العدد 292 -

العدد 292 – السنة الخامسة والعشرون، جمادى الأولى 1432هـ، نيسان 2011

فبهداهم اقتده: سلسلة أمهات المؤمنين (11)

فبهداهم اقتده

سلسلة أمهات المؤمنين (11)

رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها

 

كانت ولادة رملة في العام الخامس والعشرين قبل الهجرة، أي قبل مبعث النبي  صلى الله عليه وسلم  باثنتي عشرة سنة. ووالدها أبو سفيان، صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس.

نشأت رملة نشأة بنات الأشراف من العرب، على الترف والعز والرفاهية، والتضلع في الأدب وحفظ الشعر، والمأثور من القول والحكمة.

ولقد جمعت إلى رفعة النسب والحسب، الغنى الوافر والجمال الباهر، فكانت محط الأنظار، ومجال الافتخار… فودّ أكثر شباب قريش أن يتخذها زوجة له، فتنافسوا عليها، حتى تطاحنوا في سبيل ذلك. فقد كانت مكانة والدها في بني عبد شمس وزعامته الحربية في قريش ذات أثر كبير في تلك الرغبة التي استحوذت على الشبان وتملكتهم… وحفزتهم إلى طلب هذا الشرف والسؤدد.

غير أن رملة الشابة الناضجة المتعلمة كانت تتريث في الاختيار والموافقة وتتأنى، وكذلك كان والدها أبو سفيان الذي آثر أن يشاركها في طول الأناة، سعياً وراء الكفاءة والتماثل الاجتماعي، بين الخاطب وخطيبته.

زواجها

جاءها عبيد الله بن جحش خاطباً، وكان شاباً مرموقاً يتمتع بالوسامة، والجاه العريض، والحسب الرفيع، وأصالة النسب، فقد كانت دور بني جحش حياً من أحياء مكة له حرمته وله مكانته وتقديره واحترامه. أضف إلى ذلك تضلع عبيد الله الخاطب في علوم الديانات وأصولها، إذ كان ملازماً لورقة بن نوفل الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التنصر، والذي كان من متحنفي الجاهلية…، راغباً عن عبادة الأصنام والأوثان، كارهاً لها، مستخفاً بأصحابها، والعاكفين عليها.

فقبل أبو سفيان بعبيد الله زوجاً لابنته الحبيبة رملة.

في بيت الزوجية

كانت رملة فتاة قرشية مكية، ناضجة العقل، واضحة الفكر، عاقلة مدركة، على قسط وافر من العلم والمعرفة تقرأ وتكتب، وكان ذلك قلة في الرجال فكيف بالنساء؟

فكانت مع زوجها عبيد الله على خير ما يكون الزوجان، تفاهماً وتقارباً ومحبة. إن عرض أمر من الأمور، أو وقع حادث من الأحداث الجسام، أبدت رملة فيه رأياً ناضجاً، وحكماً صائباً، يوافقها عليه عبيد الله، وكذلك كان شأنه معها.

ومضت بهما سفينة الأيام تمخر بحر الزمن وعبابه… حتى كانت نبوة سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ومبعثه…

المهاجران إلى الحبشة

أسلم عبيد الله ثم هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته رملة، في جملة من هاجر من المسلمين، وكان يكنى بأبي أحمد، وكانت رملة قد حملت فوضعت بنتاً أسمتها حبيبة، ومن ثم عرفت بأم حبيبة. وما كادت قدم عبيد الله بن جحش تطأ أرض الحبشة عتى عاوده حنينه إلى الماضي، وهو ميله إلى النصرانية…

وحدث أن استيقظت أم حبيبة ذات يوم على رؤيا مزعجة مرعبة، فقد رأت في منامها زوجها عبيد الله بوجه غير وجهه الحقيقي… رأته دميماً بعد أن كان وسيماً، وقبيحاً منكراً بعد أن كان جميلاً محبباً، فاستعاذت بالله من ذلك.

وبينا هي في شؤونها الخاصة منشغلة منهمكة، أتاها عبيد الله معلناً نصرانيته، داعياً إياها إلى متابعته ومشاركته… فأبت ورفضت، واستكبرت فعلته… ولاذت بإيمانها… ثم أدركت مغزى الحلم الذي رأته ليلتها، ورجعت بها الذاكرة إلى تفاصيله ودقائقه.

وحدثت زوجها عبيد الله بذلك، في محاولة لصرفه عن ردته، كما دعته إلى الإيمان والثبات على الإسلام، فرفض… وأصر على الرفض، وخرج من بيته إلى جماعة المسلمين المهاجرين ليعلن ذلك على مسامعهم، ويقول لهم: لقد فقنا وصأصأتم (فقنا: أصابتنا فاقة وهو العوز الشديد، صأصأتم: مص الأصابع بعد الطعام، وهي دلالة على الترف)… ثم انكب على الخمر التي طال شوقه إليها يعب منها حتى الثمالة. واستمر على ذلك أياماً طوالاً، حتى كبد، والتهبت أمعاؤه، فقضى نحبه كافراً، مطروداً من رحمة الله.

وكان ذلك بالنسبة إلى أم حبيبة مأساة وفاجعة!!

الأرملة

قضت رملة أيامها في دار الهجرة بين عذابين: عذاب البعد عن الوطن والأهل والعشيرة، وعذاب الترمل بفقد الزوج المعيل، والذي ارتد بعد إسلام، وكفر بعد إيمان، وانغمس في حمأة الجاهلية، بكل شرورها وآثامها.

لقد تكأكأت على أم حبيبة ألوان شتى من المتاعب والمصاعب والهموم…

ولكنها رضي الله عنها بما أوتيت من إيمان عظيم، وقلب كبير، وعقل راجح، استطاعت أن تصمد في وجه المحنة، كما لقيت من إخوانها المسلمين المهاجرين كل عون وسند، ورعاية وحنان، فتعوضت عما هي فيه من العنت وعذاب النفس والقلق، فكانت أيام هجرتها إلى الحبشة التي امتدت سنوات عدة من أصعب وأشد فترات حياتها، وسني عمرها، قسوة ووحشة وجفوة.

وذلك كله ولا شك ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانها، وصدق يقينها، فإن هي صمدت وصبرت نالت الجزاء الأوفى. ولقد كان جزاؤها رضي الله عنها أحسن الجزاء وأكرمه.

خِطبة كريمة

عندما أرسل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  رسله وكتبه إلى الملوك والحكام في أنحاء الأرض يدعوهم إلى الإسلام، بعد عهد الحديبية، وينذرهم بسوء المصير إن هم أصروا على الكفر والشرك، ويحملهم تبعة ومسؤولية شعوبهم… لم ينس الرسول العظيم في رسالته إلى النجاشي ملك الحبشة أن يذكر رملة بخير…

وأي خير أعظم من أن يخطبها لنفسه، مواسياً لها في غربتها وكربتها، معزياً لها في ترملها، فقد حمل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي كتاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، وقد ضمنه طلباً كريماً، هو أن يخطب له النجاشي رملة بنت أبي سفيان.

وقبل النجاشي مهمة الخاطب، وأرسل إلى رملة إحدى جواريه تحمل لها النبأ السعيد، فصاحت فيها رملة قائلة: بشرك الله خيراً، ثم وكلت عنها خالد بن سعيد بن العاص لإتمام مراسم العقد، فلما كان مساء ذلك اليوم، دعا النجاشي المسلمين اللاجئين عنده إلى قصره، وخطب فيهم، فقال:

لقد كتب إلي محمد  صلى الله عليه وسلم  أن أزوجه رملة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه، وأصدقتها عنه أربعمائة دينار… ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. عندئذ نهض وكيلها خالد بن سعيد بن العاص وقال: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

أما بعد، فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وزوجته رملة، فبارك الله لرسول الله، ثم دفعت الدنانير لخالد ولما أراد القوم الانصراف، قال لهم النجاشي: اجلسوا… فسنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يقدموا الطعام لمن حضر الزواج ثم دعا بطعام، فأكلوا… ثم تفرقوا.

الحكمة السامية

لقد استطاع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بحكمته البالغة أن ينال بهذا الزواج أموراً كثيرة، ويحقق أغراضاً عظيمة، وأهدافاً سامية. فبالإضافة إلى المواساة التي لقيتها رملة رضي الله عنها فاستكانت بعد قلق، وهدأت بعض اضطراب، نال عليه الصلاة والسلام فتحاً كبيراً على أكبر عدو له ولدينه ولدعوته، لقد انتصر على أبي سفيان والدها، الذي كان يترأس حرب المشركين، ويقود كل معركة، ويدبر كل مؤامرة، ويتزعم كل جيش. وهكذا كان رسول الله يقضي في الأمور ويتصرف بحكمة عالية، وهمة سامية، وبعد نظر. لم تكن لتتحرك فيه إلا رغبة في الحفاظ على وحدة المسلمين وتماسكهم، ومواساتهم، والانتصار لهم.

في بيت النبوة

فلما كان يوم فتح خيبر، صادف وصول المهاجرين، العائدين من الحبشة بعد طول غياب، امتد ما يزيد على خمسة عشر عاماً، واستقبلهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فرحاً مبتهجاً قال: لا أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟

وكانت رملة رضي الله عنها، مع الوفد القادم، فبنى بها رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، وأقامت في حجرة من حجرات بيت النبوة…، فكانت زوجة تقدر مسؤوليتها، وتحفظ مكانتها، وتحرص على إسعاد وراحة زوجها.

وعرف لها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قدرها ومكانتها، فأغدق عليها من فيض حنانه وحبه، ورعايته وعطفه.

لا ولاية بين الإيمان والكفر

وليس أدل على وفائها وإيمانها ودينها من تلك الحادثة المشهورة في حياتها، إذ قدر لها أن تواجه أباها أبا سفيان وجهاً لوجه… هي مؤمنة وزوجة لرسول الله  صلى الله عليه وسلم . وهو كافر مشرك، سيد قريش بلا منازع، له رهبة وهيبة… لكنها رضي الله عنها وقفت له الند للند… لا تخشى أذاه، ولا ترهب سطوته ولا تجزع من سلطانه وجبروته… عرفته مكانته بين الإيمان والكفر بمنتهى رباطة الجأش والسكينة، وقالت بالفم الملآن:

أبي الإسلام لا أب لي سواه              إذا افتخروا بقيس أو تميم

وتعلن بكل فخر واعتزاز ولاءها لله تعالى ولرسوله… لا لأحد سواهما. فقد حدث بعد فترة من عقد صلح الحديبية بين رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وبين وفد قريش، أن نقض حلفاء قريش بنو بكر هذا الصلح، وانقضوا على بني خزاعة حلفاء النبي  صلى الله عليه وسلم ، وساعدتهم قريش على ذلك، فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم مستجيراً… فوعده عليه الصلاة والسلام خيراً وطمأنه. وأدرك أبو سفيان زعيم قريش مغبة الأمر، واستشعر في نفسه خطورته، فجهز نفسه وقصد إلى المدينة المنورة، ليثبت مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم العقد، ويمدده، وينفي عن قريش سوء فعلها، ويتبرأ منه؛ فلما انتهى إلى المدينة دخل على ابنته رملة، رضي الله عنها، يطلب وساطتها لدى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ثم أراد أن يجلس على فراش النبي، ليستريح، فطوته عنه ابنته ومنعته، فقال غاضباً متعجباً: يا بنية… ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! فأجابته قائلة: بل هو فراش رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وأنت امرؤ مشرك نجس، ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله. فازداد أبو سفيان غضباً واستنكاراً، وقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر… فأجابت واثقة مطمئنة: بل هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام! وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر..؟ استمع إليها وهو يكاد يتميز من الغيظ ثم خرج من عندها غاضباً، قد أذله الهوان، وتكامن كبرياؤه وغروره ثم قصد إلى أبي بكر، ثم عمر رضي الله عنهما يتوسطهما، فرفضا. ثم أتى النبي  صلى الله عليه وسلم  في المسجد، فصده ولم يقبل وساطته، فعاد إلى مكة فاشلاً خائباً، خالي الوفاض. وحين أخبر زوجته هند بنت عتبة بما كان من أمره في المدينة، اشتدت عليه في اللوم، وكانت شديدة متسلطة، وقالت له: قبحت في سفير قومك فما جئت بخير!

تحية وتقدير

وقفة إجلال وإكبار تقفها أمام أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، نحيي فيها صلابة إيمانها، وقوة إسلامها، وعظمة شخصيتها، ونقدر فيها سموها وارتفاعها عن أوضار الجاهلية والقيم الجوفاء التي تعارف عليها أهلها، وتعاملوا فيها بينهم على أسسها، فإذا بأم حبيبة، رضي الله عنها، تنقضها دفعة واحدة، وترمي بها في وجوه أصحابها، فلا تعتمد إلا على الله وحده، ولا تثق إلا به سبحانه، ولا تلجأ إلا إليه تعالى، لا تقيم وزناً لنسب إلا نسب الإيمان والإسلام.

وهكذا المؤمن الحق، لا يعرف صلة إلا الصلة بالله وحده. وعندما علم النبي  صلى الله عليه وسلم  بما حدث بين أم حبيبة ووالدها أبي سفيان، ازدادت قيمتها في نظره، وسمت مكانتها في قلبه، فبالغ في إكرامها وتقديرها كفاء ما قدرت وعظمت حرمة الدين.

كما علت مكانتها بين أخواتها من أمهات المؤمنين، والصحابيات الكريمات. وقدر أيضاً كبار الصحابة، رضوان الله عليهم، ما انطوت عليه نفسية أم حبيبة من إباء وشمم، مبعثهما الإيمان العميق، وحب المصطفى  صلى الله عليه وسلم .

بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم

بعد أن اختار الله نبيه محمداً  صلى الله عليه وسلم  إلى جواره، أقامت رملة في بيتها وفية لذكرى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، الزوج الحبيب… وكان والدها أبو سفيان وأهلها، قد دخلوا في الإسلام، منذ فتح مكة، فحسنت الصلة بينها وبينهم وتوثقت، وازدادت رسوخاً على مر الأيام.

ولقد عرف لها الناس جميعاً العامة والخاصة، الخلفاء والأصحاب، الرجال والنساء الكبار والصغار… عرفوا مكانتها ومنزلتها، فاحترموها أبلغ احترام وأجله، وفاءً منهم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه.

كان الخلفاء يأتونها زائرين، ويعينونها بالمال قسمها الذي يكفيها مؤونة الحاجة. وكم من فتنة حدثت بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  خاصة الفتنة الكبرى أيام عثمان رضي الله عنه، فلم تشارك في أي منها… لا بالقول ولا بالفعل، ولم تنطق بكلمة يشتم منها تحيز لفريق دون آخر… بل حرصت كل الحرص على أن تقول الكلمة الطيبة التي تدعو إلى وحدة صف المسلمين والتفافهم حول الدين الحنيف، والتزامهم به، واعتصامهم برب العالمين، واستمساكهم بحبله المتين.

وروت رضي الله عنها ما سمعت ووعت من حديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فأسهمت في تنمية التراث العلمي الإسلامي، عقيدة وفقهاً وأدباً، لقد كانت أم حبيبة رضي الله عنها سيدة جليلة بكل ما في الكلمة من معنى وقورة متزنة هادئة، لا يستخفها أمر أو حدث، مهما بلغ عنفه أو فاعلية تأثيره.

الوفاة: ولم تكن رضي الله عنها تخرج من بيتها إلا لصلاة، ولم تكن تترك المدينة إلا لحج..! ولما كان العام الرابع والأربعون بعد الهجرة، أحست أم حبيبة بالضعف يسير إلى جسمها، والوهن يدب في كيانها، كيف لا… وقد شارفت على نهاية العقد السابع من عمرها، وعانت من ظروف قسوة الأحداث أشدها؟! وما هي إلا أيام حتى توفاها الله تعالى ودفنت بالبقيع.

رضي الله عنها وأرضاها، وأنزلها من لدنه منزلاً مباركاً طيباً

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *