلصكم من هذا الشر» والمقصود “بهذا الشر” هم الروم البيزنطيين.