العدد 301 -

العدد 301 – السنة السادسة والعشرون، صفر 1433هـ، الموافق كانون الثاني 2012م

ثورات العرب بين نزعة الخلاص والبدائل الهجينة

ثورات العرب بين نزعة الخلاص والبدائل الهجينة

حسن الحسن

Hasan.alhasan@gmail.com

لم تعد جماهير الأمة في غالبيتها الساحقة تقوى على احتمال الظلم والاستبداد والقهر والذلة والمهانة، ولذلك انفجرت بوجه الطواغيت، تهتف بإسقاط أنظمة حكمهم البشعة. ويكاد ينحصر جل هم الناس في ظل أوقات الثورة العصيبة في إيقاف مسلسل القتل المستشري فيهم صباح مساء، حيث يواجه الثائرون آلة البطش الرهيبة بصدورهم العارية. ولا يرون إمكانية وقف ذلك النزيف إلا في سرعة إنجاز إسقاط النظام. وهو ما اتفقت على تحقيقه جميع أطياف الثائرين دون الخوض في طبيعة النظام البديل، مكتفين بإعلان أهداف عامة، يشترك فيها جميعهم.

إن الثائرين سرعان ما يدركون بأنه لا سبيل إلى حسم إسقاط الأنظمة القمعية بمجرد المظاهرات السلمية؛ ولذلك يتوجهون للاستعانة بقوى تستند إليها الأنظمة كقادة العسكر، الذين لهم تطلعاتهم الخاصة بعيداً عن الثوار، كما جرى في مصر، أو كالاستعانة بالدول الكبرى لإسقاط المستبد الداخلي كما جرى في ليبيا، وبالتالي تحويل مجرى الثورة من تغيير النظام بشكل جذري كامل وشامل إلى إجراء تغييرات شكلية عبر تعديلات جزئية.

وهكذا يسير الثائرون خطوة خطوة في طريق التنازلات، ابتداء بكتم معتقداتهم وتصوراتهم وصولاً إلى حلول توافقية مرتجلة تنتج خليطاً من المشاريع والأفكار المضطرة. فتحت ضغط الواقع الذي لم يكن الثائرون جاهزين للتعامل مع تحدياته أو تداعياته، يلجأ أغلبهم بطبيعة الحال إلى المساومة على هويتهم الأيديولوجية و مستقبلهم السياسي. ما يعني بالمحصلة القبول بنظام سياسي هجين لا يرضي أحداً، وبالتالي يسبب الشقاء والتعاسة والمشاكل أكثر مما يشكل حلاً. وفي حال تدويل القضية فإن التبعية للقوى الدولية تنتقل من حالة التبعية بالإكراه عبر نظام عميل إلى التبعية بالرضى عبر مجالس منتخبة.

في ظل هذه الأوضاع القاهرة، تصبح أي دعوة تنادي بوجوب إقامة الخلافة لإنجاز الوحدة بين البلاد الثائرة وتطبيق الشريعة فيها وتحرير فلسطين، تصبح دعوة منفرة عند المتسلطين على هذه الثورات، بحجة أن تلك الدعوة ستبث الخلاف بين تيارات الثورة المتباينة، وبالتالي سيتمكن الحكام من فرض سيطرتهم على الأوضاع، كما أن ظهور مثل تلك الدعوة ستكون مدعاة لترك الغرب شعوبنا فريسة للأنظمة المتوحشة كي تسحقها تحت جنازير الدبابات، فهذه التطلعات (الخلافة، الوحدة، تحرير فلسطين) هي عين ما يحذر منه الغرب ويعاديه. فيما يدأب خصوم المشروع الإسلامي بالترويج لأفكارهم بكل ما أوتوا من قوة.

 ويعتبر الموجهون لهذه الثورات والمتسلطون عليها، من المحسوبين على التيار الإسلامي، بأن غض النظر عن هذه القضايا المصيرية هو تكتيك لازم لتجاوز الظرف الخانق، وأنه بمجرد سقوط الأنظمة فسيكون لكل حادث حديث. وبالفعل تنطلي هذه الحجج أكثر الأحيان على عامة الناس، إلا أن واقع الحال يسقطها تماماً، فالغرب ليس ساذجاً، وهو عندما يدعم ويؤيد ويمول أي مشروع يضع ضمانات كي تؤول ثماره إليه، فهو لا يتحرك بداعي الشفقة أو بشكل ارتجالي أو كرد فعل، ولا ينتقل من مرحلة لأخرى إلا بعد وضع ترتيبات تضمن له صيرورة الأمور لصالحه.

في سياق الثورات الحالية تحديداً فإن الغرب يصر على تسويق ثقافته وفكره كي يضمن لمخططاته ومشاريعه النجاح برضى الجماهير وقناعتها، مع محاربة كل فكر يتصدى لتلك المخططات والمشاريع، إذ لم يعد للأنظمة المتسلطة على رقاب الأمة حظ كبير للتحكم فيها بعد استفاقة الشعوب ومطالبتها بحقوقها. لهذا تتكاثر الحملات الإعلامية وتتدافع بشكل مكثف لتسويق فكر الغرب وثقافته في إطار شعارات توضع على ألسنة الناس وفي أدمغتهم، مظهرة لهم أنها طريق الخلاص. وأبرز ما تسلط وسائل الإعلام الضوء عليه دعوة الثائرين للسير في طريق الحرية والديموقراطية والتعددية السياسية والدولة المدنية والاندماج في المجتمع الدولي واحترام حقوق الإنسان، وكلها مصطلحات غربية وتخدم أجندة الغرب وتتصادم مع الإسلام في كثير من أصولها وفصولها.

ولتلبيس هذه المعاني على الناس يتم خلطها بشكل مغلوط بغيرها من المعاني المحببة إليهم، فالديمقراطية هي الشورى بزعمهم، والحرية نقيض الاستبداد، والتعددية السياسية هي القبول بالآخر، والدولة المدنية ضد الدولة العسكرية، والانخراط في المجتمع الدولي هو نقيض العزلة، واحترام حقوق الإنسان هو التسامح وإعطاء كل ذي حق حقه.

فيما حقيقة الأمر أن الديمقراطية المطروحة هي سيادة الشعب مقابل سيادة الشرع، والحرية المفترضة هي إطلاق الإنسان لعنان رغباته ليحقق ما يتوهمه من سعادة من غير وصاية لأحد عليه، رباً كان أو سواه، والتعددية المطلوبة هي فرض دعوات على المسلمين متناقضة مع معتقداتهم كالتيارات العلمانية والليبرالية والاشتراكية والقومية والوطنية، واحترام حقوق الإنسان تشمل احترام وحماية كل معتقد وسلوك مهما كان شائناً ومنحرفاً وشاذاً، كعبادة الشياطين والشذوذ الجنسي بأنواعه، وأما الدولة المدنية التي ينشدون فإنها تلك التي تتحلل من أي ارتباط بشرع أو دين، وأما الانخراط في المجتمع الدولي فيعني الدخول في مواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الرأسمالية التي تلغي خصوصية البديل الإسلامي والقبول بـ(إسرائيل) وتجعل الأمة أمماً وبلادهم أقطاراً ممزقة تدور في فلك الغرب ومصالحه.

للأسف لا يدرك أكثر الناس واقع هذه المصطلحات وتداعيات دلالاتها على هوية الأمة وواقعها ومستقبلها. ومن يدري يلوذ بالصمت كي لا يصطدم مع الأوساط الإعلامية وديناصورات الفكر والثقافة الذين تقدمهم وسائل الإعلام كأوصياء على الأمة. ومنهم من يتأول الخطاب ليمرر العاصفة من فوق رأسه فيبدأ بفذلكة الشعارات المطروحة نزولاً عند أحد المعاني التي تخطر بالبال، غافلاً أو متغافلاً عن السياق الذي تطرح فيه، والتي تعني عملياً الاستسلام لحضارة الغرب وثقافته والإذعان له ولمشاريعه.  وأما من يتجرأ على فضح المشروع الغربي الذي يراد تسويقه للأمة من خلال هذه الشعارات والمصطلحات فسرعان ما تقع محاولات تشويه مساعيه ووصفه بالتطرف والجمود والإرهاب، كما يتم تجاهله والتعتيم الإعلامي عليه وكأنه غير موجود.

من الجدير ذكره أيضاً في هذا السياق، بأن حصر البدائل دائما بين احتمالين لا ثالث لهما، وفرض القبول بأقلهما سوءاً، هو من المفاهيم الخطرة والمغلوطة، وهو أسلوب تستدرج من خلاله شعوبنا لفرض الوصاية عليها. لذلك لا يصح الخضوع لما يقال من قبل من يتصدر الثورات في وسائل الإعلام: ماذا نفعل وقد أطبقت الدنيا علينا، وصرنا بين فكي كماشة، وبات التراجع متعسراً والتقدم أشد عسراً، وليكن ثمن الخلاص أيا كان، المهم أن نتخلص مما نحن فيه، ولو على يد الشيطان نفسه.

صحيح أن البعض يستخدم لفظة الشيطان من باب المبالغة، إلا أنها تكون مقصودة في كثير من الحالات وبأبشع دلالاتها، سيما لتبرير الاستعانة بالدول الاستعمارية الكبرى، ومن المعلوم أن هذه الدول تعتنق الرأسمالية الجشعة وتمارس سياسات الشيطان نفسه لا سواه بحقوق الشعوب المستضعفة، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى. لذا وجب التنبه إلى سياسات الاستدراج  التي تصطنع أحداثاً لإنتاج ردات فعل معينة تقود إلى توريط الناس وبالتالي وضعهم بين خيارات ضيقة لفرض حلول بعينها عليهم.

إن تجنب الوقوع في مثل هذه المآزق التي تستدعي الكثير من التنازلات، لا يكون إلا من خلال إعداد العدة اللازمة من قبل من يطلب التغيير، وذلك بأن يحدد أهدافه وطريقته المؤدية إلى تحقيقها، وإلا فإنه يضع نفسه وأتباعه في العراء، وفريسة سهلة لكل من يريد أن يصطاد. ويعتبر في أحسن الأحوال عابثاً أو مقامراً يقود أمته إلى المجهول، ويقدم بلاده على طبق من فضة للخصوم والأعداء، سيما أن هؤلاء  كثر، وتعج بهم الساحة المحلية والدولية، تلك القوى الماكرة اللئيمة التي تتربص بالأمة وتريد أن تستثمر أي حدث ينزل بها لمآربها الخاصة.

أخيراً فإنه ليس صحيحاً بأن أي بديل هو بالضرورة خير من الواقع المرير، فلعل البديل القادم أشد مرارة. وكم من الأمثلة الحية شاهدة على ذلك، أبرزها ما وقع في فلسطين، التي انتقل جزء صغير منها من الاحتلال المباشر إلى «منظمة التحرير» تحت عنوان «السلطة الوطنية الفلسطينية»، تلك التي تقوم بحماية مصالح المحتل وضمان أمنه نيابة عنه، وسرعان ما أدرك الناس بأن هذه السلطة أكثر بشاعة من الاحتلال المباشر نفسه، فوق ما نتج عنها من تنازل عن أغلب فلسطين. وكذلك ما آل العراق إليه من فاجعة، فقد خرج من نكسة صدام حسين ليقع في نكبة الاحتلال ومأساة كل من حكمه بعده على نحو مقزز أدى إلى تفتيت الدولة وإلغاء دورها بعد تهميشها وتقسيمها بين الشركاء الطائفيين وكأنها مجرد عقار يتنازعه سكانه بحسب أعداد كل عرق وطائفة فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *