هل أميركا في مأزق أم في هزيمة؟
حين جاء المحافظون الجدد إلى الحكم في أميركا برئاسة بوش الابن، مع بداية سنة 2001م، كان في رؤوسهم طموحات أكبر من حجمهم وأكبر من قدرات أميركا. ولكن الغطرسة والغرور جعلهم يرسمون الخطط الخيالية. هم رأوا أن أميركا تملك التفوق الصناعي والتجاري والمالي والعلمي والاستخباري والإعلامي والنفوذ السياسي، وتملك مع ذلك كله التفوق العسكري على أية قوة أو مجموعة قوى يمكن أن تجابهها في العالم. ومادامت أميركا كذلك فلماذا لا تبسط هيمنتها على العالم كله بالخطوات السريعة، وليس بالأساليب البطيئة التي كان يتبعها الرؤساء السابقون؟ وقد كتب بعض الاستراتيجيين الأميركيين نقداً لهذا التوجه الموجود عند المحافظين الجدد، ومن بين هؤلاء الاستراتيجيين (زبيغنيو بريجنسكي) مستشار الأمن القومي السابق، فألف كتاب «الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم» في سنة 2004م. وهو حاول النصح بأن مصلحة أميركا هي قيادة العالم وليس السيطرة على العالم كما تفعل إدارة بوش.
=================================================================
إن الشعب الأميركي بطبيعته لا يميل إلى الحروب ما دام يعيش في بحبوحة، ومادام يعيش في أمان، في نصف الكرة الأرضية بين المحيطين. ولكن خطط المحافظين الجدد بحاجة إلى دخول الحروب، فجاءت أحداث نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001م بهذا الاتجاه لتشعر الشعب الأميركي أنه لم يعد في مأمن، بل صار (الإرهاب) يهدده في عقر داره، وبالتالي فعليه أن يخرج لمحاربة (الإرهاب) في العالم. وقد حدث مثل هذا أثناء الحرب العالمية الثانية حين استفزت أميركا اليابان من أجل أن تقوم اليابان بهجوم على بيرل هاربر وتحطيم الأسطول الأميركي مما أوجد مسوغاً أمام أميركا لدخول هذه الحرب في عهد روزفلت (أنظر كتاب «امبراطورية الشر» لعبد الحي زلوم الصادر في 2003م ـ الفصل الأول).
بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وجد مسوغ لأميركا لمهاجمة أفغانستان، ونجحوا في إسقاط نظام طالبان دون صعوبة؛ لأن عميلهم بيرفيز مشرف حاكم باكستان قام بخيانة حكومة طالبان في أفغانستان التي كانت تعتمد على باكستان.
ثم بدأ المحافظون الجدد التهيئة لغزو العراق فلفّقوا أكاذيب أن حاكم العراق (صدام حسين) يتعاون مع (الإرهاب) وأن له صلة بالقاعدة، وقد يعطي القاعدة أسلحة دمار شامل لضرب أميركا وغيرها من بلاد العالم، وأنه يستورد اليورانيوم من النيجر، وقد زوّروا وثائق لإثبات ذلك. ورغم المعارضات الجماهيرية الكبيرة في داخل أميركا وفي سائر أنحاء العالم لغزو العراق، فقد أقدمت الإدارة الأميركية على عملية الغزو. وقد وقفت معظم دول العالم وشعوب العالم ضد هذا الغزو، ولكن إدارة بوش استهزأت بالعالم وبمجلس الأمن وبالقانون الدولي، ووصف رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي دول أوروبا بأنها دول عتيقة، وحين ترددت إنجلترا قال رامسفيلد لبلير: إذا كنتم لا تريدون الاشتراك في الحرب فلابأس، فنحن عندنا القدرة الكافية لخوض الحرب على جبهتين في وقت واحد (يقصد جبهة العراق وجبهة كوريا الشمالية) إذا لزم الأمر.
ونجحت أميركا وحلفاؤها في دخول وإسقاط نظام صدام دون صعوبة أيضاً، ليس لأن الجيش العراقي كان جباناً، بل لأن حاكم العراق وأعوانه كانوا جبناء فاختفوا عن الساحة، وكانوا ظالمين للشعب فلم يكن الشعب ولا الجيش يحمل لهم ولاءً.
وزاد غرور المحافظين الجدد وظنوا أن حساباتهم صحيحة، وأعلن بوش، مَزْهُوّاً، أن المهمة أُنجِزتْ. وفرح الشعب الأميركي بهذا الإنجاز الكبير والسهل، وحصل بوش على شعبية في أميركا غير مسبوقة بلغت 93%.
بعد أقل من سنة، أي في نيسان 2004م، حصلت وقائع الفلوجة التي فاجأت الجيش الأميركي في العراق، وفاجأت الإدارة الأميركية ومحافظيها الجدد. وقائع الفلوجة هذه أظهرت قدرة الجيش العراقي وتصميمه، ليس فقط على رفض الاحتلال، بل على مجابهته لطرده من أرض العراق. ومنذ الفلوجة تغيّر مسار الأحداث، وأحست أميركا بالمأزق الذي وقعت فيه، وصارت الأمور تشتد عليها في جميع الساحات: القتالية، والسياسية، والإعلامية، والخلقية، والإنسانية، والشعبية… إلخ. وانتقل الرأي العام حتى داخل أميركا من مدح بوش وإدارته إلى قدحهم، وهبطت شعبية بوش إلى 36%، ويصدق في بوش وإدارته قول الشاعر:
والناس من يَلْقَ خيراً قائلون له |
ما يشتهي، ولأِمِّ الفاشلِ الهَبَلُ |