العدد 293 -

السنة الخامسة والعشرين – العدد 293 – جمادى الآخرة 1432هـ – أيار/مايو 2011م

مع القرآن الكريم: الاستعانة بالصبر

مع القرآن الكريم:

الاستعانة بالصبر

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)).

جاء في كتاب: «التيسير في أصول التفسير» لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشتة

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:

  1. بعد أن أعلمنا الله سبحانه أنه أرسل منا رسولاً يتلو علينا آيات الله جلّ ثناؤه، ويطهرنا من الشرك والأوثان، ويعلِّمنا كلّ ما يلزمنا من عقائد وأحكام لنلتزمها، ونذكر الله سبحانه، وندعو إلى الإسلام، بعد ذلك أمرنا الله سبحانه أن نستعين بالصبر والصلاة.

ومنطوق هذه الآية له دلالة إشارة أن الدعوة إلى الإسلام والالتزام بشرع الله ثقيل وفيه مشقة، وعلى المؤمن أن يثبت على ما يصيبه جراء ذلك ثباتاً راسخاً متزوداً بأمرين بيّنهما الله سبحانه: الصبر والصلاة.

  1. ثم ذكر الله سبحانه صنوفاً من الابتلاء تصيب الإنسان أثناء حمله للإسلام والدعوة إليه، وبيّن سبحانه ما أعدّ للصابرين على ذلك، الثابتين على الحق، الذين يسترجعون عند المصيبة قائلين: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). ومن صنوف الابتلاء التي ذكرها الله وما أعده لأهلها من خير:

أ. القتل في سبيل الله وهو أن يقتل المرء وهو يقاتل أعداء الله لإعلاء كلمته سبحانه مقبلاً غير مدبر ثابتاً في ساحة المعركة، فهو حي عند الله حياةً لا يشعر بها الناس لأنها مغيبة عنهم ولكنها حياة طيبة زكية “من قاتل لإعلاء كلمة الله مقبلاً غير مدبر فهو في سبيل الله” (النسائي وأحمد والدارمي) “إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت” (مسلم والترمذي وأحمد والدارمي وابن ماجه).

ب. الابتلاء بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وهو ابتلاء بشتى أنواعه، فأي منها أصاب المؤمن فهو ابتلاء: الخوف وعدم الأمن، والفقر والجوع، وأن تنتقص الأموال بخسارة فيها، أو تنتقص الأنفس بالأمراض والوفاة، وانتقاص الثمرات بآفة تصيبها. وذكر الله سبحانه (بِشَيْءٍ) أي أياً كان هذا الابتلاء صغيراً أو كبيراً فهو ابتلاء، والصبر عليه أجره عظيم “وقد استرجع النبي ﷺ عند انطفاء المصباح، فقيل له في ذلك، فقال ﷺ: كلّ ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة، وله أجر” (الدر المنثور 2/380، تفسير البيضاوي: 1/125). وفي الحديث المتفق عليه يقول ﷺ: «ما من مسلم يشاك شوكةً فما فوقها إلا رفعه الله بها درجةً وحط عنه بها خطيئةً».

ج. بيّن الله سبحانه أن المؤمن عندما يصبر على الابتلاء ويسترجع بقوله (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فإن له بذلك أجراً عظيماً (صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ونعمَ هذا من أجر عظيم: رضوان من الله ورحمة وهدى، ليس هذا فحسب بل لهم في الدنيا خير كثير.

أخرج مسلم عن أم سلمة “قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيراً منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله ﷺ فأخلف الله تعالى لي خيراً منه، رسول الله ﷺ ” (البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود).

  1. إن الله سبحانه يأمرنا أن نستعين بالصبر والصلاة في حمل الإسلام والدعوة إليه والثبات على الحق في ذلك، وقد صحّ عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة، فهي قرة عين المؤمن يلتقي بها بربه سبحانه ويمتلئ قلبه طمأنينة بأدائها “حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة” (النسائي وأحمد).

فهي تعطي المؤمن طاقة قوية في مقاومة الظلم وأهله، وعزيمة صادقة في الثبات على الحق، مؤمناً صادقاً دون أن تلين له قناة أو تضعف له عزيمة. ثم إن الصبر قد ذكره الله قبل الصلاة إبرازاً لأهمية الصبر، فالصلاة علاقة بين العبد وربه، والصبر علاقة بين العبد وربه ومع نفسه ومع الناس، فهو المحك وهو مقياس الثبات عند الشدة والمصائب والخطوب.

فائدة عن الصبر:

وهنا لا بدّ لنا من وقفة نتدبر فيها الصبر لإزالة الالتباس عند بعض المسلمين حول واقعه ومدلوله.

إن بعض الناس يظنون أن المرء إذا انطوى على نفسه وانعزل عن الناس وترك المنكر وأهله ورأى المحرمات تنتهك وحدود الله تعطل والجهاد يلغى، وهو لا يتخذ موقفاً تجاه ذلك بل هو مبتعد عنه وتارك للنهي عن المنكر، بعض الناس يظن أنه بذلك يكون صابراً.

أو يفهم الصبر أن يدفع الأذى عن نفسه ويتفادى التعرض أن يناله شيء من ملاحقة أعداء الله فلا يجرؤ على قول كلمة الحق أو العمل بما يرضي الله، بل يبقى صامتاً قابعاً في إحدى الزوايا ويقول عن نفسه إنه صابر.

إن هذا ليس هو الصبر الذي أعد الله لأهله جنات النعيم (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الزمر/آية 10 بل هذا هو العجز بعينه الذي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منه: «أعوذ بالله من العجز والكسل والجبن والبخل والهم والحزن وغلبة الدين وقهر الرجال».

إن الصبر هو أن تقول الحق وتفعل الحق وتتحمل الأذى في سبيل الله الناتج عن ذلك دون أن تنحرف أو تضعف أو تلين.

إن الصبر هو الذي رتبه الله على التقوى بقوله سبحانه: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يوسف/آية 90.

إن الصبر هو الذي قرنه سبحانه بالمجاهدين (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) آل عمران/آية 146.

إنه الصبر على الابتلاء والصبر على القضاء الذي يقود إلى ثبات لا إلى اهتزاز، ويقود إلى تمسك بالكتاب لا إلى نبذه بحجة فداحة المصاب، والذي يزيد المرء التصاقاً بربه لا ابتعاداً عنه (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الأنبياء/آية 87.

إنه الصبر الذي يشحذ الهمة ويقرب الطريق إلى الجنة، صبر بلال وخباب وآل ياسر «صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة».

صبر خبيب وزيد (والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي).

صبر الذين يأخذون على يد الظالم دون أن يخافوا في الله لومة لائم «كلا والله لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض وليلعنكم كما لعن بني إسرائيل».

صبر الألى الغر الميامين أصحاب رسول الله ﷺ الصادق الأمين… صبر أصحاب الصحيفة ومقاطعي الشّعب ومهجري الحبشة والملاحقين لقولهم ربنا الله.

صبر المهاجرين والأنصار في جهادهم أهل الشرك والفرس والروم… صبر الأسرى رهط عبد الله بن أبي حذافة… صبر المجاهدين المؤمنين الصادقين.

الصبر أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ولا تضعف أمام الأذى في سبيل الله.

الصبر أن تكون جندياً في جيش المسلمين الزاحف لقتال أعداء الله.

الصبر أن تكون مصداق قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) آل عمران/آية 186 … وقوله سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) محمّد/آية 31 … ثم قوله سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَﷺ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *