أثر فساد الاقتصاد الغربي في البشرية (1)
2000/01/06م
المقالات
1,916 زيارة
لقد قامت السماوات والأرض بالحق والعدل، وانتظمت ضمن منظومة إلهية فريدة، أحسن الخالق المبدع تنظيمها تماما كما أحسن خلقها من قبل، قال تعالى: (خَلَقَ اللهُ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ، إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)العنكبوت44. وقال: (الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأ خَلْقَ الإنْسانِ مِن طِينٍ)السجدة7. وقال : (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلالٍ مُّبِينٍ)لقمان11.
والإنسان في هذا الكون هو خلق مميز من مخلوقاته تعالى، حباه الله بالكرامة والرفعة والسمو، والشرف الرفيع، فأحسن خلقه وخلقته، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ)التين4. ووهبه نعمة العقل والتفكير، قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصَارَ والأفْئِدَةَ قَليلاً مَّا تَشْكُرُون)السجدة9، وقال: (إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَاب)الزمر9 .أما في جانب حياته وعلاقاته ومصيره، فإنه أيضا رفعه وكرمه، فجعل له نظاما راقيا ساميا، يتناسب مع رقي الخلقة والتكريم، راقيا ينظم شؤون حياته على أحسن وجه وبأفضل طريقة، شاملا كاملا لم يترك أمراً صغيرا كان أم كبيرا إلا وجعل له حكماً. وسامياً يسمو به فوق الطين والتراب، ويصله بخالقه صلة روحية سامية، ويجعله في المستقر الرفيع السامي في درجات عُلا في جنات الخلد التي وعد الحق تبارك وتعالى عباده المتقين.
لقد أنزل الحق تبارك وتعالى لهذا الإنسان العاجز الضعيف المحتاج نظاماً فريداً ينظم علاقته بنفسه، وعلاقته بغيره، وعلاقته بخالقه تعالى الذي أنعم عليه بهذه النعم الجزيلة. وأخبر هذا الإنسان أنه إن استقام على هذا النظام استقامت حياته كلها، في جميع شؤونها، في السياسة، والاجتماع، والحكم والاقتصاد… وغيرها. قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَع هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)طه123، وقال: (وألَّوِ استَقَامُوا عَلَى الطَرِيقةِ لأسْقَيْناهُم مَّاءً غَدَقَا)الجن16، وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِن ربِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) المائدة66.
لقد طبق هذا النظام الإلهي السامي في المعمورة عبر سنوات طويلة، من عهد المصطفى عليه السلام بعد قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، وحتى آخر عهد هذه الدولة بنهاية حكم بني عثمان سنة ألف وتسع مئة وأربع وعشرين، وقد طبق النظام الاقتصادي في هذه الدولة، ولم يعرف المسلمون غير نظام الإسلام ولا أحكاماً غير أحكامه، وكان المسلمون خلال هذه الحقبة من الزمن في ظل نظام اقتصادي إسلامي ـ بغض النظر عن بعض الإساءات أو التقصيرات ـ ينعمون بالخير والرفاه، وبحبوحة العيش.
لقد جلب هذا النظام العدل والأمن والخير على المجتمع بأكمله، وليس أدل على ذلك من الآثار الماثلة للعيان حتى يومنا هذا، مثل مبرات الأيتام، أو دور رعاية ابن السبيل، أو محطات الاستراحة على الطرق الرئيسية، أو أماكن إطعام الفقراء، والموجودة في المدن الرئيسية مثل بغداد ودمشق واسلامبول، والخليل والقدس وغيرها، هذا عدا عن آلاف المجلدات من أمهات الكتب الفقهية التي تحدثت عن طبيعة حياة الناس وعن أحكام النظام الذي يحتكمون إليه.
إن حديثنا في هذا المقال ليس عن محاسن النظام الاقتصادي الإسلامي وطريقة معالجته بداية، وإنما عن أنظمة وضَعَهَا البشر من عقولهم، ثم بعد ذلك نتحدث عن طريقة الإسلام في المعالجة بعد أن نرى الظلم والاعوجاج والانحراف. ليكون هذا مدعاة للمسلمين عامة، ولحملة الدعوة خاصة كي يسارعوا لإعادة هذا النظام الصحيح في موضعه الذي أراده الله تعالى، في الحكم والسلطان، ولينبذوا هذه الأنظمة العفنة المهترئة من داخلها وخارجها.
وإنَّ لنا في هذا المقام والطريقة، أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عندما كان يرسم الخط الصحيح بجانب الخطوط العوجاء، حتى تنظر العقول وتستبين الحق.
فقد أخذ عليه السلام بيده الشريفة عود أراك، وخط في الرمل خطوطا عوجاء وبجانبها خطا مستقيما وقال: «هذا صراط الله المستقيم، وهذه سبلٌ على رأس كل سبيل شيطان يدعو إليها»، ثم تلا قوله تعالى: (وَأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوه، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلهِ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)الأنعام153.
إن الفساد الموجود في الاقتصاد الغربي، وفي الحياة الاقتصادية عندهم مرده إلى الأساس الذي بني عليه هذا النظام، وأيضاً في الفروع التي بنيت على هذا الأساس السقيم.
فالأساس الذي بني عليه الاقتصاد الغربي أساس سقيم، نظر إلى المادة الاقتصادية وإلى طريقة تقييمها، وإلى طريقة معالجة توزيعها في المجتمع على الناس نظرة خاطئة. وهذا الخطأ مرده إلى:
أولاً: الخلط الذي حصل في إنتاج المادة الاقتصادية وطريقة توزيعها. حيث اعتبروا أن معالجة المشكلة الاقتصادية، والمشكلة الاقتصادية نفسها قبل طريقة معالجتها، يرجع إلى اعتبارات مادية من حيث الزيادة والنقص وليس إلى ناحية تتعلق بالنظام الذي يوزع هذه المادة في المجتمع. فالمشكلة الاقتصادية عند الغرب هي مشكلة الندرة النسبية، أي عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع الحاجات المتجددة والمتعددة في كل يوم. فأخذوا يزيدون الإنتاج، وبالمقارنة، المشكلة تزداد ولا تنقص، الفقير يزداد فقراً والغني يزداد غنى. فبدل معالجة المشكلة زادوها تعقيداً.
ثانياً: نظرة الغربيين للمادة الاقتصادية. أي ما هو تعريف المادة الاقتصادية وما هو الشيء الذي له قيمة عندهم. وهنا أيضا وقعوا في الانحراف الذي قادهم في نهاية المطاف إلى ترقيعات بعيدة عن الأسس التي وضعوها. فكل مرغوب فيه يعتبر في نظرهم نافعا وهو مادة اقتصادية تشبع حاجة بغض النظر عن تأثير ذلك على المجتمع، فالخمور والحشيش وبعض الأعمال كالاتجار بالأعراض كلها مواد أو تحقق مادة اقتصادية، لأنها مرغوب فيها وتشبع في نظرهم حاجة.
وقد أحدثت هذه النظرة الخاطئة آثارا مدمرة على حياة الغربيين مما دعاهم للوقوف والتأمل والتفكير، ومن ثم الترقيع، وإيجاد القوانين الخارجة عن الأسس، مثل معاقبة الاتجار بالمخدرات أو منع بعض الطرق في التملك.
والخطر الثاني الذي تولد عن هذه النظرة أن الغربي أهمل القيم الروحية والخُلُقية التي تدفع للبذل والتضحية، فليس هناك ما يدعوه لذلك إذا كان لا يحقق له مادة اقتصادية أو بمعنى آخر منافع تشبع حاجات مادية عنده.
ثالثاً: نظرتهم الفاسدة للثمن، فالثمن في نظر الغربيين هو الأداة الوحيدة للإنتاج والتوزيع أو بمعنى آخر هو “الحاجز على الإنتاج والمنظم للتوزيع” فالذي ينتج ينتظر الجزاء المادي، ومن لا يملك لا يستطيع حيازة الحاجات أو الحصول على الخدمات، وهذه نظرة فاسدة لها خطر على الإنتاج وعلى التوزيع في آن واحد، فالذي ينتج لا يقوم بذلك إلا من منطلق نظرة مادية تحقق له جزاءً مادياً، والذي لا يملك الثمن ـ المستهلك ـ لا يستطيع حيازة أي حاجة لإشباع رغباته، فأهملوا القيم الخُلُقية التي تدفع الإنسان للإنتاج، وحكموا على بعض الناس ممن لا يملكون الثمن بالموت جوعاً، أو بالحرمان من الخدمات المادية. لذلك اصطدموا بهذا الخطر وبدأوا بنظام ترقيعات آخر يتمثل في إيجاد مؤسسات الضمان الاجتماعي، والشؤون الاجتماعية وجمعيات خيرية وغير ذلك.
وخطر آخر من جعل الثمن هو المنظم للتوزيع، وهو نشوء سياسة التحكمات في الأثمان عند الشركات داخل أسواق البلد وخارجها، ففي داخل الأسواق يبذل الرأسمالي كل الأساليب من احتكارات وتحكمات لجلب أكبر قدر من الثمنية لمنتجاته، وخارج الأسواق كذلك قادت هذه النظرة إلى سياسة استعمارية مدمرة على شعوب العالم الثالث ـ كما يسمونها ـ تمثلت في استعمار بلادهم من أجل المادة الخام، ومن أجل الإبقاء على أسواق للمنتجات تحقق أكبر قدر من الثمنية، ولا غرابة إذا قلنا أن فكرة الاستعمار قد نشأت من هنا فكان أساسها اقتصادي.
هذا باختصار بالنسبة للأسس التي قام عليها البناء الاقتصادي الغربي، ونظرته الفاسدة التي أثرت كما سنرى في البناء الاقتصادي فجعلته أكثر فساداً من الأساس الذي قام عليه .
(يتبع)
2000-01-06