العدد 292 -

العدد 292 – السنة الخامسة والعشرون، جمادى الأولى 1432هـ، نيسان 2011

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

 

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

بعد أن أعلمنا الله سبحانه في أوائل السورة أحوال المؤمنين، ثم بيّن أحوال الكافرين، ذكر الله -جلّ شأنه- في هذه الآيات أحوال المنافقين، فهم يظهرون الإيمان ويخفون الكفر ويخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم، كما أن عقائد قلوبهم مريضة مليئة بالشكّ والريب، يدّعون الإصلاح وهم في الحقيقة مفسدون، ويزعمون الإيمان وهم في واقعهم مستهزئون. ثمّ يعلمنا سبحانه أنه يستهزئ بهم وأن تجارتهم خاسرة وأنهم في ضلال مبين.

وتظهر في هذه الآيات المسائل التالية:

  1. ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ).

المخادعة من المفاعلة في لغة العرب، وهي بين طرفين يخادع كلّ منهما الآخر، فكيف يكون ذلك بين الله سبحانه والمؤمنين من جهة وبين المنافقين من جهة أخرى؟!

أصل الخدع (بفتح الخاء وكسرها) هو الإخفاء والإبهام، وهذا ممكن بين المؤمنين والمنافقين فيُظهر المنافق الإسلام ويخفي الكفر عن المؤمنين، وكذلك يمكن أن يخفي المؤمن أعمالاً معينةً عن الكفار والمنافقين فيُوَرِّي عليهم لإيهامهم بأمر كما يحدث في الحرب مثلاً “الحرب خدعة” ولكن التساؤل حول مخادعة المنافقين لله سبحانه هو الذي يجب الوقوف عنده. وبالنظر في المسألة يتبين أن خديعة الله للمنافقين هو استدراجهم من حيث لا يعلمون ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ) [الأعراف 182]، وإيهامهم بأن الأموال الوفيرة عندهم والصحة والقصور هي خير لهم، في حين أنها في الحقيقة شرّ لهم وطريق لهم إلى جهنم كما جاء في الآية ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [آل عمران 178] فهذا هو خداع الله للمنافقين كما في الآية ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) [النساء 142].

وأما عن خداع المنافقين لله -سبحانه وتعالى- فالله لا يخفى عليه شيء والأمر هنا يحتاج إلى بحث أعمق، وبالتدقيق فيه يتبين أن الله سبحانه لم يقل يخدعون الله والذين آمنوا، إنما قال: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) والمخادعة مفاعلة وهي لا تعني تحقيق الخديعة بل حدوث المخادعة فقط، فيقول (قاتل زيد عمراً) فهنا حدثت مقاتلة ولكنها لا تعني أن زيداً قتل عمراً بل قد يقتله وقد يقتل نفسه دون أن يقتل خصمه، وهو هنا كذلك فإن المنافقين يخادعون الله، أي يحاولون بزعمهم أن يخفوا عن الله شيئاً، ولكنهم في النتيجة يخدعون أنفسهم لأن الله سبحانه يعلم ما يسرون وما يعلنون؛ فلا يستطيعون إخفاء شيء عنه سبحانه، فيعاقبهم العقاب الذي يستحقون، وتكون مخادعتهم قد وقعت عليهم هم أنفسهم.

وننبه هنا إلى نقطة وهي أنَّ ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) قد جاءت في الآية تعقيباً على أمرين: (يخادعون الله) و(يخادعون الذين آمنوا) أما عدم تمكُّن المنافقين من أن يخدعوا الله سبحانه وأنهم يخدعون أنفسهم فهذا مقطوع به، وبالتالي فإن ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) تعقيباً على قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ ) واضحة المعنى. لكن كيف نفهم ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) تعقيباً على (يخادعون المؤمنين)، علماً بأن نجاح المنافقين في خداع المؤمنين ممكن، وهذا في ظاهره خلاف منطوق الخبر الوارد عن الله سبحانه ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ )؟

والجواب هو أن هناك في لغة العرب دلالةً للكلام تسمى دلالة اقتضاء، وهي تعني أن يُفهم الخبر الوارد في منطوق الكلام، يُفهم في صيغة الطلب إذا اقتضت ذلك ضرورة صدق المتكلم. وهي هنا كذلك فإن الخبر الوارد في الآية تعقيباً على مخادعة المنافقين للمؤمنين هو في معنى الطلب أي لا تمكِّنوا المنافقين من أن يخدعوكم أيها المؤمنون، بل كونوا على درجة من الوعي والفطنة بحيث ترتد مخادعتهم على أنفسهم. ودلالة الاقتضاء لضرورة صدق المتكلم معروفة مشهورة في علم الأصول.

  1. ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ).

إن المرض الذي في قلوب المنافقين مرض في عقيدتهم أي في العقيدة التي في قلوبهم بحذف المضاف قبل قلوبهم، فهو ليس مرضاً في الجسم بل في العقيدة: زيغ وشكّ وريب وضلال، وهم يزدادون مرضاً كلما فرض الله فرضاً يؤدونه أو بيّن حداً يلتزمونه أو فضحهم الله بكشف حقيقتهم فهم يضطربون لأداء فرض جديد أو استنفار في جهاد أو في حدّ يطبق عليهم، فإن هذا هو زيادة مرضهم كما قال سبحانه: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) [التوبة 124-125].

  1. عقّب الله سبحانه على ادّعاء المنافقين الإصلاح ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ) وعلى زعمهم الإيمان ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ).

فقد ذكر الله سبحانهص3ض2 هنا (  لَا يَعْلَمُونَ ) وفيما تقدم ( لَا يَشْعُرُونَ ) لأنه قد ذكر السفه وهو الجهل، فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له، ولأن الإيمان يحتاج إلى نظر واستدلال أي إلى علم، ولذلك كان (  لَا يَعْلَمُونَ ) هو المناسب لهذا الموضع. وأما الفساد في الأرض فأمر مبني على الحسّ أي الشعور وهو البارز فيه لذلك كان ( لَا يَشْعُرُونَ ) هو المناسب له.

  1. ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ).

أي يجازيهم على استهزائهم فسمّى جزاء الاستهزاء استهزاءً كقوله تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) [الشورى 40] وقوله ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) [البقرة 194] فسمى جزاء السيئة سيئةً وجزاء الاعتداء اعتداءً، وإن لم يكن الجزاء في الحقيقة سيئة أو اعتداء، وإنما هو استعمال مجازي حسب لغة العرب. واستئناف قوله تعالى ( يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) من غير عطف في غاية القوة، فهو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ، ولما كانت نكالات الله بهم تنزل عليهم ساعة فساعة قيل: ( يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) للاستمرار ولم يقل سبحانه: (الله مستهزئ) كما قالوا: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) وذلك ليكونَ النكالُ لهم أشد وباستمرار. لذلك جاء التعقيب بالمد في طغيانهم، فهم يعمهون في ضلالتهم أي يتمادون في كفرهم وضلالهم ويترددون حيارى لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً.

ثمّ بيّن سبحانه أن المنافقين قد اشتروا الضلالة بدلاً من الهدى، واقتران الباء بالمتقابلين عند الاستبدال يعني أن الذي استبدل وذهب هو الذي دخلت عليه الباء، وأن البديل هو ما كان عَرِيَّا عنها أي أن ( اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ) تعني أنهم حصلوا على الضلال بدلاً من أن يحصلوا على الهدى. فخسروا الدنيا بخسران تجارتهم، وخسروا الآخرة بخسران هدايتهم وذلك هو الخسران المبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *