العدد 155 -

السنة الرابعة عشرة _ ذو الحجة1420هــ_ آذار 2000م

حج أبي بكر بالناس ودلالاته

فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مكة في رمضان لعشر بقين منه، سنة ثمان للهجرة، وأمَّـر عليها عتّـاب بن أسيد وكان عمره آنذاك عشرين سنة، ورزقه، كل يوم، درهماً لا غير، فخطب الناس فقال: أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً كل يوم فليست بي حاجة إلى أحد. رضي الله عنه وأرضاه.

          وبعد (حنين) وحصار الطائف، اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجـعْـرانة في ذي القعدة من السنة الثامنة، وبعد ذلك توجه إلى المدينة فقدمها بقبة ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة.

          وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين عتّـاب بن أسيد.

          وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى المدينة في رمضان وأقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية رمضان وشوالاً وذا القعدة ثم بعث أبا بكر رضي الله أميراً على الحج سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم.

=============================

          وسنتناول بعض الأحكام المرتبطة بحادثة الحج هذه، مبتعدين قدر الإمكان عن السرد التاريخي، إلا بقدر اللازم، ضارعين إلى الله سبحانه أن نكون من المقتدين برسوله الكريم، والسائرين على صراطه المستقيم، فنفوز كما فاز الأولون، وبشر المؤمنين.

          خرج أبو بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين قاصدين حج بيت الله الحرام، وأنزل الله سورة براءة، وأوحى الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ترسل هذه السورة لتقرأ على الحجيج يوم الحج الأكبر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علياً بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ليلحق بها أبا بكر.

          قال ابن إسحق: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنىً: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته. فخرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بالطريق فلما رآه أبو بكر بالطريق قال أأمير أم مأمور؟ فقال بل مأمور. ثم مضيا)، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

          وبعد إكمال الحج قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.

          إن المتدبر لأحداث حج أبي بكر بالناس، ولسورة براءة، التي أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، علياً رضي الله عنه، بقراءة ما شاء الله منها على الحجيج يوم الحج الأكبر، إن المتدبر لهذه الأحداث، يجد أموراً عظيمة تستحق الوقوف عندها للتفقه في أحكامها، والتزام دلالاتها، نذكر منها:

          أولاً: إن سورة براءة تتضمن أحكاماً عدة في شؤون الحياة: البراءة من المشركين والولاء لله ورسوله والمؤمنين، الهجرة والجهاد، جريمة التشريع من دون الله، أهل الذمة والجزية، الكنز والزكاة، عمارة المسجد الحرام والإيمان بالله، المنافقين وتآمرهم، منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام وعدم الالتفات للمنافع المادية مـن وراء حجهم، فالله يغني المؤمنين من فضله، وغير ذلك من الأحكام العملية في شؤون الحياة.

          هذه السورة العظيمة المتضمنة لهذه الأحكام، يوحي الله لرسوله، أن تُـقرأ على الحجيج يوم الحج الأكبر. إن الله سبحانه يريد أن تتلى هذه الأحكام العملية في شؤون الحياة، على الحجيج خلال أدائهم عبادتهم العظيمة هذه وقبل أن يقضوا مناسكهم، حتى يستقر في القلوب والعقول، في المشاعر والتفكير، أن أحكام الله آخذ بعضها برقاب بعض، لا فصل بين العبادات والمعاملات، ولا الحج ولا الجهاد، ولا علاقات الناس المحلية تنفصل عن العلاقات الدولية، بل كلها ينتظمها هذا الإسلام العظيم، الذي أنزله الله على رسوله الكريم، لينتظم شؤون الدنيا والآخرة، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء …).

          إن ما يجتهد فيه أعداء الإسلام، والمثقفون بثقافاتهم، الضالون المضلون، الذين ينشرون سمومهم، باسم العلمانية وفصل الدين عن الدولة ويفرقون بين العبادات والمعاملات، ويعملون لنشر ذلك بين المسلمين، إن هذه الأعمال جريمة كبرى في دين الله، والدعوة إليها دعوةُ كفر تورث صاحبها الخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

          إن ارتباط أحكام الله بعضها ببعض ظاهر بيِّـن في الإسلام، بيِّن في كتاب الله وسنة رسوله وسيرته العطرة صلوات الله وسلامه عليه، وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم.

          إن قراءة براءة على الحجيج تؤكذ هذا المعنى العظيم، عدم فصل العبادات عن شؤون الحياة، فالحاج يحج وهو يختزن في قلبه وعقله جهاده وولاءه ومعاملاته، مدركاً صلته بخالقه عند قيامه بأي حكم من أحكامها، منفذاً لها جميعها، طبقاً لأوامر الله ونواهيه، ما وسعه إلى ذلك من سبيل.

          ثانياً: إن أول سؤال سأله أبو بكر رضي الله عنه، إلى علي كرم الله وجهه، عندما لحق به في الطريق، هو: أأمير أم مأمور، وهذا كذلك له دلالة عظيمة في الإسلام.

          إن وحدة الإمارة من الأهمية بمكان، فلا يصح أن يكون للمسلمين أميران في شأن واحد، لا في الإمارة العامة ولا الإمارة الخاصة، فلا يكون للأمة الإسلامية خليفتان بل خليفة واحد «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، وكذلك لا يكون للكتلة الواحدة في تكتلها أميران، كما لا يكون في السفر أميران في شأن واحد «إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» ويؤيد ذلك عمل الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه في جميع الحوادث التي أمَّـر فيها، كان يؤمر واحداً ليس غير، ولم يؤمر أكثر من واحد في مكان واحد مطلقاً.

          إنَّ أول سؤال سأله أبو بكر رضي الله عنه هو عن الإمارة لأن هذا مهم في قيادة الجماعة، حتى تسير القافلة بانتظام وانضباط دون اختلاف أو شقاق.

          إنَّ وحدة الإمارة في الإسلام حكم شرعي، يضمن وحدة المسلمين: وحدتهم في أمتهم، ووحدتهم في دولتهم، ووحدتهم في كل شأن من شؤونهم.

          وكان هذا الأمر عند المسلمين مستقراً في أذهانهم، من مفاهيم الأعماق، دولتهم واحدة وخليفتهم واحد، إلى أن استطاع الكافر المستعمر بالتعاون مع عملائه ممن يحسبون على المسلمين، استطاعوا أن يقضوا على خلافة المسلمين أوائل هذا القرن، ومن بعدُ، تفرقوا في الأرض، دولاً ودويلات، فأصابهم الذل والهوان، بضياع خلافتهم ووحدتهم.

          ثالثاً: ورد في سورة براءة قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله مثلاً).

          أخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم ما أبالي ألاّ أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخرون بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله سبحانه:(لا يهدي القوم الظالمين).

          إن الله سبحانه جعل الإيمان والجهاد، فوق عمارة البيت الحرام، على أهمية البيت الحرام، فالأصل حمل الإسلام والدعوة إليه والجهاد في سبيل الله، وعمارة البيت فرع لهذا الأصل، فإذا انقلبت الأمور، فتُـرك الإسلام واهتُـم بزخرفة المساجد وتزيينها، فإن ذلك نذير شر، لا بشير خير، وخلطاً للأمور واضطراباً للقيم، ومخالفة لما بينه الله سبحانه في الآية الكريمة.

          لقد كان المسلمون الأوائل يفهمون الآية على وجهها الصحيح، ويضعون الأصل والفرع، كلاًّ في موضعه، فإن الصليبيين عندما خرًّبوا منبر المسجد الأقصى، قام نجًّـار في حلب فصنع منبراً للمسجد، واحتفظ به عنده في حلب، فوق عشرين سنة، إلى أن مكّـن الله صلاح الدين رحمه الله من تحرير بيت المقدس، فأرسل عندها إلى نجار حلب، وأحضر المنبر ووضعه في المسجد، بعد أن قضى على الصليبيين وحرَّره من براثنهم.

          هكذا كان يدرك المسلمون موضع الأصل وموضع الفرع، متى يجاهدون ومتى يعمّـرون، ثم خلف من بعدهم خلف، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً. لقد حرق اليهود منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى بعد أن احتلوه، فماذا صنع الحكام؟ بدل تسيير الجيوش لقتال يهود، وتحرير المسجد الأقصى ثم تعميره، إذا بهم يقلبون الأمور، فبدل الجهاد والتحرير، تراهم يتفاخرون بصنع المنبر هناك تحت حراب الاحتلال، ويتنافسون في جمع التبرعات لتعمير قبة الصخرة، والاحتلال يجثم فوق ما يصنعون، ويظنون أنهم يحسنون صنعاً وهم كاذبون، فالمسجد يئن من وطأة يهود، والصخرة ترسف في القيود، فحاجتهما للتحرير لا للتعمير لو كانوا يعقلون.

          إن البون شاسع بين عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، وبين الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

          رابعاً: لما أذَّن فيهم علي رضي الله عنه بأن لا يحج بعد العام مشرك، قالوا لتنقطعنّ عنا الأسواق فلتهلكن التجارة وليذهبن ما كنّـا نصيب فيها من مرافق، فقد كان الحجيج يأتون معهم بأموال وسلع يبيعون ويشترون في موسم الحج، فإذا انقطع هؤلاء المشركون عن الحج، فإنهم توقعوا خسارة أسواقهم وضعف تجارتهم.

          فأعلم الله المسلمين أن لا خير في المشركين وأموالهم، بل الخير في الإسلام العظيم، وأن التزام أمر الله واجتناب نواهيه مقدم على المصالح المادية. ولقد رضي المسلمون واطمأنوا لأمر الله، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يكترث المسلمون بالتجارة والأموال التي انقطعت عن أسواقهم بسبب منع المشركين من دخول البيت الحرام.

          لكننا اليوم نشهد العجب العجاب، فإن الحكام في بلاد المسلمين يستقبلون الكفار بحجة السياحة، استقبالاً طويلاً عريضاً، يهيئون لهم المجون في بلادنا، والحماية، ووسائل الترفيه المحرمّـة، ويسيرون في شوارع المسلمين بأشكالهم الفاضحة، ويعملون المنكرات، فإن ارتفع صوت تجاه ذلك، قالوا إن هؤلاء السياح يجلبون معهم المال الوفير وينفقون في بلادنا وينعشون الاقتصاد ويستثمرون الأموال.

          إن إنعاش الاقتصاد ونضج الأسواق يتم باستغلال ثروة المسلمين بسواعدهم استغلالاً صحيحاً، يتم بتوحيد بلادهم وإقامة دولتهم، يتم بتطبيق الإسلام ونشره بالدعوة والجهاد، هكذا يتم لا كما يفعلون ويصنعون.

          إن المسلم عزيز بدينه، قوي بربه، لا تهون لديه القيم، ولا تهبط عنده المفاهيم لتصبح المادة هي الطاغية على عقله وقلبه، فإنه عندها ينزل من الدرجات العلى إلى الدركات السفلى، ويكون، والعياذ بالله، كالأنعام بل أضل.

          لقد عالج الله سبحانه تخوف المسلمين على أسواقهم وتجارتهم نتيجة منع المشركين من الحج، عالجهم بقوله سبحانه: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) فأغناهم الله من فضله بالغنائم في الجهاد والفتح ونشر الإسلام.

          وبعدُ، فإن آيات هذه السورة، التي شاء الله أن تقرأ على الحجيج يوم الحج الأكبر، لهي آيات عظيمة في دلالاتها ـ وكل آيات الله عظيمة ـ ولكننا نكتفي بما بيناه، سائلين الله سبحانه نصره القريب، فيعز الإسلام وأهله، ويذل الكفر والشرك وأهله، إن الله سبحانه سميع مجيب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *