العدد 11 -

العـدد الحادي عشر – السـنـة الأولى – شعبان 1408هـ – نيسان 1988م

فكر إسلامي: السلوك الإنساني بين الميول والمفاهيم

بقلم: محمد صالح

عالج الإسلام الإنسان معالجة كاملة لإيجاد شخصية معينة له متميّزة عن غيرها. فجعل العقيدة الإسلامية قاعدة فكرية يبني عليها أفكاره، ويميّز بها الصواب من الخطأ. كما جعل ميوله وأهواءه مبنية كذلك على العقيدة الإسلامية، وحث على تقوية مشاعر التقوى بدوام الصلة بالله تعالى. فكيف يتوصل الإنسان ليصبح شخصية إسلامية بعيدة في سلوكها وتفكيرها عن المحرمات؟

السلوك الإنساني

يقوم الإنسان بإشباع غرائزه وحاجاته العضوية كلما ثارت، أي كلما احتاجت إلى إشباع، وذلك بناء على ما عنده من مفاهيم عن الشيء الذي يُسبِع، وعن طريقة الإشباع. فكل أعمال الإنسان، منذ أن يبدأ بالحركة إلى أن يموت، لا تخرج عن عملية إشباع لإحدى غرائزه أو حاجاته العضوية، أي أن سلوكه كله في الحياة هو لعملية الإشباع هذه، ولا سلوك له خارج هذه العملية. ومن هنا نقول أن السلوك هو فعل يستجيب به الكائن الحي لدافع داخلي ـ غريزة أو حاجة عضوية ـ استجابة معينة واضحة للعيان، وتكون عضلية أو عقلية أو الاثنين معاً.

وسواء ميّزنا السلوك الظاهر والصريح ـ وهو الذي يمكن ملاحظته وتسجيله ـ من السلوك المضمر أو المستتر ـ وهو الذي يصعب على الآخرين ملاحظته لأنه ربما اشتمل على مشاعر أو أفكار ولكنه قد يستنتج من السلوك الظاهر للأفراد، سواء ميزنا أم لم نميز فإن السلوك يبقى هو هو: تصرف أو فعل أو تصرفات قولية يقوم بها الإنسان إشباعاً لجوعة أو غريزة، وذلك نتيجة لمشاهدة واقع محسوس أمامه أو نتيجة لتفكيره بواقع غير مشاهد.

تنظيم السلوك

قلنا إن السلوك هو فعل يستجيب به الكائن الحي لغريزة أو لحاجة عضوية، وهذا ينطبق على كل كائن حي من إنسان وحيوان، لأن الإنسان والحيوان يشتركان في غرائزهما وحاجاتهما العضوية وضرورة إشباعها. ولذلك عرف السلوك الفطري بأنه ذلك الذي يشترك فيه جميع أفراد النوع، وعرف بالمقابل السلوك الموجّه وهو الذي يتبع فيه الإنسان توجيهاً داخلياً معيّناً على ضوء الأعراف والأفكار الموجودة ليده. وهذا هو الفرق بين السلوك الإنساني والسلوك الحيواني، فإن سلوك الحيوان فطري فقط، بينما سلوك الإنسان موجَّه بتوجيه داخلي هو مجموعة المفاهيم أو الأفكار التي صدّق بها، ولذلك تميز الإنسان عن الحيوان بأنه كائن حي مفكّر.

ولما كانت المفاهيم هي التي تنظم السلوك الإنساني وتوجهه، كان يجب أن ينصبّ العمل للارتقاء على المفاهيم بجدّ ونشاط، وذلك لتحويلها من الخطأ إلى الصواب لكي يتحول السلوك الإنساني إلى الصواب. ولما كانت هذه المفاهيم أصلاً أفكاراً جرى التصديق بها بناء على قاعدة فكرية لدى الإنسان، وهي كلها ـ فرعية كانت أو أساسية ـ مبنية على هذه القاعدة الفكرية ونابعة منها، كان لا بد أن ينصب العمل أولاً على هذه القاعدة الفكرية، وهي العقيدة التي تحدد الفكر عن الحياة. ومن هنا، نستطيع أن نقول أننا وصلنا إلى ترتيب أولويات التغيير لدى الإنسان.

أولاً فأول

إذاً أول ما يجب أن يُبدأ به هو العقيدة، وذلك أن تعطى العقيدة للإنسان بطريقة بحث عقلية تستند إلى البديهيات التي لا يختلف عليها عاقلان حتى يقتنع عقله ويمتلئ قلبه طمأنينة. وبقدر ما تكون هذه الثوابت راسخة، تكون العقيدة كذلك. وحينذاك، يكون لدى الإنسان الفكر الأساس الذي يستطيع أن يبني أفكاره الأساسية عليه، وبالتالي يستمد منه النظم التي تعالج حياته وتنظم سلوكه وسلوك من يعيش معه على هذه الأرض.

فمن خلال هذه العقيدة وعلى أساسها تتكون المفاهيم لدى الإنسان. وقد تكون هذه المفاهيم صحيحة فتنتج سلوكاً صحيحاً، وقد تكون كذلك خاطئة فتنتج سلوكاً خاطئاً. والحقيقة أن المفاهيم التي يكوّنها الإنسان، وبالتالي سلوكه، تكون صحيحة بقدر ما تكون العقيدة التي كوّن هذا الإنسان مفاهيمه على أساسها صحيحة، وتكون خاطئة كذلك أيضاً، وإنما نعرف صحة السلوك أو المفاهيم من مدى صحة الفكر الكلّي الذي نبعت منه هذه المفاهيم، وهو العقيدة.

فالمفاهيم هي حكم على واقع معيّن تتم نتيجة لربط هذا الواقع بالمعلومات والحقائق الموجودة أصلاً لدى الإنسان. وحتى تكون هذه المفاهيم صحيحة، لا بد من الدقة في عقل الواقع وربطه بالحقائق المناسبة ـ وهي الأفكار الكلية النابعة من العقيدة.

وكذلك فإن نتيجة تلك العملية الفكرية، أي الحكم على الواقع بالقبول أو الرفض، أو بالصحة أو الخطأ، هذا الحكم هو الذي يعين للإنسان الميول نحو هذا الواقع من إقبال أو إعراض، من حب أو بعض. وبذلك يكون قد حصل لهذا الإنسان ذوق خاص بناءً على خصوصية العقيدة.

التميز والخصوصية

نستطيع أن نقول بناء على ما مضى أن الإنسان يتميز بلون خاص حين يجعل تلك القاعدة أو القواعد  التي يبني عليها مفاهيمه وأفكاره هي نفسها القاعدة أو القواعد التي يبني عليها ميوله ويكونها على أساسها.

فالإنسان تتدافع فيه قوتان اثنتان تجاه عمل ما أو واقع معين: الأولى المفهوم الذي تكوّن لديه بناء على ما عنده من فكر كليّ، أي بناء على العقيدة التي يعتنقها، والثانية الميول والأهواء التي تتكون لديه حول هذا الواقع. الميول ابتداءً غريزية، أي أن الإنسان يكوّن ميوله تجاه الأشياء بناء على غرائزه وحاجاته العضوية، فما كان فيه قابلية لإشباع جوعة ما لدى الإنسان فإنه يعرض عنه ولا يميل إليه. فهاتان القوتان: الفكر والهوى أمران منفصلان ولا شك، وهما اللذان يقرر الإنسان على أساسهما القيام بعمل أو عدم القيام به، أي أنهما اللذان يحددان سلوك الإنسان.

فالإنسان الراقي ولا شك هو الذي يتبع فكرة دون هواه، لأنه بذلك يتميز عمن دونه من المخلوقات غير العاقلة. والإنسان غير الراقي هو ذاك الذي يتبع هواه. وقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تنهى عن اتباع الهوى، وتذم صاحبه، وتأمر باتباع الصراط المستقيم، أي أحكام الإسلام وعقيدته الإسلامية. قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)، وقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).

ولكن القفزة الكبرى في السلوك تكون عندما يجعل الإنسان من العقيدة وما ينبع عنها من مفاهيم أساساً لميوله وأهوائه، فلا يميل مطلقاً إلى ما قد قرّر أنه خاطئ، بل يرغب في الصواب فقط ويعرض عن الخطأ. وقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». ففي هذا الحديث إشارة إلى تمام الإيمان الذي يكون بتكييف الميول والأهواء بحسب الشرع الإسلامي.

إن الإنسان المسلم لديه مفهوم عن شرب الخمر أنه حرام. مثل هذا المسلم قد تميل نفسه إلى شرب الخمر مع علنه بأنه عمل خاطئ، وقد تشمئز منها نفسه فلا يرغب بشربها مطلقاً. وهو في الحالتين قد لا يقدم على شرب مطلقاً، غير أنه إذا كان يميل لشربها مع الإحجام فإن نفسيته لا تكون نفسية إسلامية تماماً.

وكذلك أي إنسان، إن كان يربط ميوله ودوافعه بقاعدة أو قواعد غير التي يربط بها مفاهيمه، فإنه يفقد التميز والخصوصية، ولا يشكل شخصية متميزة قائمة على أساس فكري واضح. وحينذاك يصبح هناك تباين واختلاف بين المفاهيم والسلوك، وتصبح رغبات الإنسان وميوله تتعارض مع مفاهيمه، بحيث يميل إلى ما يراه هو نفسه خاطئاً. وحينذاك يصبح الإنسان بعيداً عن الطمأنينة، ويفقد لونه وهويته وتميزه.

لذلك كان لا بد أن تجعل القاعدة أو القواعد التي يقاس عليها الواقع هي نفسها التي تقاس عليها الميول، وحينها، يحصل الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم.

الشرطية

لا بد أن يرتبط السلوك الإنساني بالمفهوم عن الشيء المراد إشباع الجوعات به: هل يشبع أو لا يشبع؟ وهل يجوز الإشباع به أو لا يجوز؟ فمثلاً حلم الخنزير يشبع جوعة المعدة، وكذلك الخمر يروي العطش، فهما يشبعان الجوعات. ولكن إذا ربط الإنسان المسلم بين دوافعه ومفاهيمه، فإنه يستنج أن هذين لا يجوز إشباع الجوع والعطش بهما، لأن العقيدة تقول بتحريمهما. فإذا ارتبط هذا المفهوم عند الإنسان بالدافع ـ وهو قابلية الإشباع في الشيء، فإنه يمتنع عن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر.

فنتائج المفاهيم هي التي تحدد وتعيّن سلوك الإنسان نحوا الواقع المدرك، ولكن هذا الارتباط يبقى غير حتمي، لأن السلوك وإن كان ناتجاً حتماً عن مفهوم ما لدى الإنسان، فإن هذا المفهوم ليس بالضرورة ذلك الذي ترشد إليه العقيدة، فقد تتنازعه مفاهيم أخرى. فالإنسان المسلم الذي لديه مفهوم حرمة شرب الخمر ولكنه يشربها مع علمه أن شربه لها عمل خاطئ، هذا المسلم لم يتبع مفهوم تحريم الخمر بالتأكيد، وإلا لكان امتنع عن شربها، فلا بد أن يكون اتبع مفهوماً آخر، مثل إيمانه بأن الله غفور رحيم، أو أن شرب الخمر القليل غير حرام.

التعارض

هذا التعارض بين مفهوم الإنسان عن الشيء وبين سلوكه تجاهه إنما هو لاختلاف القاعدة التي قاس عليها عمله حين القيام بالفعل. فالمسلم الذي يشرب الخمر قاس الأمر على الحالين: على قاعدة أن الخمر حرام، وعلى قاعدة أن الله غفور رحيم. ولكنه في قياسه الأول أصاب وربط الدافع الموجود بالمفهوم الصحيح، أما في قياسه الثاني فكان قياساً خاطئاً، لأن الله تعالى غفور رحيم قطعاً ولكنه أيضاً شديد العقاب على اقتراف المعاصي فيجب البعد عنها في جميع الأحوال.

وحين يتعرض الإنسان لوضع المعصية، فإن الدافع دائماً موجود طالما أن هذا الشيء أو الفعل يتبع جوعة ما لدى الإنسان، ولكن ربط هذا الدافع بالمفهوم الصحيح هو النقطة الحاسمة في قيامه بالفعل. والهوى يصوّر للإنسان كثيراً من المفاهيم، وقد تميل نفس الإنسان إلى مفهوم ما ـ مثل أن الله غفور رحيم ـ لميلها إلى ارتكاب المعاصي، وحينذاك يكون الإنسان قد غلب عليه هواه، واتبع طريق الشهوات.

ومشاعر الإنسان تتأثر كذلك بالمفاهيم. فهي تميل لإشباع الجوعات ابتداء، ولكنها تختلف حسب الربط بالمفاهيم. فالذي يذكر حرمة الخمر مثلاً يذكر عذاب الله تعالى، فتثور مشاعر الخوف ـ تقوى الله عز وجل. والذي يذكر غفران الله تعالى ويُطَمْئِنُ نفسه بأنه لن يصيبه العذاب وأن الله تعالى سيغفر له. وحين يقدم الإنسان على اقتراف المعصية، فإن مشاعر الميل والإقبال تكون لديه أقوى من مشاعر الخوف من الله عز وجل، أي أن تقواه لله تعالى لم يكن بالدرجة التي تتغلب على هواه فارتكب المعصية. وعندما ارتكب هذه المعصية لم يخالف كذلك مفهومه الأساسي وهو الإيمان بحرمة الخمر بأن شربها عمل خاطئ، ولذلك فإنه يبقى شخصية إسلامية رغم هذه الثغرات في السلوك.

ولذلك نجد الإسلام يركز على تقوى الله، ويحث المسلم على دوام الصلة بالله، وتقوية إيمانه بالله والخوف من عذابه، وكذلك الطمع في جنّته، وبدوام تقوية مفاهيمه ومراجعتها وتنقيتها. فهذان الأمران: تقوية المفاهيم وتنقيتها، وكذلك دوام الصلة بالله وتقواه، هذان هما السبيل الوحيد للمسلم حتى يحافظ على سلوكه مرتبطاً بعقيدته، أي حتى يحافظ على سلوكه مبنياً على مفاهيم الإسلام، ويصبح شخصية إسلامية متميّزة. وهذا يتطلب دوام ذكر الله تعالى، والإقبال على المندوبات والنوافل، والترفع عن المكروهات، وذلك حتى تصبح النفس صافية مما قد علق بها من آثار.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *