العدد 222 -

السنة التاسعة عشرة رجب 1426هـ – آب 2005م

أوهام بريجنسكي (3)

أوهام بريجنسكي (3)

غِـنْـيُـو بريجنسكي، يعتبر من مفكري السياسة الأميركيين، كان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي كارتر، وقد كان، ومازال، من الذين تتلقف أيدي مفكري السياسة والسياسيين كتبهم. وقد أصدر بريجنسكي بعد حرب العراق الأخيرة كتاباً بعنوان «الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم» وعنوانه يكشف موضوعه، ويقدم فيه العديد من النصائح للإدارة الأميركية. وقد حوى الكتاب مغالطات وأوهاماً تتعلق بنظرته المعادية للإسلام والمسلمين، وتعتبر انعكاساً للغطرسة الأميركية التي لا ترى إلا نفسها.
وقد فند الكاتب أبو الزبير الأسدي بعض مغالطات بريجنسكي هذا وسماها أوهاماً متعددة وتبريرات ساذجة ركيكة، وقد رأت «الـوعــي» أن تنشر بعضها على حلقات.
وهم أسباب الركود الاجتماعي في العالم الإسلامي

يقول بريجنسكي: «نظرا لهشاشة المؤسسات السياسية العلمانية، وضعف المجتمع المدني، واختناق الإبداع الفكري، يواجه معظم العالم الإسلامي ركوداً اجتماعياً واسعاً».
– إن أسباب الركود الاجتماعي في العالم الإسلامي تعود إلى الأنظمة العميلة الطاغوتية الجاثمة على صدر الأمة الإسلامية، والتي تستمد قوتها ومددها ودعمها من بلاد الغرب وخاصة أميركا. إن المؤسسات السياسية العلمانية لن تكون إلا هشة في وسط مجتمعات تتوق لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، ولولا الدعم الغربي المتفاني في الإبقاء على هذه الأنظمة لتهاوت.
ومن خداع الغرب أن يدعي أن ما يسمى بالمجتمع المدني ضرورة، فهو من أقام هذه الأنظمة وعندما رأى أن زمن التضليل ولّـى، وأن الشعوب أصبحت تعي فساد وعمالة هذه الأنظمة، يريد أن يرقعها بمفاهيم لا تمت لقيم الأمة بصلة من مثل المجتمع المدني.
إن الإبداع الفكري خُنق من قبل هذه الأنظمة العميلة لما قد يمثله من تهديد لوجودها، إذ إن عوارها لا يُوارى، وقد كبر الخرق على الراقع. وحيث إن هذه الأنظمة موجودة بدعم من الدول الغربية، فلا يحق لبريجنسكي حتى أن يتكلم في هذا الموضوع، ناهيك أن ينصب نفسه مشخصاً لأسباب المشكلة، ومن ثم واصفاً لعلاجها.

وهم الخلط بين الحضارة والمدنيةl
يقول بريجنسكي: «حتى عندما يكون جيل الشباب المسلم مدفوعاً بالاستياء المرير من الأعداء الخارجيين، أو بالغضب من نفاق الحكام، فإنه لا يكون حصينا من إغراءات التلفاز والأفلام. فالانسحاب من العالم الحديث يمكن أن يجذب فقط الأقليات المتعصبة، لكنه ليس خياراً بعيد المدى للكثيرين الذين لا يرغبون في خسارة فوائد الحداثة».
– يبرز لدى بريجنسكي أكثر الخلط بين المسائل المتعلقة بوجهة النظر عن الحياة والتي نسميها الحضارة، وتلك غير المتعلقة ونسميها المدنية.
فمثلاً طرق التنقيب عن الثروة واستخراجها من باطن الأرض، وتصنيع الصواريخ، وصقل المعادن، وبناء الجسور، واستكشاف الفضاء، وصنع رقائق الكمبيوتر، لا علاقة لها بوجهة النظر عن الحياة، فيقوم بها النصراني والهندوسي والمسلم واليهودي والبوذي والملحد والرأسمالي والاشتراكي وغيرهم بنفس الكيفية، فهي من المدنية ويجوز للمسلمين أن يأخذوها من أي مصدر كان؛ لأنها من العلم الذي لا تختص به أمة دون أخرى. أما طرق توزيع الثروة، واستخدام الصواريخ المصنعة والمعادن المصقولة، والهدف من بناء الجسور واستكشاف الفضاء وصنع رقائق الكمبيوتر، فهي متعلقة بوجهة النظر عن الحياة، فيتخذ الرأسمالي حيالها إجراء متفقاً مع أيديولوجيته أي وجهة نظره عن الحياة، في حين يتخذ المسلم حيالها إجراء متفقاً مع أيديولوجيته، وقد يتفق الإجراءان وقد يختلفان.
هنا يبرز أحد أكبر أوهام بريجنسكي عندما يخلط بين هاتين المسألتين، فيقول إن الشباب المسلم ليسوا محصنين أمام إغراءات التلفاز والأفلام، ويعتبرها من فوائد الحداثة التي لا يرغب بفقدانها الكثيرون. وواقع الأمر أن الحداثة من المدنية؛ ولذلك طبعا لا يريد الشباب المسلم أن يخسروا فوائدها، فهي من نعم الله تعالى علينا.
صحيح أن بعض مظاهر المدنية قد تعكس وجهة النظر في الحياة، كما هي الحال مع الأفلام الإباحية التي تعكس وجهة النظر الرأسمالية العلمانية الديمقراطية عن الأسرة وانفراط عقدها، وعن المرأة وكيف أنها سلعة للبيع والشراء، ولكن ما علاقة فيلم عن سباق أحصنة، أو فيلم عن مكافحة سمكة قرش عملاقة أو تمساح أسطوري، بوجهة نظر أي أيديولوجية في الحياة؟ ويدرك المسلمون عامة وأعضاء حزب التحرير خاصة الفرق بين المسألتين. فالإسلام يحث على الاستفادة من فوائد الحداثة، بغض النظر عن مصدرها، ما دامت لا تعكس وجهة نظر أيديولوجية كافرة في الحياة. فلا يُقال عن ما قاله بريجنسكي هنا إلا “أضغاث أوهام”.

وهم أنl الإسلام ضد الحداثة
يقول بريجنسكي: «هل يوجد عدم توافق جوهري بين الإسلام والحداثة؟ مع تعريف الأخيرة، على نطاق واسع، بأنها التجربة المعاصرة والسريعة الانتشار عالمياً، لأميركا وأوروبا والشرق الأقصى ذات التوجهات العلمانية المتزايدة».
– إن تعريف الحداثة الذي ذكره بريجنسكي يستحق وقفة سريعة عليه. من الظاهر خلط بريجنسكي بين المسائل التي لا تتعلق بوجهة النظر في الحياة وتلك التي تتعلق بها، فكلمة حداثة مرتبطة بما هو حديث، والجديد قد يكون حديثاً وقد لا يكون، فلو جددنا بيتا قديما فأعدناه إلى حالته الجديدة فإنه لا يكون قد أصبح حديثاً ولكنه عاد ليكون جديداً، في حين أننا لو بنينا بيتاً جديداً وزودناه بآخر وسائل وأدوات الراحة فإنه يكون جديداً وحديثاً؛ لذلك فإن الحداثة مرتبطة بشكل عضوي بالوسائل والأدوات التقنية في عصر ما، أي بمسائل غير متعلقة بوجهة النظر في الحياة، وعطف بريجنسكي لها على التوجهات العلمانية فيه وهم كبير. ولكل عصر حداثته؛ لذلك ربط الحداثة بالتجربة المعاصرة مجانب للصواب.
صحيح أن الغرب ما كان ليتقدم دون التخلص من سلطة الكنيسة، ولكن المسلمين لن يتقدموا أبدا دون الحكم الإسلامي. ففي حالة الغرب لا بديل عندهم سوى القمع الكنسي أو القمع الشيوعي أو العلمانية الديمقراطية، أما في حالة المسلمين فإما القمع الشيوعي أو القمع العلماني أو الحكم الإسلامي، ولا تمثل الديمقراطية خياراً عند المسلمين. وقد كان الحكم الإسلامي فعلياً وتاريخياً هو الدافع إلى تفرد المسلمين لقرون بالحداثة.

أما إضافة بريجنسكي لكلمة (على نطاق واسع) ففيها صواب، حيث إن الرأي العام في عموميته لا يدرك الفرق بين هذه المسائل، وهذا دليل على عدم جواز اعتبار الرأي العام في المسائل الفكرية. إلا أن بريجنسكي في نفس الوقت لا ينظر إلى الجميع على أنهم من ذوي الرأي، فهو نخبوي بطبيعته وكما يدل عليه كتابه. على هذا الأساس فإن هذه الكلمة ليست إلا محاولة من بريجنسكي لإضفاء مصداقية على هذا التعريف للحداثة، وعلى علاقتها بالعلمانية.
وهم فهم المسلمين للديمقراطيةl
يقول بريجنسكي: «فالديمقراطية العلمانية الغربية مفهوم مثير للمشاكل بالنسبة للإسلاميين؛ لأنه يقتضي في نظر الكثيرين منهم وجود مجتمع إلحادي بالضرورة. وهم يفسرون الاتجاهات العلمانية في الغرب على أنها تعبر عن أفول التفوق الديني».
– إن المسألة أبسط بكثير مما يظنه بريجنسكي: وجهة نظر المسلمين في هذه الحياة معتمدة على الوحي الذي أنـزله الله تعالى في القرآن والسنة، فما أرشدا إليه أخذه المسلمون، وما لم يرشدا إليه نبذوه. الديمقراطية العلمانية الغربية تدخل في التصنيف الثاني، لذلك هي واجبة النبذ حسب أحكام الإسلام.

أما أن الإسلاميين يعتبرون أن العلمانية تقتضي وجود مجتمع إلحادي فهذا وهم آخر من أوهام بريجنسكي، فهذه ليست المشكلة الحقيقية. المشكلة هي عدم وجود مجتمع إسلامي مهما كان ظاهره مخادعا: إلحادي، كنسي، بوذي، رأسمالي، اشتراكي، أو مجرد غير إسلامي. وواقع الأمر أن الكثير من استفتاءات الرأي تقول بما لا يدع مجالا للشك إن عامة المسلمين يريدون لمجتمعهم أن يكون إسلامياً، فقصر هذه الرغبة على الإسلاميين وهم آخر من أوهام بريجنسكي.
أما أن الاتجاهات العلمانية تعبر عن أفول التفوق الديني فهذه كلمة لا مفهوم لها لأنها تعمم الخاص، إذ إن مفهوم العلمانية خاص بالقمع الكنسي ولا علاقة للإسلام به، فاستخدام كلمة (الديني) يقصد من ورائها احتواء الإسلام أيضا، وهذا وهمٌ غليظ. ناهيك أن العلمانية هي حل وسط ما بين من أرادوا القمع الكنسي وأولئك الذين أرادوا الإلحاد المطلق في أوروبا، فجاءت العلمانية لتقر بوجود إله، إلا أنه لا يحق له التدخل بالشؤون العامة. ودون خوض في نقض كامل لهذا المفهوم، إلا أن الإنسان لا يملك إلا أن يتساءل: كيف يسـتقيم لعاقل أن يسـيّر حياته بنـاء على حـل وســط؟! أليســت هـذه ســفاهة بحـد ذاتها؟!

l وهم أن الأيديولوجيا الإسلامية غير شاملة
يقول بريجنسكي: «من المرجح أن يأتي التحدي السياسي الأكثر ديمومة، وبخاصة في البلدان الإسلامية ذات الأغلبية السنية، من محركات شعبية تنادي بالإسلامية كأيديولوجيا سياسية شاملة، لكنها تدعو إلى حكومة دينية من هذا النوع»، ويقول: «الإسلامية، خلافاً للماركسية، ليست أيديولوجيا شاملة تقدم الإرشاد والتوجيه في كافة نواحي الوجود الاجتماعي. وقد تقدمت الإشارة إلى خلوها من التوجه الاقتصادي»، ويقول: «تستخدم لفظة الإسلامية هنا للإشارة إلى الأيديولوجيا المستوحاة من الإسلام، وبالتالي ينبغي تمييزها عن التعاليم الإسلامية. والإسلاميون هم المؤيدون لسياسة تستند إلى الإسلام، بخلاف الأصوليين الإسلاميين الذين يحبذون حكماً دينياً مباشراً. وينبغي الإشارة إلى التقييم المختلف الذي يفيد بأن الإسلامية، وبخاصة الراديكالية منها، تتراجع بالفعل كما يرى الباحث الفرنسي جيل كيبل».

– نبدأ من الاقتباس الأخير إذ سبقت الإشارة إلى تفريق بريجنسكي بين الإسلامية والأصولية الإسلامية. ولا بد من وقفة متأنية مع سبب تفكير بريجنسكي بهذه الطريقة. إنه رجل ينتمي إلى دين وأيديولوجية تقران بوجود رجال الدين في الحياة، ولذلك إذا كان رجال الدين في سدة الحكم فهذا حكم أصولي، ولو كانوا من المسلمين فهذا حكم أصولي إسلامي. يظهر بدون أدنى شك أن الحبكة بأكملها وهمية بالنسبة للإسلام؛ لأن الإسلام لا يقر ولا يقبل بوجود رجال دين فيه، ولا يقبل ولا يقر بدولة إلهية يدعي فيها الحاكم أنه ممثل الله المعصوم في الأرض، كما هي الحال في الحالة الكنسية. إلا أن الإسلام يقر بوجود علماء فيه، ولا يشترط في الحاكم أن يكون عالماً. كما أن الإسلام يفرض على الدولة أن تكون إسلامية، أي تستند على عقيدة الإسلام وتحكم بأحكام الإسلام، ولكنها دولة بشرية يحكمها أناس تحتمل تصرفاتهم الخطأ والصواب، ولا يدّعون بحال من الأحوال أنهم ممثلو الله المعصومون في الأرض. من هذا الباب، فإن فكرة التفريق بين الإسلامية والأصولية الإسلامية وهمية.
نعود إلى الإسلامية وكونها سياسة أيديولوجية شاملة، فهذا صواب مطلق. إلا أن النقاش لا يجوز أن يتمحور حوله؛ لأنه نتيجة لحقيقة قرآنية وسنة نبوية من كمال الإسلام وشموله على كافة جوانب الحياة، فإذا كنا سنخوض في صواب الفكرة أو خطئها فلا بد لنا أن نخوض في صحة الإسلام أو خطئه. وحيث إن هذه المسألة محسومة عند المسلمين، فإن وجود أيديولوجية إسلامية سياسية شاملة من البديهيات.
أما القول إن الإسلام ليس أيديولوجيا شاملة تحوي كافة المسائل الاجتماعية والاقتصادية، فهو قول غارق في الوهم، ولا يستحق الرد المطول. كيف لا والتاريخ يرينا أن أحكام الإسلام كانت مطبقة في الدولة الإسلامية -التي عكف بريجنسكي على تجنب ذكرها، إذ يبدو أن أصوله البولندية جعلت الرهبة من الفاتحين المسلمين مزروعة في داخله- لقرون، قبل أن تكون هناك علامات دولة متحضرة في أوروبا، وقبل أن تكون هناك علامات لأية دولة في أميركا.
ولعل بريجنسكي وأمثاله ممن يدعي النـزاهة الأكاديمية يقرأ كتب (النظام الاقتصادي في الإسلام) لتقي الدين النبهاني و(السياسة الاقتصادية المثلى) لعبد الرحمن المالكي و(الأموال في دولة الخلافة) لعبد القديم زلوم و(النظام الاجتماعي في الإسلام) لتقي الدين النبهاني و(أحكام البينات) لأحمد الداعور و(نظام الحكم في الإسلام) لتقي الدين النبهاني وعبد القديم زلوم ومن ثم يحدد أي مواضع الاقتصاد والاجتماع أغفلها الإسلام.
إلا أن قول بريجنسكي عن التحدي السياسي الأكثر ديمومة قول صائب، ومن السنن الكونية أن يفضي هذا التحدي إلى قيام دولة إسلامية في النهاية، إن شاء الله.
أما قول الباحث الفرنسي بتراجع الإسلامية وخاصة الراديكالية منها، وإيحاء بريجنسكي بتأييده لهذا، فهذا يدل على حالة من التمني لتراجع الإسلامية، جعلت باحثين ومفكرين سياسيين يضعون معايير غير نزيهة ليقيسوا بناء عليها؛ فيخرجوا بالنتائج التي تروق لهم، وهذه ضحالة في التفكير، وسذاجة مثيرة للشفقة.
[انتهـى]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *