العدد 151 -

م1999 السنة الثالتة عشرة شعبان 1420هـ – كانون الأول

صلح الحديبية

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منصرفه من غزوة بني المصطلق، رمضان وشوال، وخرج في ذي القعدة معتمراً، لا يريد حرباً، وإنما يريد تعظيم البيت الحرام. وساق معه الهدي، وكانت سبعين بدنة، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، وكانوا جميعاً بضع عشرة مائة (وعند ابن إسحاق أنهم كانوا سبعمائة بتقدير أن لكل عشرة رجال بدنة)، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائراً للبيت الحرام ومعظماً له. فلما بلغ خروجه قريشاً، خرجوا صادّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وقدّموا خالد بن الوليد (ولم يكن قد أسلم بعد) في خيلهم، فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّـوْا بيني وبين سائر العرب … فوالله، لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة»، ثم مال بهم رسول الله عن طريقهم التي هم بها، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد، أرسلوا إلى قومهم يعلمونهم بوصول محمد صلى الله عليه وسلم، أما ناقة الرسول، فبركت عند الحديبية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلاّ أعطيتهم إياها».

 

ثم جرت السفارات بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين كفار قريش، وكل سفراء قريش يعودون بانطباع واحد، وهو أن محمداً لا يريد حرباً، وإنما جاء زائراً للبيت، وكان من تدبيره صلى الله عليه وسلم  أن يطلع السفراء على الهدي الذي ساقه ليتأكدوا من أنه يريد الاعتمار، وكان ما شاهده أحد سفراء قريش، عروة بن مسعود الثقفي، من تعلق أصحاب محمد برسولهم، أن رجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه. وإني والله، ما رأيت ملكاً في قوم قط، مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُـسْـلمونه لشيء أبداً، فَـرَوْا رأيكم.

                ثم بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم  بإرسال سفير إلى قريش، لينقل إليهم أن محمداً ما جاء لحرب، وإنما جاء زائراً ومعتمراً، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فاعتذر ابن الخطاب، أنه يخاف قريشاً على نفسه، إذ ليس له بمكة من يمنعه، ولشدة عداوته لقريش وغلظته عليها، وأشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بإيفاد عثمان بن عفان، فبعثه رسول الله إلى أبي سفيان وأعيان قريش. فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، فحمله بين يديه، وأجاره حتى بلّـغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أشراف قريش، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت العتيق، فأبى إلاّ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وشلم  والمسلمين أن عثمان قد قتل، فدعا رسول الله الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي نزل فيها قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً )، وروي أن البيعة كانت على الموت، بينما كان جابر بن عبد الله يقول، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  بايعهم على أن لا يفرّوا، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم  لعثمان، بأن ضرب بإحدى يديه على الأخرى.

                ثم إن قريشاً بعثت سهيل بن عمرو، ليعقد مع رسول الله صلحاً بشرط أن يعود محمد ومن معه عامهم ذاك، وتمّ الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذاك، فإذا كان العام الذي بعده، أتى معتمراً، ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، إلا السيوف في قُـرَبها، فيقيم بها ثلاثاً ثم يخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس، ويأمن بعضهم بعضاً، وعلى أن من جاء محمداً من الكفار مسلماً، ردّه إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتداً لم يردّوه إلى المسلمين. فعظم هذا الشرط على المسلمين، حتى إن عمر بن الخطاب راجع أبا بكر في ذلك، فقال له أبو بكر: يا عمر، إلزم غرزه (أي أمره)، فإني أشهد أنه رسول الله. ثم إن ابن الخطاب راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني. وقد دخلت خزاعة في عقد رسول الله وعهده. كما دخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم. ثم جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، فردّه رسول الله إلى قريش قائلاً له: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.

                فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلح بينه وبين المشركين، قال لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا، يريد أن يتحللوا ليعودوا إلى المدينة من غير أن يعتمروا، فلم يستجب منهم أحد، وكرّر دعوته لهم ثلاثاً، ولم يقم منهم أحد، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها (وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن تصحبه إحدى نسائه في غزواته)، فذكر لها ما لقي من المسلمين، فأشارت عليه أن يخرج إلى الناس، فلا يكلّـم منهم أحداً حتى ينحر البدن ويحلق، ففعل، فلما رأى الصحابة ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، فكانت مشورة أم سلمة رضي الله عنها في وقتها، وجنّـبت المسلمين سخط الله ورسوله.

                ولما رجع رسول الله إلى المدينة، جاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، تنفيذاً لبنود صلح الحديبية، فدفعه رسول الله إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فاحتال أبو بصير عليهما، فأخذ سيف أحدهما فضربه به فقتله، وفرَّ الآخر، حتى أتى المدينة، يشكو فعلة أبي بصير إلى رسول الله، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، وفهم أبو بصير أن رسول الله سيردّه إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وكذلك انفلت أبو جندل من أعدائه فلحق بأبي بصير، وصار كل من يسلم من قريش يلتحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، صارت تعترض عير قريش، فيقتلونهم ويأخذون أموالهم، ما اضطر قريشاً أن ترسل إلى رسول الله صلئ الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لمّـا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وهكذا كان الشرط، الذي شقّ على المسلمين قبوله، وبالاً على قريش، حتى تنازلت عنه، وكان ذلك من فضل الله على نبينا وعلى المسلمين.

                وقد كان صلح الحديبية نصراً للمسلمين، إذ اعترفت قريش بكيان الإسلام في المدينة وعقدت معه صلحاً، وكان وقف اعتداء كفار قريش على المسلمين فرصة مواتية ليبعث رسول الله صلئ الله عليه وسلم رسله إلى أطراف الجزيرة وما وراءها، تكريساً لعالمية الدعوة الإسلامية، ثم كانت معاهدة الحديبية أخيراً، الطريق إلى فتح مكة المبين. وفي صلح الحديبية نزل قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ). وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *