العدد 159 -

السنة الرابعة عشرة _ كانون الثاني 1421هــ _ تموز2000م

أهميـة الاشتغـال بالسـياسـة

محاضرة ألقاها الأستاذ عصام عميرة في ذكرى جريمة إلغاء الخـلافة

       الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه  وبعد ،

        أيها الحضور الكرام:

          السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ،

          إننا نعيش اليوم ذكرى هدم دولة الخلافة الإسلامية كنظام سياسي عاش المسلمون في ظله قروناً طويلة أعزة أقوياء، يطبق عليهم الإسلام في الداخل، ويحمل عنهم الإسلام رسالة إلى العالم في الخارج عن طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله. ولم تعرف البشرية على طول المدى التاريخي نظاماً سياسياً في مستواه من حيث الشمولية، وحسن الرعاية، والعمر المديد، والتأثير الإيجابي في حياة الشعوب وفي الموقف الدولي. ولا عجب، فهو النظام الذي يجسد إفراد الله وحده بالعبادة كما أمر، ويطبق الأحكام التي ارتضاها الله لعباده في فض الخصومات والفصل في المنازعات فيما بينهم. فحصل جراء ذلك وجود الطمأنينة عند الناس، وعمّت البركة كل شيء عندهم وحولهم. والآن مضى أكثر من سبعة عقود والعملاق الإسلامي لا زال منكفئاً على وجهه بفعل الضربة القاضية التي وجهها إليه الغرب الكافر بعد خطة أحكمت حلقاتها ومكر الليل والنهار الذي أوصل اللعين مصطفى كمال عميل الإنجليز إلى سدة الحكم ليسدد سهمه المسموم إلى قلب الرجل المريض أو ما كان يعرف بالدولة العثمانية بإلغائه نظام الخلافة، واعتماده نظام العلمانية نظاماً سياسياً جديداً لتركيا، حتى إنه من حقده على عاصمة الخلافة إسطنبول، جعل عاصمة تركيا أنقرة. وكانت باقي أجزاء الدولة العثمانية في ذلك الوقت قد انسلخت عنها، ووقعت تحت السيطرة المباشرة للإنجليز والفرنسيين وغيرهم من دول الكفر.

          هذا وقد كان لدولة الخلافة ـ شأنها كباقي الدول ـ حاكمٌ يقود الدولة والأمة ويتولى شؤون الحكم والسياسة ومن حوله بطانة من معاونين ومستشارين وولاة وقضاة وموظفين يتحملون معه أعباء الحكم والإدارة، وكان في الدولة وسط سياسي دائم التفكير في أمور الدولة والأمة. ولما سقطت الخلافة وهوى طودها الشامخ وتغير نظام الحكم عند المسلمين طويت صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، وتغير نتيجة لذلك كل شيء تقريباً. تغيرت الجغرافيا الإسلامية، فبعد أن كانت الدولة الإسلامية الواحدة تمتد عبر العمق الأسيوي وكل الشمال الإفريقي وبعض مناطق الوسط في إفريقيا وأوروبا تفتتت هذه الرقعة الواحدة الواسعة إلى أكثر من خمسين دويلة حكامها متدابرون متقاطعون متشاحنون فقطعوا أوصال الأمة الإسلامية بخيانتهم وحمقهم. وبعد أن كانت الممرات الاستراتيجية الثلاثة هرمز وجبل طارق وباب المندب تحت السيادة الإسلامية أصبحت القوات الأميركية والبريطانية الغازية تجوب تلك المناطق وتعبر هذه الممرات مضافاً إليها قناة السويس دون أن تخضع لأية رقابة تذكر. وتغيرت الديموغرافيا الإسلامية، وغزا الكفار فلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير وغيرها من بلاد المسلمين وأصبحت لهم السيادة والغلبة وصار المسلمون أقليات منبوذة ومضطهدة. وتغيرت أنظمة الحكم في كل بلاد العالم الإسلامي وسادت الأنظمة الملكية والجمهورية والسلطنية والإماراتية والإدارات الذاتية وغيرها من أنظمة الحكم الفاسدة غير الشرعية. وتغيرت المرجعية الفقهية والفكرية وصار يفتى للناس على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدها.

          وتغيرت أنماط اللباس الشرعي وأشكاله عند الرجال والنساء، وتهتكت أستار الحياء وعم السفور وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وشاع تقليد الغرب واتباع سنن أهل الكتاب ودخل المسلمون جحر الضب الذي دخله اليهود والنصارى.

          وتغير الاقتصاد عند المسلمين، وفشا الربا، وكثرت التكوينات الاقتصادية الرأسمالية، وغاض مفهوم الشركة في الإسلام، وانقرضت المفردات الاقتصادية التي ملأت كتب الفقه كشركة العنان والمضاربة، وكالضمان والسلم وغيرها من أحكام البيوع والشركات والوديعة والعاريّة والقرض والرهن وغيره، وحتى أحكام الفرائض والأحوال الشخصية قد لحقها التغيير والتبديل.

          وفوق ذلك كله فقد تغير الوسط السياسي عند المسلمين، حيث قضي على الوسط السياسي الإسلامي قضاءً مبرماً، ولم يقف عند ذلك، بل نفر المسلمون من السياسة من حيث هي، وابتعدوا عن تتبع الأخبار، وأقفلت الأوساط السياسية الجديدة في وجه كل من يعطي الرأي السياسي من زاوية نظرة الإسلام للحياة. ووجد في البلاد الإسلامية أوساط سياسية لا تقل في فسادها عن الأوساط السياسية في البلاد غير الإسلامية، وهي فوق فسادها وميكيافيلية طبعها ومنهجها وتجلي الأنانية والمصالح الشخصية في رجالها فإنها تحوي عملاء ومقلدين مفتونين بأنظمة الكفر وسياسة الكفر، كارهين الإسلام، وحاقدين عليه، ومحتقرين له ولحملة دعوته. والأدهى من ذلك والأمرّ أنهم قد أقنعوا كثيراً من المسلمين بأنهم وأبناءهم وأقرباءهم وأنسباءهم وزبانيتهم عمالقة وقادة وأفذاذ، وأنهم دوماُ في مقدمة الناس، وهم وحدهم الذين يحق لهم دراسة العلوم السياسية وتبوء المناصب القيادية، وقد تحصلت عندهم جراء ذلك ملكة التمثيل والتلبيس، وصار لهم من الحيلة وخبث التأتي ما يمكنهم أن يلبسوا لكل حالة لبوسها، ولو اقتضى الأمر أن يصلّوا في الصف الأول من المسجد أمام كاميرات التلفاز لفعلوا ذلك والله وحده هو الذي يعلم إن كانوا يحسنون الوضوء أو لا. ولكنها ظروف مواكبة الصحوة الإسلامية وركوب موجة الإسلام.

        أيها الحضور الكرام:

          إن أهمية أي عمل تكمن في مقدار ما يعطيه الإسلام له من أهمية، فالخمرة والخنزير مثلاً لا قيمة لهما وليستا أموالاً محترمة عند المسلمين لأن الشرع حرمهما، والفضل الكبير للعلم على العبادة أمر قدره الشرع الحنيف، وهو الذي جعل الغدوة أو الروحة في سبيل الله خيراً من الدنيا وما فيها، وبالتالي فإن أهمية العمل السياسي والاشتغال بالسياسة أمر لا يترك تقديره للناس، بل لا بد من أخذ رأي الشرع فيه حتى ندرك أهميته ونعطيه حقه. فترك تقدير تلك الأهمية للناس يجعله عرضة للتفاوت من قوم إلى آخرين، ومن أزمنة إلى أخرى، ولربما تناقضت الآراء فيه عند نفس القوم. ولهذا فإننا عندما نضع بين أيدينا مسألة الاشتغال بالسياسة لا بد لنا من تعريفها ومعرفة حكم الشرع فيها والوقوف على ما يلزمها من إعداد وما يترتب عليها من نتائج.

          أما تعريفها: فالسياسة أولاً هي رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً، وأما الاشتغال بالسياسة فمعناه التفكير بالسياسة وممارستها عملياً سواء أكان السياسي في الحكم أم لم يكن فيه. والتفكير السياسي هو أعلى أنواع التفكير وأعقدها على الإطلاق، لأنه يعني التفكير برعاية شؤون الأمة من زاوية خاصة. وعلوه آتٍ من كونه متعلقاً بالإنسان، وتعقيده آتٍ من كثرة عناصره ومتغيراته. أما عناصره فيمكن إيجازها فيما يلي:

  1. تتبع ما لا بد من معرفته من الوقائع والحوادث التي تقع في العالم وتحليلها وإعطاء الرأي فيها من زاوية خاصة، وهي زاوية العقيدة.

  2. وجود معلومات ـ ولو أولية مقتضبة ـ عن ماهية تلك الوقائع والحوادث، أي عن مدلولات الأخبار، سواء أكانت تلك المعلومات جغرافية أو تاريخية أو شخصية أو فكرية أو سياسية أو غير ذلك.

  3. عدم تجريد الوقائع والحوادث من ظروفها، وعدم تعميمها على غيرها بقياس شمولي.

  4. تمييز الحادثة والواقعة، أي تمييز الخبر وتمحيصُه، ومعرفة مصدره، وموقع وقوعه، والوضع الذي حصل فيه، والقصد من وجوده، ومدى إيجاز الخبر والإسهاب فيه وتكراره.

  5. ربط الخبر بالمعلومات، ولا سيما ربطه بغيره من الأخبار ربطاً صحيحاً، للعمل بمقتضى هذا الربط، وليس أخذ الخبر مجرداً أو للعلم فقط.

          هذه هي أهم عناصر التفكير السياسي، أما متغيراته فيمكن إجمالها فيما يلي:

  1. عدم وجود قاعدة ثابتة له يبنى عليها ويقاس عليها كما هو الحال في أنواع التفكير الأخرى.

  2. ديمومة تغير الأشياء والحوادث والأخبار وتجددها نظراً للتغير الدائم في الأحوال الإنسانية.

  3. كذب بعض الأخبار والتصريحات بغرض التضليل والتمويه ما يجعل معرفة الحقيقة وراءها صعبة.

          وقبل الخوض في تفاصيل مسألة الاشتغال بالسياسة من حيث المنهاج الحركي الذي يحققها والنتائج التي تتمخض عنها لا بد من معرفة حكم الشرع فيها:

          إن الحكم الشرعي في الاشتغال بالسياسة هو فرض كفاية، فإذا قام به البعض وتحققت أغراضه المنشودة سقط الإثم عن باقي المسلمين، وأما إذا لم يتصد له أحد من المسلمين أو لم تحصل الأغراض المنشودة على يد من تصدى له فإن الكل يكون آثماً مستحقاً غضب الله إلا من تلبس بالعمل على وجهه الصحيح.

          ودليل ذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة كما يلي:

          أما الكتاب: فالله سبحانه وتعالى يقول: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً). ويقول سبحانه: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهمون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). ومعناه أن يكون من بين المسلمين جماعة تتصدى للاشتغال بالسياسة حتى تستقيم أمور الأمة.

          وأما السنة فأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاكماً يمارس رعاية شؤون الناس، ولولاه لما انتظم للمسلمين عقد، ولما قامت لهم قائمة، وقد جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض عن ضرورة وجود إمام للمسلمين من بعده، يبايع بيعة شرعية للحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتخذ له بطانة من المسلمين تتولى معه أعمال السياسة والإدارة، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بمراقبة الحاكم ومحاسبته أمراً جازماً في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والإمام الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم». وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع». ومعناه أن يكون في المسلمين من يشتغلون بالسياسة لمحاسبة الحكام وتوسيع قاعدة الوسط السياسي إلى أبعد مدى ممكن.

          وأما إجماع الصحابة فلم يكد بعلن خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى اجتمع كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وما انفضوا حتى بايعوا أبا بكر لخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون أميراً عليهم يسوسهم ويدبر أمرهم. ومثل هذا العمل لا يتصدى له إلا السياسيون. وكذلك ما حصل في حياة الخلفاء الراشدين من حوادث وقف فيها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين محاسبين ناصحين ومشاركين في أعمال اتخاذ القرار السياسي ليس إلا دليلاً على أن الاشتغال بالسياسة من أجل الأعمال وأعظمها. من ذلك ما رواه أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الناس في السواد حين افتتح ـ والسواد هو أرض العراق وإيران اليوم وسميت بأرض السواد من شدة خصوبتها ـ فرأى عامتهم أن يقسمه وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك. وكان رأي عمر أن يتركه ولا يقسمه فقال: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه. ومكثوا في ذلك يومين أو ثلاثة أو دون ذلك. قال عمر: إني وجدت حجة فتلا من قوله تعالى في سورة الحشر: (وما أفاء الله على رسوله منهم…) إلى أن وصل إلى قوله تعالى من السورة نفسها: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) وقال: فكانت هذه عامة لمن جاء من بعدهم، فقد صار الفيء بين هؤلاء جميعاً، فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من تخلف بعدهم بغير قسم، فأجمع على تركه وجمع خراجه بعد أن استشار المـهاجرين والأنصار.

          فهذا إجماع على ضرورة وجود رجال في الأمة الإسلامية حكاماً ومحكومين يشتغلون بالسياسة التي هي قمة الهرم في الأعمال الواجبة على الأمة في مسير الدولة.

        أيها الحضور الكرام:

          بعد بيان الحكم الشرعي في مسألة الاشتغال بالسياسة وأنها فرض كفاية، ننتقل الآن إلى ما يلزم ذلك الاشتغال من إعداد وتجهيز حتى يكون اشتغالاً منتجاً وموفقاً.

          بداية يجب أن يعلم أن الاشتغال بالسياسة لا يكون من أفراد قادة وأفذاذ مبدعين فقط، بل يكون من وسط سياسي عريض التكوين رجالاً ونساءً، وسطٍ واسع الاطلاع، غني التجرية، يتمتع بالوعي السياسي الكامل، قادر على مزج العقيدة الإسلامية بالأعمال السياسية، ذلك أن الدولة الإسلامية دولة مبدئية، وعملها الأصلي هو حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم بعد تطبيقه كاملاً في الداخل، فلا مناص لرجال الوسط السياسي فيها من التمتع بالوعي السياسي الكامل لأنه شيء تحتمه إسلاميتهم وإسلامية دولتهم وما يترتب على ذلك من أعمال يفرضها الإسلام عليهم.

          والوعي السياسي لا يعني الوعي على الأوضاع السياسية أو على الموقف الدولي أو على الحوادث السياسية أو تتبع السياسة الدولية والأعمال السياسية ـ وإن كان ذلك من مستلزمات كماله ـ وإنما الوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة، وهي بالنسبة لنا من زاوية العقيدة الإسلامية، زاوية  لا إله إلا الله  محمد رسول الله، وزاوية أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا  لا إله إلا الله  محمد رسول الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. هكذا يكون الوعي السياسي بالنظر إلى العالم كل العالم، ومن خلال زاوية الإسلام، وأن لا يقبل فيه اختصار الغايات السامية والأهداف البعيدة والاكتفاء بغايات جزئية وأهداف آنية.

          والوعي السياسي لا يكون مقتصراً على السياسيين والمفكرين، ولكنه قد يوجد في الأميين والعوام، بل لا بد من إيجاده فيهم ولو إجمالاً. فالأمة الإسلامية هي التربة التي ينبت فيها الرجال، فلا بد أن تكون تربة وعي سياسي حتى تنبت رجالاً سياسيين يتمكنون بوعيهم السياسي من محاسبة الحكام، ومجابهة الأخطار التي تتهدد أمتهم ودولتهم، وهذا يستلزم التثقيف السياسي لأفراد الأمة على أوسع نطاق ممكن، لإيجاد حشد من السياسيين المبدعين كي تضطلع الأمة بمهمتها الأساسية ووظيفتها الأصلية، ألا وهي حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم ونشر الهدى بين الناس.

          ولتجسيد فكرة الوعي السياسي في الأذهان وبيان كيفية انطباقها على واقع السياسة، أورد لكم مثالاً من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الزاوية الخاصة التي كان ينظر منها إلى العالم هي نشر الدعوة. فلأن قريشاً كانت هي الدولة الكبرى في الجزيرة، وكانت هي رأس الكفر في وجه الدعوة، فإنه صلى الله عليه وسلم قد وضع نصب عينيه حصر الأعمال السياسية فيها، فكان يرسل العيون ليرصدها، ويتعرض لتجارتها، ويشتبك معها في معارك حربية، وكان يكتفي من باقي الدول أو القبائل بالوقوف متفرجين، أو على الحياد، ولما علم صلى الله عليه وسلم أن خيبر تتفاوض مع قريش لعقد حلف بينهما لمهاجمة المدينة والقضاء على الدولة الإسلامية وسحق الإسلام، حدد زاوية العمل أن يهادن قريشاً أو يصالحها ويتفرغ لسحق خيبر. ومن هذه الزاوية الخاصة اتخذ سياسة السلم أساساً لأعماله المقبلة ما دامت تسير في تحقيق غايته، فصارت أعماله كلها في هذه الفترة تسير وفق سياسة السلم، فذهابه للعمرة، ورضاه بإعراض قريش عنه، ولينه أمام تعنت قريش ومخالفته لأصحابه في الحديبية وغير ذلك، كلها شواهد على سياسة السلم التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت ما لتحقيق نتائج معينة في مجال العلاقات الخارجية والأمن. بينما تبدلت تلك السياسة بعد فتح مكة وأصبح إظهار القوة واستعراضها على تخوم الكفار تمهيداً لحمل الدعوة الإسلامية خارج حدود الجزيرة، أصبح هو الزاوية الجدية للعمل السياسي في تلك المرحلة فكان الأمر بإنفاذ بعث أسامة. وكذلك فعل أبو بكر عندما تجلى لديه الوعي السياسي بقتال المرتدين حيث سحقهم وقطع دابر فتنتهم رغم معارضة بعض معاونيه كعمر بن الخطاب، ولكنه رضي الله عنه أصر وقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ولو خرجت بنفسي، نعم أيها الحضور، هكذا تكون المعالجات للأزمات والأخطار التي تحدق بالأمة، وليس كما فعل العثمانيون عندما ثارت شعوب البلقان بتحريك من الدول الكافرة، فإنهم ـ غفر الله لهم ـ لم يكونوا يتمتعون بالوعي السياسي الكامل، بل إنهم كانوا ضعيفي التفكير السياسي، لأنهم كانوا يحاولون إخماد تلك الثورات أحياناً، ويخضعون لبعض مطالبها أحياناً أخرى، وفي الوقت نفسه كانوا يحاولون إرضاء الدول الكبرى التي تحركها لتحطيم الدولة، فكانت النتيجة أن تقطع جسم الدولة إرباً إرباً.

 

        أيها الحضور الكرام:

          إن مفهوم الوسط السياسي ليس مدركاً عند كثير من المسلمين، وغائب تماماً عن أذهانهم، بل إن معظم الحركات الإسلامية لا تدرك معنى الوسط السياسي الإسلامي الواجب إيجاده، لأن ثقافتها الحركية أو منهاجها الحركي لا يحوي ذلك المعنى المحدد، شأنها في ذلك شأن المدارس والمعاهد الرسمية في الدول القائمة في العالم الإسلامي فإن مناهج التعليم والثقافة فيها لا تنتج سياسيين مسلمين مفكرين يضافون إلى رصيد الوسط السياسي في الأمة، وحتى المعاهد والكليات التي تعلم بعض علوم الشريعة الإسلامية لا تخرّج سياسيين مسلمين لأن مناهجها لا تحوي العلوم السياسية الإسلامية وأعني بذلك الأحكام الشرعية المتعلقة بنظام الحكم في الإسلام من حيث البيعة والخلافة والجهاد والسياسة الخارجية والأحزاب السياسية الإسلامية وما شاكل ذلك، فالحكام يعتبرون دراسة هذه الأحكام تجاوزاً للخطوط الحمراء.

          فالمسألة إذن تكمن في إيجاد سياسيين إسلاميين يشكلون وسطاً سياسياً في الأمة الإسلامية يكون بديلاً عن الأوساط السياسية الحالية بعد إزالتها ومحو آثارها. نعم لقد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك حين كان في مكة، وحين أوجد الدولة في المدينة، وحين فتح مكة. أما في مرحلة الدعوة وهو في مكة فقد أوجد من بعض أهلها سياسيين مثقفين مخلصين واعين كأبي بكر وعمر وعثمان وحمزة وغيرهم، وكانوا يحاولون دخول الوسط السياسي فيها، وما نقاش أبي بكر مع زعماء قريش في أمر الفرس والروم إلا محاولة دخول الوسط السياسي، وليس قول عمر لأهل مكة “إذا صرنا ثلاثمائة فإما أن نخرجكم منها أو تخرجونا منها” إلا مثالاً على الصراع على أخذ رعاية شؤون الناس، وأما الاضطهاد الوحشي فإن أخبار أذى قريش للمسلمين أشهر من أن يشار إليها. ما يدل على إصرار المسلمين الأوائل على اختراق الوسط السياسي القرشي بأفكار الإسلام، وأنهم كانوا من خارج الوسط السياسي المعروف في مكة بل من غير المؤثرين في المجتمع بشكل عام بدليل تعذيبهم وإيذائهم ما اضطرهم إلى الهجرة أكثر من مرة، وحصارُهم في شعاب مكة برهانٌ آخر. ولما منَّ الله على رسوله وعلى المؤمنين بالنصر وإقامة الدولة الإسلامية في المدينة، تم القضاء على الوسط السياسي القديم فيها، وسط عبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، وحين فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة قضى على الوسط السياسي القديم فيها، وسط أبي سفيان وأضرابه، وقطع أعناقاً وأهدر دماءً، وأزال كيانات سياسية ومعنوية، وأبطل تحالفات سياسية واجتماعية وأمنية، وهدم أصناماً كانت تعبد من دون الله، ووضع الربا الجاهلي والدماء الجاهلية. وهذه أمور تحتمها سنن الوجود، وتقتضيها إقامة دار الإسلام والقضاء على دار الكفر.

        أيها الحضور الكرام:

          لا عذر بعد اليوم للمخلصين الواعين في التقاعس عن العمل الجاد ليكونوا سياسيين، وأن يحاولوا دخول الوسط السياسي، وأن يؤثروا فيه كي يتهيأ وسط سياسي إسلامي بجاهزية عالية ليكون بديلاً عن الأوساط السياسية الحالية التي تعبث بالمسلمين ومقدراتهم بعد أن مردت على النفاق والتبعية للغرب وأفكاره الكافرة.

          ولا بد لكم من الإسراع في ذلك فالزمن يطوي أيامه بسرعة فائقة، والمسؤوليات الملقاة على عواتقنا جسيمة، والأعمال التي تنتظرنا كبيرة وكثيرة، وأعداء الإسلام والمسلمين هم في الدرجة الأولى أعداء للمخلصين الواعين منهم، فما لم يكن هؤلاء المخلصون الواعون أقوياء في أفكارهم كما هم في عقائدهم، وفي جرأتهم كما هم في فهمهم وإدراكهم فإنه يُخشى عليهم عليهم من البقاء واقفين عند باب الدار مع أنها دارهم وهم الذين أوجدوها، وسيطول الوقت دون الوصول ـ لا سمح الله ـ، ومعنى ذلك أن تبقى السلطة والقوة في يد غيرهم.

          بقيت مسألة أخيرة ذات صلة بالموضوع الذي نحن بصدده، وهي مسألة صناعة السياسيين المسلمين، أين تتم؟ وكيف تكون؟ ومتى توجد؟ والجواب على ذلك يبدأ من المكان الذي صنع فيه السياسيون المسلمون الأوائل. فهم لم يوجدوا إلا بعد أن بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وكوَّن مدرسة سياسية جديدة بمفاهيم الإسلام وأفكاره المبنية على عقيدة التوحيد، وما أن تخرج أول فوج حتى انطلقوا في المجتمع يرسمون الخطوط المستقيمة إلى جانب الخطوط العوجاء حتى يظهر اعوجاجها مهما كان ذلك دقيقاً. وثابروا على ذلك رغم ما لاقوه من عنت من حكام قريش وما حولها ورجالات الوسط السياسي الفاسد فيها، حتى نصرهم الله، وجعلهم قاهرين طالبين بعد أن كانوا مقهورين مطلوبين.

          فالذي يخرِّج السياسيين الإسلاميين ليست هي الدولة ببرامجها الرسمية الموجهة عادة، وإنما الأحزاب السياسية الإسلامية هي المحاضن التي تنتج السياسيين القادرين على قيادة الأمة وإيجاد الوسط السياسي الإسلامي فيها قبل الحكم وبعده، والفارق بينهما أن كمائنهم بعد الحكم تتفجر، وقدراتهم القيادية في السياسة والإرادة تتجلى أكثر. والأحزاب السياسية الإسلامية هي الجهة التي تتابع تزويد الأمة بالحشد الكافي من السياسيين الذين يحاسبون الحكام وينشرون الوعي في أوساط الناس، ويرتقون بمستوى الأمة السياسي من حالة التبعية والتسليم المطلق بتصرفات الحاكم إلى حالة اليقظة والحرص على تطبيق  المبدأ بحذافيره، فهم عيون الأمة وحراسها الأمناء ولا يستثنى من ذلك النساء، فهن قد اضطلعن بمسؤولياتهن في عهود الوعي السياسي الإسلامي وشاركن في ذلك مشاركات سجلها التاريخ لهن، كموقف المرأة التي خاصمت عمر في مسألة تحديد المهور فخصمته، وأسماء بنت زيد الأنصارية التي قدمت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها وافدة النساء إليه لتسأل عن موقع المرأة في المجتمع.

        أيها  الحضور  الكرام:

          إن الحكام يعرفون تماماً أن نهضة المسلمين لا تكون إلا على قاعدة العمل السياسي والأحزاب السياسية، ولذلك شوهوا هذا المفهوم وقزموه، وكادوا له كل الكيد، وجندوا بعض من يتسموْن بالعلماء المسلمين لمحاربة الأحزاب والحزبية، ما اضطرهم إلى الكذب على الله ورسوله والسلف الصالح والخلف الصالح عندما قالوا: “لا أحزاب في الدين كلمة حق مبين” وعندما حادوا عن الإنصاف وجانبوا أمانة النقل وهم يتصدون زوراً لنقد الأحزاب السياسية الإسلامية المعقود عليها أمل الأمة في التغيير. كذبوا ورب الكعبة، وستكتب شهادتهم ويسألون.

          اللهم اكتب لنا في عملنا هذا الخير والحسنات، وجنبنا مزالق الشيطان والسيئات، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعجل لنا بفرجك وبنصرك وبقيام دولة الإسلام التي فيها حكمك.

          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

عصام عميرة ـ بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *