في عـز الدنيـا والآخـرة فليتنـافـس المتنـافـسـون
2000/05/08م
المقالات
1,867 زيارة
فيما يلي نص الكلمة التي ألقاها د.محمد عفيف شديد في مؤتمر الخلافة في معهد الخضوري في مدينة طولكرم، والذي نظمته كتلة الوعي الإسلامي في 12/3/2000م في ذكرى إلغاء الخلافة الإسلامية، هذا المؤتمر الذي تقيمه كتلة الوعي سنوياً في الجامعات الفلسطينية كجامعة أبو ديس والخليل والنجاح وبيرزيت:
يقول الله تعالى في محكم التنـزيل: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).
يا أبناء خير أمة أخرجت للناس، يا أبناء أمة الوسط. أيها الشهداء لله، أيها الشهداء على الناس، أيها الأمناء على الوجود، أيها الهداة إلى الحق، يا أهل الفضل، يا رواد البشرية، يا سدنة الحياة… هل أتاكم النبأ العظيم، وهل جاءكم من الأنباء ما فيه مزدجر، أن أمتكم قد دهمتها داهية الدواهي، وحل بها بلاء جلل، ونزل بها داء الأمم، ونزل عليها غضب الله. أن أمتكم قد غشيتها كل الأمم فأذلت ناصيتها ودالت أيامها وبعدت بها شقة الهوان. أن أمتكم تئن أنين الفصال وتتدافع بها الحسرات. أنها تستصرخ فيكم نخوات أبنائها البررة، وتهتف في أعماقكم أن أغيثوني، فلئن ذللتُ فلن تعزوا بعدي أبدا، ولئن أُصبت فلن ترفعوا رأساً أبداً…
يا أبناء أمة الوسط والشهادة، إن أمتكم واسطة العقد وجوهرة الحياة ورمز الوجود، أودع الله فيها أسرار عزته ومكنون هدايته ونور تجلياته وسلطان برهان…
دين الإسلام العظيم.. عقيدة يشرح الله بها الصدور وينير بها البصائر، وتتفتح لها الأبصار فتهدي إلى صراط مستقيم. نظاماً تصلح به الحياة، وتنتظم به المسالك، وتقوم عليه الأركان ويجتمع عليه الأخيار. نظام يحكم بين الناس بالحق ويجافي الهوى ويقيم الوزن بالقسط. نظام يأرز إلى رحاب عدله عدوٌ وصديق. نظام أراده الله وحققه قائدكم محمد صلى الله عليه وسلموانقاد له خلفاء وأمراء، فتحصنوا به ورفعوا راياته واهتدوا بنوره، فقامت لهم عزتهم فكانت لهم وكانوا لها، فوافاهم السعد وسعدت بهم الحياة، ودانت لهم الرقاب، واستظل الناس يتفيئون ظلال الإسلام وارفين، وفتح الله عليهم بركات الأرض والسماء.
إن مسيرة الخلافة الظافرة أنجبت للوجود رجالاً أرادوا فحققوا، وقالوا فسددوا، وعملوا فأخلصوا، وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستحقوا حياة طيبة عزيزة، وإن جنات عدن لمفتحة لهم الأبواب. إن أولئك الرجال وقد عز نظيرهم وندر مثلهم، وإنهم لأمةٌ يهتدون بالحق وبه يعدلون. وإن أمتنا باجتبائها واصطفائها لقادرة على رفد الدنيا بمثلهم.. مواكب تترى من زمر الخير.. ما نصحوا لله ورسوله وقاربوا وسددوا وأحسنوا، إنهم فريق آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وتواصلوا مع أجدادهم النجباء العظام، وتيقنوا أن لا نصر إلا من عند الله، ولا عزة إلا في جنابه، ولا حياة إلا في ظلال دولة الخلافة، وأن لا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه. إنهم أحفاد أولئك الرجال.. ذُخُر الوجود وحرزه، رجال آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان، رجال كان قائدهم يهمس في روع الزمان وهو يخطو بثبات الصديقين على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لقد كنا نقاسي أحوالاً تشيب لها النواصي، وأهوالاً تزيل الرواسي، خائضين غمارها راكبين تيارها، والأنوف تعطس علينا بالكبر، والصدور تسعر علينا بالغيظ، والشفار تشحذ بالمكر، لا نرجو عند الصباح مساء، ولا عند المساء صباحاً… هؤلاء هم أجدادكم ثلة من الأولين. وأنتم بعزائمكم الوقادة وغايتكم العظيمة ثلة من الآخرين. بكم وبصدقكم يحيى الله موات هذه الأمة وينبت غراسها اليانعة. إنه قدر الرواد العاملين، ولقد نبتت بحمد الله غراس هذه الأمة طيبة مخضرة يافعة، تبشر بمحصول وافر، ويتعهدها محترفون مهرة، أتقنوا صناعة الرجال، وتفننوا في بناء الصروح، ونبغوا في رفع الرايات، وأجادوا قيادة الركب، وأتقنوا صنع القرار، وتعلموا وعلموا كشف الداء ووصف الدواء.
أيها الجمع المبارك: لقد طال انتظارنا للفرج وتغطرس أعداء الله في الأرض، وقتلوا المسلمين وحرقوهم وقطعوهم أمواتاً وأحياء! ومثلوا بهم واعتدوا على أعراضهم وكرامتهم وخربوا ديارهم وثكلوا نساءهم ويتموا أطفالهم… في فلسطين والشيشان وكشمير ونيجيريا والفلبين وتيمور… في السودان والصين ونيبال. عالم يموج بالحقد ويمور بالكراهية، ويتميز من الغيظ، ويزفر بالعداوة والبغضاء. حرب مستعرة أعلنها الكافر على الإسلام ودلفوا إليها من كل حدب وصوب، ونهدوا إليها من كل رابية، وتنادوا لها من كل فج عميق.. جمعوا جموعهم، ووبشوا أوباشهم، وادلهمّ الليل وتعاظمت أوهامه، ووحشت هوامه، وانهار غسقه، ولم يعد يبدد ظلامه ويشق دامسه إلا نور العاملين المضيء، حتى يقول السائر في عتمات الليل البهيم: إني آنست نوراً.. فإن سار إليه ثم سار معه فقد نجا واكتتب نفسه في ديوان المصطفين الأخيار، وإن أدبر عنه وأوغل في ظلماته ولج في طغيانه غبر مع الغابرين. ألا إن النور هو ثلة تحمل الحق وتهدي به وتسلك دروبه وتتوهج بتوهجه.. ثلة انبثقت من أرض الخصب والنماء، وفي أرض الخصب والنماء، من أمة وجبت قيادتها للبشرية.. ثلة تظمئ نهارها وتحي ليلها وتوقظ أهلها لإعزاز هذه الأمة وإحيائها من جديد.. ثلة تمسك بالكتاب وبه تعمل.. إنهم أولو بقية من أولى النهى ينهون عن الفساد في الأرض، ويدفعون عذاب الله أن يقع، ويسيرون بالأمة إلا أن يتناغم سلوكها مع أمر ربها، وتأتلف قلوبها على هديه في ظلال دولة الجاه والعز والسلطان..
إن هذه الأمة بما ادخر الله فيها من أسباب بقائها رائدة مهيمنة.. لتخبؤ للغد أملاً واعداً، وإن طاقاتها لتوشك أن تتفجر، وإن ينابيع الحياة لتتفجر من بين الصخور، وإن إرهاصات النصر لتتابع، وإن أيام العز قد أقبلت تبتسم، وإن أيام الكآبة والأحزان قد أذنت بانقضاء، وإن زرع الحق قد نما فاستغلظ سوقه وضربت جذوره في أعماق الثرى. أٌكل الإسلام قد دنا قطافها، وحان أوانها فمن يفوز بالبواكير. إن الذين راهنوا على سرمدة غياب هذه الأمة قد ضلوا ضلالاً بعيداً، وافتروا إثما عظيماً، واختبأوا حقداً وغيظاً، وأعمت الضغائن بصائرهم وخانتهم ذاكرة الأيام، وجهلوا أو تجاهلوا معدن هذه الأمة ونفاسته وأصالته. إن أمة تنجب أبطالاً مثل أبطال الشيشان والمجاهدين في كشمير والفلبين ولبنان وفلسطين.. لحرية أن تنال الظفر من الثريا. إن فئة قليلة مؤمنة مجاهدة صابرة، قليلاً عددها، متواضعاً عتادها، يسيرا زادها، يفترشون أديم الأرض الجليدي، ويلتحفون البرد والزمهرير، ويواجهوا أعتى آلة حرب جهنمية في هذا الزمان، بقضهم وقضيضهم، بقلاعهم وصواريخهم، بنارهم وحديدهم، بغيظهم وغدرهم، بحقد يأكل قلوبهم، تتدافع بهم ضلالة الكفر، خرجوا أشراً وبطراً واستكباراً وعلواً وفساداً، لاقاهم الرجال.. وأي رجال.. رجال باعوا أنفساً تموت غداً بأنفس لا تموت أبداً، رجال قدوا من صخور القوقاز، رجال كتبوا للأجيال وثيقة عز المسلمين مسطرة بدمائهم، هؤلاء الرجال.. وأقول الرجال.. وأكرر الرجال ما جاد الوجود بمثلهم إلا خالداً وسعداً والمثنى وصلاح الدين… أستاذهم خالد يتمنى وأي أمنية، ما كان في الأرض ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح فيها العدو، وإنها أحب إلي من ليلة تهدى إلى بيتي فيها عروس أنا لها محب وأبشر فيها بغلام.
ومهما كانت عاقبة هذا الغزو البربري المجرم فالعاقبة لهم، وإذا كان هؤلاء الصناديد قد سطروا هذه الملاحم وتوجوا هذه البطولات في مشهد عزيز كريم لا يملك المرء إلا أن تفيض دموعه بهم فرحاً، وينشرح فؤاده بهم ابتهاجاً، وتمتلئ نفسه منهم إجلالاً وإكباراً وتقديراً. هؤلاء الأعزة الرافضون مساومة على كرامتهم وعقيدتهم وعزتهم ومنظومة مفاهيمهم، وهم يتحدون جنرالات الحقد والكراهية، فكيف لو كان خليفة المسلمين حاضراً يرسم للوجود مصيره. كيف لو تحول جند المسلمين تحت قيادته إلى مثل هؤلاء الأبطال، إذاً لتحقق وعد الله لنا ولفتحنا روما ولبلغ دين الله ما بلغ الليل والنهار وهذا ما سيكون على أيدي أحباب محمد في هذا الزمان.. فلا تيأسوا.. فإنما الجزع لذوات الخدور، واليأس للمكتئبين المحبطين، والانهيار للثكالى واليتامى، والاستسلام للغرباء عن هذه الأمة، ولكن تولد العزم وانبعاث الهمم وارتياد القمم واقتحام اللجج وركوب الصعب إنما هو للصناديد الأبطال…
أيها الجمع الواعي: إن الغاية جليلة، وإن الأمل كما ترون مشرق واعد وإن الفرج والنصر لا يأتيان إلا بعد الشدة والبلاء والعسر الشديد والزلزلة والاستيئاس. فاصبروا وصابروا، واحملوا الدعوة مع المخلصين وغُذُوا السير معهم، وخوضوا غمار الشدائد، ولا يلفتنكم عن غايتكم كيد الكائدين ولا مكر الماكرين ولا تثبيط المثبطين، وليكن الله ورسوله أحب إليكم مما سواهما، وراقبوا الله في السر والعلن ولا تخالفوا له أمراً ولا تجعلوا لله عليكم حجة وامضوا حيث تؤمرون..
أيها الإخوة الأفاضل: يجب أن نكون ربانيين، نريد أن نكون سمع الله وبصره ويده التي يبطش بها. نريد أن نكون الابدال في عصر الأنذال. نريد أن نرسم وأن نقرر. وننام رواداً ونصحوا سادة وقادة. نريد أن نحرر الأولى من العبثية والضياع وفقدان ذاتيتهم الإنسانية. نريد أن نرد هذا الإنسان إلى فطرته الصادقة وقد اجتالته شياطين الإنس والجان. نريد أن ننفث العزم في ثنايا الصدور وخلجات الأفئدة. نريد أن ننهض بالأمانة الغالية نهوض أبي بكر وعمر وخالد وصلاح الدين. نريد أن نرفع الرؤوس المطأطئة. نريد أن نبهج القلوب الحزينة ونعيد النصرة إلى الوجوه الشاحبة. نريد أن نكون من الذين ينظرون ويبصرون ويتبصرون. نريد أن ندرك بشارة قائدنا محمد صلى الله عليه وسلمفي هذا الزمان، ليدخل نور الله في كل بيت مدر ووبر. نريد أن تتأصل العزة في أصلاب الرجال يهبها السلف للخلف ويتوارثون المجد كما يتوارثون أصل الحياة..
نريد أن نعود كما كنا أمة الوسط والخيرية والشهادة في ظلال دولة الجاه والسلطان، فهل نطلب المستحيل يا أمة قهرت المستحيل.. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.
أيها الجمع المبارك: سابقوا لامتطاء صهوة سنام المجد أعزة على الذرى وأقيموا لأنفسكم وزناً في زمن أُخسرت فيه الموازين، واجعلوا لأمتكم قيمة وشأناً في زمن ضاعت فيه القيم. أنقذوا البشرية من علوجها وطهروها من أدرانها وادرأوا عنها أرجاسها..
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلملا يثبت لهم العدو فُواقَ ناقة عند اللقاء، فقال هرقل وهو على أنطاقية لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم.. أليسوا بشراً مثلكم؟قالوا بلى. قال فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا بل نحن منهم أضعافاً في كل وطن. قال فما بالكم تهزمون؟ فقال شيخ من حكمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن أجل أننا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض. فقال لئن كنت قد صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين، وهكذا كان.. هذه شهادة عدوكم لكم أيها الإخوة بالخيرية، فهلا اشتاقت أنفسكم لأن تكونوا سادة على عرش الوجود تمخرون عبابة وتتسنمون سمت السماك. أما آن لكم أن تخرجوا من بينكم من يخاطب السحاب بعد أن تدين له الرقاب.. أما آن لكم أن تكونوا قدر الله على أعدائه عباداً لنا أولي بأس شديد. أما آن لكم أن تتفيأ البشرية في ظلالكم إلى ربوات الأمن والسلم والعدل والإيمان..
أما آن لكم أن تنفضوا عن كواهلكم غبار ذل غبرت. أما آن لكم أن تجدوا ذاتكم وقد ضاعت بين الركام. أما آن لكم أن تستشعروا مسؤوليتكم في قيادة البشرية. أما آن لكم أن يسعد بكم ساكن الأرض يرضى عنكم رب السماء والأرض. أما آن لكم أن تخرجوا من بينكم أميراً للمؤمنين يحبكم وتحبونه ويرضى عنكم وترضون وتسيرون معه إلى رحاب الظفر والنصر تتلون على سمع الورى، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) أما آن لكم أن تحوزوا خيري الدنيا والآخرة. يا قوم هذه أيام المفاصلة، فلا ألفين أحداً منكم يعض أصابع الندم بعد فوات الأوان يقول يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً. لا ألفين أحداً منكم وقد فات قطار الخير يتحسر ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا..فلا ينفع الندم بعد فوات أوانه وقد كان ينفع من قبل.. (لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل).. فلمثل ذلك اليوم الأغر فليعمل العاملون.. وإلى رضوان الله وفردوسه الأعلى فليتنافس المتنافسون.. قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا الله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
2000-05-08