العدد 300 -

العدد 300 – السنة السادسة والعشرون، محرم 1433هـ، الموافق كانون الأول 2011م

حزب التحرير: ميثاق الأمّة (ميثاق الخلافة الراشدة الثانية) (2)

حزب التحرير: ميثاق الأمّة (ميثاق الخلافة الراشدة الثانية) (2)

 

يعلن اليوم في الدول العربية التي حدثت وتحدث فيها ثورات كمصر وليبيا وسوريا عن الدعوة إلى إعداد مسودات دستور أو ما يعرف بـ «الميثاق» الذي يشكل عادة مجموعة القواعد الفكرية التي تتخذ مصدراً للدستور والقوانين، وفي هذه الدعوة إعلان بفشل الدستور القديم في حل مشاكل الناس في المجتمع… ويلاحظ أن يد الغرب الي وضعت الدستور القديم تريد أن تلعب لعبتها في إجراء تغييرات شكلية لا جذرية عن طريق توجيه هذه الدول التي ما تزال قابضة على دفتها لتبنّي دستور جديد لا يختلف عن سابقه من حيث استسقائه من التوجه الفكري للغرب.

وحزب التحرير كعادته، كان سباقاً في هذا الأمر؛ إذ أصدر في 15 ربيع الآخر 1410هـ الموافق 14/11/1989م «ميثاق الأمة» وهو الذي سيكون ميثاق دولة الخلافة الراشدة الثانية إن شاء الله تعالى، ذلك المشروع العتيد الذي أصبحت الأمة تنتظر خلاصها فيه…

ونحن في مجلة الوعي رأينا أن ننشر بعض ما جاء فيه ليكون هو الخط المستقيم الذي يجب أن يقارنوا به الخطوط العوج من المسودات التي تصدر من هنا وهناك، وفي أحيان من جهات تدعي أن مشروعها إسلامي، ليتبينوا مدى بعد هؤلاء عن النبع الصافي للإسلام.

الدولة

-السلطان يكمن في الأمة، أو في الفئة الأقوى منها، ولكنه إنما يظهر ويتمثل في شخص واحد منها هو الأمير، وما لم يوجد الأمير لا يوجد سلطان وجوداً فعلياً، وبما أن السلطان هو رعاية شؤون الناس وإدارة مصالحهم، ولا غنى للناس عن رعاية مصالحهم؛ لذلك لا يصح أن تخلو الأمة مِن أمير، فوجود الأمير في الأمة واجب حتمي، تحتمه طبيعة حياة الأمة، ومِن هنا كان وجود الأمير واجباً محتماً، وكان خلو الأمة مِن أمير لا يصح أن يكون ولا بحال من الأحوال، وقد جاء الشرع بوجوب نصب الأمير، وأجمع الصحابة على عدم جواز خلو الأمة مِن أمير. عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال : «لا يَحلّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم» ، وعن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال : «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»، وأخرج البزار بإسناد صحيح من حديث عمر بن الخطاب أن النبي ﷺ قال : «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمرّوا أحدكم»، فهذه الأحاديث تدل على أن نصب الأمة أميراً عليها فرض، وأما عدم جواز خلو الأمة من أمير فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على عدم جواز خلو الأمة مِن أمير أكثر من ثلاثة أيام، فقد باشروا الاجتماع في السقيفة للبحث في نصب خليفة لرسول الله ﷺ منذ بلغهم نبأ وفاته، وظلّوا في نقاش في السقيفة، ثم في اليوم الثاني اجتمع الناس في المسجد، فاستغرق ذلك ليلتين بثلاثة أيام، وأيضاً فإن عمر عهد إلى أهل الشورى عند ظهور تحقق وفاته من الطعنة، وحدّد لهم ثلاثة أيام، ثم أوصى إذا لم يُتفق على الخليفة أن يُقتل المخالف بعد الأيام الثلاثة، ووكل خمسين رجلاً من المسلمين بتنفيذ ذلك، أي بقتل المخالف، مع أنهم مِن أهل الشورى ومن كبار الصحابة، وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم ينقل عنهم مخالف أو مُنكِر، مع أنه مما ينكر، لأن فيه الأمر بقتل كبار الصحابة إن خالفوا، فكان إجماعاً من الصحابة على أنه لا يجوز أن يخلو المسلمون مِن خليفة أكثر من ليلتين بثلاثة أيام، وحين أوصى عمر لأهل الشورى قال لهم تشاوروا ثلاثة أيام، وليصلِّ بكم صهيب هذه الثلاثة أيام التي تشاورون فيها.

– السلطان للأمة، ولكل واحد من أبنائها حق أن يتقدم لأخذ السلطان منها ما دام جامعاً لشروط الخلافة. فإذا خلا منصب الأمير كان على أهل الحَلّ والعقد أن يحصروا المرشحين للإمارة ما دام كل واحد من أبناء الأمة الجامعين لشروط الخلافة له أن يرشح نفسه، وبعد حصر المرشحين تختار الأمة من هؤلاء مَن تراه أهلاً للإمارة، إلا أن على أهل الحَلّ والعقد أن يختاروا أميراً مؤقتاً، ريثما يتم انتخاب الخليفة أو الأمير الدائم، إذا لم يكن الخليفة الأول أو الأمير الأول قد نَصّب أميراً يخلفه في الإمارة ريثما تختار الأمة أميرها، أو خليفة المسلمين، فإن الأمة حين طلبت من عمر أن يستخلف، حصر المرشحين للخلافة في ستة يُختار منهم، وبدأ عبد الرحمن بن عوف يأخذ رأي الناس فيمن يختارونه مِن هؤلاء الستة، وقال: لم أترك رجلاً ولا امرأة إلا واستشرته، أي أخذت رأيه، وإلى أن يتّم انتخاب واحد مِن الستة المحصور ترشيح الخلافة بهم عَيَّن عمر صهيباً أميراً على الناس حتى يَتمَّ الانتخاب.

– الدولة كيان تنفيذي لمجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات التي تقبلتها الأمة أي للأحكام الشرعية. والدولة هي التي تقود الأمة في معترك الحياة فوق رقعة محدودة مِن الأرض. وكيان الأمة، وكيان الدولة يشكلان في هذه البقعة كياناً واحداً تحتل الدولة فيه مركز القيادة، فحتى يَظلَّ هذا الكيان المشكَّل من الكيانين موجوداً، وحتى يَظلّ كيان الدولة كياناً صالحاً يرعى شؤون الناس حسب مجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات، وحتى تضمن الأمة الطمأنينة والاستقرار لا بد من أن توجد في كيان الدولة مفاهيم الانضباط تبعاً لوجودها في كيان الأمة، ولا بد من أن تكون هذه المفاهيم مغروسة في النفوس طاغية على العلاقات متمكنة من الأجواء بحيث يصبح عرفاً عاماً منبثقاً عن وعي عام، وهذه المفاهيم أهمها خمسة هي:

الأول : أن يظل السلطان عملياً للأمة، وأن يعتبر اغتصابه منها جريمة يعاقب عليها أشدّ العقاب، فالشرع جعل نصب الخليفة للأمة بجعل البيعة لها، وجعل الخليفة إنما يأخذ السلطان بهذه البيعة، فجعل طريقة أخذ السلطان هي البيعة. وجعل البيعة للمسلمين جميعاً يدل على أن السلطان للأمة، وأنه إنما يؤخذ منها، وبما أن البيعة عقد مراضاة واختيار كسائر العقود، لذلك كان لا بد أن يؤخذ السلطان مِن الأمة بالرضا والاختيار مِن غير إكراه ولا إجبار، وإن أخذت بالإكراه والإجبار كانت عقداً باطلاً لم ينعقد، فيكون مَن أخذ السلطان بالبيعة إجباراً لم تنعقد بَيعتُه، فلا يكون قد أخذ السلطان، ومَن أخذ السلطان بدون بيعة كان مغتصباً، لأنه لا يملكه إلا بعقد بيعة بالرضا والاختيار.

الثاني: الطاعة الكاملة للحاكم عن رضا واطمئنان في كل ما أَمر به، ونهى عنه، مما جعل الشرع له تصريفه برأيه واجتهاده، وحتى لو ظلم، وأكل الحقوق، فإن طاعته تَظلُّ واجبة، ولا يُعصى إلا إن أمر بمعصية. عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: «سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا وأطيعوا في كل ما وافق الحق»، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن كره مِن أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد مِن الناس خرج مِن السلطان شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية»، وروى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوّا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم».

فهذه الأحاديث تُري مبلغ ما حَّث الشرع على طاعة ولاة الأمر من المسلمين ، مهما ظلموا وأكلوا أموال الناس.

الثالث: وجوب القيام بمحاسبة الحكام ونقدهم بالقول، ومهاجمتهم بقارص الكلام، بالرغم مِن وجوب طاعتهم، لأن الأمة قوّامة على قيام الحاكم بمسؤولياته، ومُلزَمة بالإنكار عليه. فعن أم سلمة عن النبي ﷺ قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومَن أنكر فقد سلم، ولكن مَن رضي وتابع»، أي من كره المنكر فليغيره، ومن لم يقدر على تغييره فأنكر ذلك بقلبه فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، أي رضي بفعلهم بقلبه، وتابعهم عليه في العمل لم يبرأ ولم يسلم. وقال عليه الصلاة والسلام:  «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله».

الرابع: مقاتلة الحاكم بالسلاح إذا أظهر الكفر البَواح، أي إذا حكم الحاكم بأحكام الكفر، أو إذا سكت عن طغيان الكفر في البلاد، فإنه في هذه الحال يجب قتاله، ففي حديث أم سلمة «قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا» ، وفي رواية «ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا»، وفي حديث عوف بن مالك «قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»، وفي حديث عبادة بن الصامت «وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تَروا كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان»، ووقع عند الطبراني «كفراً صُراحاً»، وفي رواية لأحمد «ما لم يأمرك بإثم بَواحاً». فهذا كله يدل على وجوب حمل السلاح على الحاكم إذا أظهر الكفر البَواح.

الخامس : يجب أن ينهض المسلمون لقتال الأعداء تحت ظِلّ الحاكم مهما كان حاله، سواء أكان براً أم فاجراً لقول الرسول ﷺ: «الجهاد ماضٍ مع البَرّ والفاجر»، أخرجه أبو داود عن أبي هريرة.

هذه المفاهيم الخمسة مفاهيم انضباط لا بد من وجودها في كيان الدولة وكيان الأمة، ولا بد من طغيانها، وإن عدم وجودها يعرض الأمة والدولة للأخطار.

– يجب تطبيق الإسلام كاملاً، ودفعة واحدة، ويحرم التدرج في تطبيق أحكامه. فبعد نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أصبح المسلمون مطالبين بالعمل بجميع الأحكام الشرعية، سواءً أكانت تتعلق بالعقائد أم العبادات أم الأخلاق، أم المعاملات، أم تتعلق بالحكم، أم الاقتصاد، أم الاجتماع، أم بالسياسة الخارجية في العلاقة بالشعوب والأمم والدول في حالتي السلم والحرب.

إذ لا فرق بين حكم وحكم، ولا بين واجب وواجب، ولا بين حرام وحرام. فكما يجب أن نقوم بالصلاة والصيام والزكاة، كذلك يجب أن نقوم بنصب خليفة، وبإزالة أحكام الكفر، والحكم بما أنزل الله. وكما يحرم علينا شرب الخمر وأكل الربا، كذلك يحرم علينا السكوت على الحكام الظلمة والفسقة، كما يحرم علينا السكوت على تطبيق أحكام الكفر، وموالاة الدول الكافرة.

فيجب أن يقام بالإسلام كله، وأن يطبق جميعه، ولا يجوز التدرج في تطبيقه، لأن المسلمين مطالبون بتطبيقه كاملاً. قال تعالى: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي يجب  عليكم أن تأخذوا جميع ما جاءكم به الرسول من الواجبات، وأن تبتعدوا عن جميع ما نهاكم عنه من المحرمات، لأن (ما) في الآية من صيغ العموم. فتشمل وجوب أخذ جميع ما جاء به من واجبات، ووجوب الانتهاء عن جميع المنهيات.

كذلك قوله: (أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) فهو أمر للرسول ولمن بعده من الحكام أن يحكموا بجميع ما أنزل الله من الأحكام، لأن (ما) في الآية من صيغ العموم، وقد نهى الله في الآية الرسول والحكام من بعده عن اتباع أهواء الناس، كما حذره والحكام من بعده أن يفتنهم الناس عن بعض الأحكام التي أنزلها الله. وقد جعل الله مَن لم يحكم بجميع ما أنزل من الأحكام كافراً وظالماً وفاسقاً، لأن (ما) الواردة في آيات الحكم الثلاث عامة لجميع الأحكام المنزلة، لأنها من صيغ العموم. والرسول ﷺ أوجب قتال الحاكم، وإشهار السيف في وجهه إذا ظهر الكفر البواح، الذي عندنا من الله فيه برهان، أي إذا حكم بأحكام الكفر ولو حكماً واحداً. كما ورد في حديث عبادة بن الصامت «وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان».

لذلك لا عذر في عدم تطبيق أحكام الإسلام جميعها، ودفعة واحدة، ودون تدريج بحجة عدم القدرة على تطبيقه، أو عدم ملاءمة الظروف للتطبيق، أو لعدم تقبل الرأي العام الدولي بذلك ، أو لعدم قبول الدول الكبرى، أو غير ذلك من الحجج الواهية فكلها أعذار وحجج واهية لا قيمة لها. وكل مَن يحتج بها ويتخذها عذراً في عدم تطبيق الإسلام كاملاً، فلن يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

شكل الدولة

– يختلف شكل الحكم في الإسلام عن سائر أشكال الحكم اختلافاً جوهرياً، فليس هو نظاماً ملكياً، ولا يقر النظام الملكي، فهو لا يجعل لرئيس الدولة أية حقوق سوى ما لأي فرد من أفراد الأمة، ولا يجعل رئيس الدولة مالكاً، بل منفذاً لشرع الله، وليس هو رمزاً للأمة يملك ولا يحكم، بل هو مُوَلّى مِن قبل الأمة في الحكم، يحكم نيابة عنها، ولا يملك شيئاً من هذا الحكم، وليس فيه ولاية عهد مطلقاً.

وليس هو نظاماً جمهورياً، فرئاسة الدولة فيه لا تحدّد بزمن معين، وإنما تحدّد بكيفية معينة. فالخليفة تشترط فيه شروط حتى يكون أهلاً للخلافة، فإذا اختل شرط من هذه الشروط فإنه يخرج عن الخلافة، وينعزل في الحال، أو يصبح مستحقاً للعزل، ولكن ما دام مستكملاً هذه الشروط فإنه يظل خليفة حتى يموت، وأيضاً فإن في النظام الجمهوري تحدّد صلاحيات رئيس الجمهورية من الشعب، بخلاف الإسلام فإن صلاحيات رئيس الدولة غير محددة ، فهو يملك جميع الصلاحيات وهو الدولة بكل صلاحياتها.

وليس هو نظاماً دكتاتورياً، فإن رئاسة الدولة فيه مقيدة بأحكام الشرع؛ فلا يُحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً، بل هو مقيد بالشرع، بخلاف النظام الدكتاتوري فإنه مطلق الصلاحية، يسير برأيه حسب ما يرى، وهو المشرّع وهو المنفذ، أما الخليفة فليس بمشرع، وإنما هو منفذ للشرع.

وليس هو نظاماً إمبراطورياً، فالأقاليم التي يحكمها مهما كانت مختلفة الأجناس فإنها ترجع إلى مركز واحد، وهو يساوي بين الأجناس في كل أنحاء الدولة، ولا يجعل لمركز الدولة أية ميزة على غيره، ومالية الأقاليم مالية واحدة تجبى للجميع، فلا يُنفق على إقليم بقدر ما يجمع منه، بل يُنفق عليه ما يحتاجه بغض النظر عما جبى منه، وتشريعه لكل الأقاليم واحد، وسلطة الحكم في كل الأقاليم واحدة.

وليس هو نظاماً اتحادياً تنفصل أقاليمه بالاستقلال الذاتي، وتتحد في الحكم العام، بل هو نظام وحدة تعتبر فيه كل الأقاليم بلداً واحداً، ولا يملك أي إقليم أية سلطة من الحكم، لا في السياسة الداخلية، ولا في السياسة الخارجية، ولا في الاقتصاد، ولا في التعليم، ولا في أي شيء مطلقاً، بل السلطة كلها في يد واحدة وفي مركز واحد، وقد أمر الشرع بالقتل والقتال للمحافظة على الوحدة، قال ﷺ: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، فشكل الدولة يختلف عن جميع أشكال الدول، إذ هو خليفة يطبق الشرع، ولا يصير خليفة، أي لا يملك السلطة إلا إذا ولاه المسلمون بالبيعة، عن مطلق الرضا والاختيار، ومتى صار خليفة صار بيده وحده جميع صلاحيات الحكم.

– السلطان غير القوة، وإن كان لا يعيش إلا بها، والقوة غير السلطان، وإن كان لا يستقيم أمرها إلا به.

فالسلطان هو الحكم، وولاية الأمر، وهو كيان تنفيذي لمجموعة الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي تقبلها الأمة، فعمله هو تنفيذ الأحكام، والرعاية لشؤون الناس، وتصريف أمورهم.

وبذلك يكون غير القوة، وإن كان السلطان لا يمكن أن يعيش إلا بالقوة، لأنها هي أداة الحماية للحكم، ولمجموعة الأفكار والمفاهيم والمقاييس والأحكام  التي قام عليها السلطان، وهي في نفس الوقت أداة بيد السلطان يستخدمها لتنفيذ الأحكام، وقهر المجرمين والظالمين والمعتدين، وقمعهم حتى يلتزموا بالأحكام.

أما القوة في الدولة، فهي ليست رعاية شؤون الناس، ولا تصريفاً لأمورهم، أي هي ليست السلطان، وإن كان وجودها، وتكوينها، وتسييرها، وإعدادها، وتجهيزها لا يتأتى بدون السلطان.

وهي عبارة عن كيان مادي يتمثل في الجيش، ومنه الشرطة ينفذ به السلطان الأحكام، ويقهر به المجرمين والفسقة، ويقمع الخارجين، ويصد به المعتدين، ويتخذه أداة لحماية السلطان، وما يقوم عليه من أفكار ومفاهيم ومقاييس.

ومن هنا يتضح أن السلطان غير القوة، وأن القوة غير السلطان.

لذلك لا يجوز أن يصبح السلطان قوة، لأنه إن تحول السلطان إلى قوة فسدت رعايته لشؤون الناس، لأن مفاهيمه ومقاييسه تصبح هي مفاهيم القهر والقمع والتسلط، وليس مفاهيم الرعاية، ويتحول إلى حكم بوليسي، ليس له إلا الإرهاب، والتسلط والكبت والقهر وسفك الدماء.

وكما لا يجوز أن يصبح السلطان قوة كذلك لا يصح أن تكون القوة سلطاناً؛ لأنها ستصير تحكم بمنطق القوة ، وترعى شؤون الناس بمفاهيم ومقاييس الأحكام العسكرية، ومقاييس القمع والقهر، وكلا الأمرين يسبب الخراب والدمار، ويولّد الرعب والخوف والفزع، ويوصل الأمة إلى حافة الهاوية. مما سيوقع أشدّ الضرر بالأمة. والقاعدة الشرعية تقول: (لا ضرر ولا ضرار).

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *