الدولة بين الوظيفة والرعاية
2011/06/01م
المقالات
1,697 زيارة
الدولة بين الوظيفة والرعاية
إن الأفعال قد تتشابه وقد تتطابق من ناحية الفعل والأداء ولكنها تختلف كلياً من ناحية القصد والغاية ، وهذا الأمر يستغرق الأفعال التي يقوم بها الأفراد وكذلك الأفعال التي تقوم بها الكيانات والدول ، فكان لابد من فهم الخط الفاصل بين كون هذه الأفعال هي أفعالٌ للرعاية أو هي أداء لموظف، فالفرق بين الموظف والراعي هو ان الموظف يقوم بخدمة من وظفه ولا يجتهد بما يقوم به، بمعنى أنه يقوم بالفعل المرسوم له من قبل الغير ولا علاقة له بواقع الفعل أو غايته، كالمعلم يعطي المادة لطلابه بغض النظر أوافقت أم خالفت عقيدته ومفاهيمه باعتبار أن ما يقوم به وظيفة ولا علاقة له بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر فيما يفعله، والراعي يرعى رعيته وفق ضوابط ومفاهيم ارتضتها الرعية فنصبوه عليهم ليرعاهم بناء على هذه الضوابط، وحدود الرعاية عند المسلمين تستغرق كل الأفراد ذكوراً وإناثاً، والكيانات السياسية والدولة، وهي للوجوب ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
إن الأصل في الكيان التنفيذي الذي هو الدولة لأي مجموعة بشرية من أنه هو المعبر عن مجموع قناعاتها ومفاهيمها، وأنه يقوم على أساس هذه المعايير ليكون هذا الكيان هو المعبر الصادق عما يشغل هذه المجموعة أو يحقق لها السعادة المتصورة والنابعة من مفاهيمها.
إن هناك جماعات او دول قد قامت في مجتمعات قبلية على أساس واضح وهو رعاية الجماعة بناءً على رأي قائد أو ملك يقسو عليهم ويلين بهم تبعاً لمزاجه ، أو دول قامت على أساس رعاية الجماعة بناءً على فكرة عقائدية كالرأسمالية والاشتراكية، أو قومية كالنازية والفاشية، أو على أساس مبدأ أنزله الله وأمر به كالإسلام.
لقد كان من مقتضيات رعاية الرعية وحمايتهم أو حماية مصالحهم هو أن تقوم هذه الدولة بصناعة دول أخرى تقوم بمهام الحماية لمصالح هذه الدولة، فتكون هذه الدول المصنوعة بمثابة الموظف عن هذه الدولة الراعية، فدولة الغساسنة في الشام كانت دولة لها وظيفة محددة وهي حماية دولة الروم، وقد صنعتها دولة الروم لأداء هذه الوظيفة ، وكذلك دولة المناذرة في العراق وُظفت من قبل الفرس لأداء وظيفة معينة وهي نفس وظيفة دولة الغساسنة، فهي مساوية لها من ناحية الإنشاء والأداء ومخالفة لها من حيث الولاء.
إن التوافق الذي حصل بين فرنسا وبريطانيا في اتفاقية سايكس بيكو المتعلقة باقتسام بلاد المسلمين بينهما وتقسيمها لم يكن أمراً عشوائياً مطلقاً وإنما بناءً على تصور مسبق ومدروس، فالأردن مثلاً كدولة مصنوعة تختلف في وظيفتها عن سوريا أو عن لبنان أو عن غيرها من الدول، فلكل دولة وظيفة محددة تقوم بها على الوجه الذي تريده الدول الصانعة لها، فالمطلوب أداؤه وظيفياً من الأردن مثلاً أن يكون فاصلاً بين (إسرائيل) والعالم العربي، والمطلوب من لبنان وظيفياً ان يكون بؤرة فساد ومسرح تضاد، وأن تقوم الدولة السعودية بوظيفة تأمين تدفق النفط وكذلك دول الخليج، فلقد حددت بريطانيا علاقتها معها بناء على المعاهدات المانعة، وعن هذا الأمر يقول الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي في كتابه: «الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترًى عليها» ج2 ص1052 مانصه: «فقد كانت أولى الاتفاقيات التي أبرمتها بريطانيا في هذا الصدد مع الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين سنة 1880م ثم عقدت معه اتفاقيات لاحقة في سنة 1892م تعهد فيها بعدم التنازل أو رهن أو تأجير جزء من أراضيه إلا بإذن من الحكومة البريطانية. وفي السنة السابقة يعني سنة 1891م عقدت بريطانيا مع حاكم مسقط فيصل بن علي اتفاقية مماثلة، ثم أبرمت في سنة 1892م اتفاقيات مع مشيخات الخليج بنفس الطريقة، ونورد نموذجاً لإحدى هذه الاتفاقيات وهي المعقودة مع الشيخ زايد بن خليفة حاكم أبو ظبي:
1- إني لا أدخل أبداً في قرار ما ولا محاورة مع أحد من الدول سوى الدولة البهية الإنكليزية.
2- بغير رضاء الدولة البهية الإنكليزية لا أقبل أن يسكن في حوزة ملكي وكيل من دولة غير الدولة البهية الإنكليزية.
3- أبداً لا أسلم ولا أبيع ولا أرهن ولا أعطي للتصرف شيئاً من ممالكي لأحد إلا للدولة البهية الإنكليزية».
كذلك الأمر بالنسبة لدولة (إسرائيل) فإنها دولة أنشئت لتقوم بوظيفة محددة، وهي أن تفصل بلاد المسلمين شرقها عن غربها، وأن تفصل الشام عن مصر لأن الكفار قد أدركوا القوة الكامنة في توحد الشام ومصر فأوجدوا (إسرائيل) لتكون الجسم الغريب في قلب الأمة الإسلامية، وهذه الوظيفة هي سبب إنشائها، وبقاء السبب هو الموجب لبقاء هذه الدولة، وهذا ما أدركه قادة (إسرائيل) من أنهم يؤدون أخطر تجليات الدور الوظيفي، وقد عبروا عن ذلك بصراحة ووضوح، يقول يعقوب ميريدور وزير التخطيط (الإسرائيلي) عن أن بديل (إسرائيل) للولايات المتحدة هو عشر حاملات للطائرات يكلف بناءها خمسون بليون دولار، وذلك عدا عن تشغيلها وتكلفة الجند والحرج السياسي الذي يسببه وجود هذه القوات.
إن وجود الوظيفة هو ما يدعو لبقاء الموظف، ومتى انتهت الوظيفة فإن الموظف يكون عبئاً على من وظفه، والتخلص منه أمر سهل ولا عزاء له كشاه إيران، وكذلك الأمر بالنسبة للمنظمات أو الأحزاب أو حتى الدول.
إن الخريطة السياسية للعالم قد بدأ تشكلها قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل هدم دولة الخلافة بدت هذه الملامح تظهر شيئاً فشيئاً حين استعمل الكافر أبواقه المأجورة للدعوة للأفكار الهدامة كالقومية التركية أو العربية، وتضخمت هذه الأبواق حتى غدت أحزاباً وظفها هذا الكافر لتحمل للأمة أفكار التحرر والاستقلال تحت شعارات براقة خداعة منها القومي أو الوطني أو الإسلامي، وعقب الاستقلال أضحوا هم الحكام، فتخاصموا تارة وتشاركوا في الحكم تارة ولكنهم لم يخرجوا عن إطارالوظيفة مطلقاً، فأنتج الحزب الوظيفي دولة وظيفية لها جيش وظيفي يدافع عن هذه الوظيفة دفاعه عن نفسه.
لقد غدت هذه الصورة واضحة المعالم لا تشوبها شائبة، فالدول المنتصرة التي تهيمن على مجلس الأمن هي الدول التي تصنع وتوظف الدول، ومن جملة هذه الدول المصنوعة كل دول العالم الإسلامي… وقد حصل بين الدول الصانعة هذا التوافق، ولا يعني هذا التوافق عدم وجود او استمرار هذا الصراع على المصالح؛ لأن هذا الصراع أسٌّ في عقيدتها الرأسمالية النفعية، واقتناص الفرص وتحسين المواقع أمر أساسي في تكوينها، فحصول الصراع بينها على إيران مثلاً لا يخرج إيران من دائرتها الوظيفية في كونها شرطي الخليج الأمين، وكذلك دعمها لحركات التحررضد بعضها البعض أو رفع شعار حق تقرير المصير للشعوب ودعم مطالب الاستقلال أو تأييد جناح ضد جناح أو فصيل ضد فصيل، وغيره كثير لا يعدو كونه صراعاً بين الدول الصانعة على المصالح، والشعوب هم الوقود.
إن حصول انقلاب هنا وهناك، وتغير من نظام ملكي إلى نظام جمهوري في أي دولة من الدول الوظيفية، لا يعني تغير في الوظيفة، بل هو تغير في الولاء وليس تغير في طبيعة تكوين هذه الدولة أو تلك، ومسلسل الانقلابات في سوريا لم يخرج سوريا يوماً من داخل إطار الوظيفة، وكذلك تحول ليبيا من ملكية إلى جمهورية لم يخرجها من إطار وظيفتها التي أنشئت لأدائها فقط، فإنها في واقعها تشبه دكان الحلاق بعدته وأدواته فيمكن لكل حلاق أن يعمل به ولكن لا يمكن تحويله إلى منجرة مثلاً.
إن الكافر حين هدم الدولة الإسلامية كان مدركاً تمام الإدراك أن هذه الدولة، بغض النظر عن مساحتها أو عدد سكانها أو قوتها أو ضعفها، لا يمكن أن تكون دولة وظيفية لأنها دولة قامت على أساس مبدأ همّه الرعاية، فهي دولة رعاية تسوس رعيتها وفق مبدأ ولا تؤدي دور الموظف، فكان التعامل معها على إفنائها وإلغائها وشطب لقب الخلافة والخليفة ومحاربته، بعكس كيفية التعامل مع الإمبراطور في اليابان فلقد أبقته عندما أدركت أن اليابان يمكن أن تؤدي دور الموظف.
إن تعامل الكافر مع الأفكار هو المحدد الأصيل لكيفية تعاطيه مع الأحزاب والدول، ولا تهمه التسميات الكبيرة التي لا تملك المضمون أو هي فارغة منه، وليس لها القاعدة الفكرية التي تستند إليها وتحميها مما يجعلها عرضة للوقوع في فخاخ الكافر فيصفها بالمعتدلة ثم يستغلها ويوظفها، بعكس تعامله مع أفكار الإسلام التي يدعو لها الحزب وآرائه السياسية فهي التي تدعو الكافر لحربه على كل الصعد لأنه يكشف خططها وزيف ما تفعل والحكم الشرعي حياله والعمل المتوجب فعله، وهذا الأمر يختلف كل الاختلاف عن تعامله مع من يريد توظيف الشريعة أو تسمية دولته (بالإسلامية) أو الديمقراطية لأنه يعي تماماً أن هذه التسمية لا تخرج السودان أو إيران مثلاً عن كونهما دولتين موظفتين وأنهما توظفان الإسلام كأسلوب لإتقان أداء الوظيفة.
لنا أن نسأل لنفهم: ما هي الوظيفة التي سوف تؤديها أو تقوم بها دولة جنوب السودان التي يسعون جاهدين لإنشائها؟ أم أن تفصيل الشرق الأوسط على مقياس سايكس بيكو الأوروبي قد انتهت مدة صلاحيته ولا بد من بناء وتفصيل شرق أوسط جديد على المقياس الأميركي كما قالت هيلاري كلنتون إبان حرب تموز والسودان أولاً؟ والبقية في الفخ القادم
جواد عبد المحسن هشلمون
2011-06-01