العدد 290 -

العدد 290 – السنة الخامسة والعشرون – ربيع الأول 1432هـ، الموافق شباط 2011م

تونس بداية الغيث

تونس بداية الغيث

 

جواد عبد المحسن هشلمون

روى النسائي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره» وهذا التشبيه له واقع متجدد نراه ونسمعه ونعيشه، وهو أن خيرية هذه الأمة لا تنفصل عنها ولا تنعدم، وهذا الأمر يرجع لكون عقيدة هذه الأمة هي الدافع المحرك والبوصلة الموجهة لهذه الحركة، بغض النظر عن أي اعتبار آخر قوةً كان أم ضعفاً، وهذه الخاصية هي التي حولت عبد الله بن مسعود الذي كانت تذرو الرياح ساقيه إلى رجل تكون قدماه عند الله أثبت من جبل أحد، ويقول له جبار الجاهلية «لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقاً صعباً»، أبو جهل قالها له وهو يذبح في بدر .

لقد كان تميز أول الأمة بعقيدتها الدافعة، وكذلك الأمر بالنسبة للخلف، فقد تميزوا عن غيرهم من الأمم بهذه العقيدة، ولم يكن أمر السلف فلتة من فلتات التاريخ حين اجتاحوا الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام وفارس، وقضوا على إمبرطوريتي  فارس والروم بأقل من عشرين عاماً، فلا يقولن قائل إن هذه الفلتة لن تتكرر، وإن المسلمين اليوم لن يستطيعوا بناء ما انهدم.

إن وجود الدافع الدائم ميزة لهذه العقيدة وليس أمراً منفصلاً عنها يخضع للظروف والأحوال أو المواقف، بل هو أسها ولا تكون إلا به، بعكس غيرها من العقائد أو الدعوات أو الأفكار، فإنها إن ملكت دافعاً فإنه يكون دافعاً آنياً يخضع للظروف والأحوال والرجال، ومثال ذلك الدافع الذي جعل التتار يجتاحون العالم حتى وصلوا إلى تخوم مصر، ثم ما لبثوا حين قتل قائدهم ومات ملكهم إن سكنت ريحهم وفتّ في عضدهم .

إن وجود الدافع الدائم قد يبرز في أحيان ويكمن في أخرى، والعلاقة وثيقة بين وجوده وكمونه أو عدم ظهوره، فلا يظنن ظان أن عدم ظهوره هو انعدامه، وهذا ما حاول الكافر بكل ما أوتي من قوة وعسكر وتضليل وأذناب  وأشباه علماء أن يفعله، حين أراد أن يفصل العقيدة الإسلامية عما تتميز به من كونها الدافع الدائم، فهذه المحاولة البائسة لتحويل عقيدة الإسلام من عقيدة دافعة للعمل إلى عقيدة روحية وسلخ دافعها عنها لتصير كالنصرانية او البوذية قد فشلت وبان عوارها، رغم كل أشكال الطمس وطول التغريب والتضليل، وسلخ المسلمين عن الإسلام، واستبدال اللغة الفرنسية والإنجليزية بلغة القرآن، ومنعهم من الصلاة في المساجد إلا ببطاقات ممغنطة وتصاريح.

لقد كان توحد المشاعر والأحاسيس النابع من العقيدة عند المسلمين هو أحد أركان مكامن القوة الدافعة لهذه العقيدة، وقد برز هذا الأمر جلياً في كل قضية وظرف تمر به الأمة الإسلامية، أو يقع على قطر من أقطار المسلمين، ومتى يقع هذا الظرف تظهر هذه الطاقة الكامنة بالقوة النابعة من فهم هذه العقيدة، إذ إنه كلما فهم المسلمون الإسلام كان هذا الظهور أقوى وأبلغ، ومثاله حريق المسجد الأقصى فلقد حسبت (إسرائيل) ألف حساب وحساب لردة فعل المسلمين، ومع الأسف مر هذا الأمر مروراً عبر عن ضعف فهم المسلمين لإسلامهم وعدم تفاعل هذه العقيدة معهم التفاعل الواجب أو المأمول.

إن الأمة الإسلامية التي تحمل هذه العقيدة واجب عليها أن تدرك وتعي ما تملك من قوة مؤثرة وفاعلة، فكما أنه لا يجوز للمسلم أن يحقر نفسه فكذلك الأمة، وإن قدرتها على التغيير قوة لا تقهر لا من قبل حاكم أو فرعون ولا من نظام مستبد، وإن المعس الذي عانته منذ سقوط دولة الخلافة ما هو إلا مرحلة في سيرها نحو النهضة الفكرية المنشودة، فالمهر غال والعروس الجنة، وكذلك مرحلة الاستعمار والاستقلال وما نتج عنهما من الدمار والخراب على كل الصعد، فلم تزدد الأمة إلا صلابة وتمسكاً بعقيدتها لبناء دولتها، بعكس الأمم الأخرى التي سرعان ما كفرت وتنكرت لمبادئها وعقيدتها بين عشية وضحاها، وأصبحت أثراً بعد عين في غضون ساعات.

إن تتالي الطرْق على رأس الأمة قد أيقظ فيها مكنونات هذه العقيدة، وأوجد التفكير السياسي عندها، ما جعلها تتنبه لأسباب ولواقع ما هي فيه من فقر وعوز وبطالة وتأخر وتضييق، ولقد كان للوعي المتنامي على فهم الإسلام عندها في استقبال الأحداث والتعاطي معها وتتبع الأخبار الأثر الأبرز في معرفة العدو الحقيقي لهذه الأمة، فلا تريد الأمة تغيير أشخاص أو استبدال طاغية بطاغية، بل تريد أن تغير هذه الأنظمة لتعود إلى حكم الإسلام، وإنها قادرة على الفعل والتغيير، وأصبح شعارها “موت في طلب عز خير من حياة في ذل”، فلم يكن التعاطي مع نكسة سنة 1967م أو اجتياح لبنان سنة 1982م كالتعاطي مع اجتياح العراق والحرب على أفغانستان وحرب تموز 2006م أو اجتياح غزة وصور أشلاء الأطفال التي رأتها الأمة وسماعها أصوات الاستغاثة، فالاختلاف بيّن ظاهر، فلقد حقنت الأمة بالغيظ المتفجر من تتبعها وعيشها في هذا الواقع، ومن رد فعل الأنظمة العربية على ما يفعله الكافر فيها، ومثال ذلك حين أقدمت (إسرائيل) على اجتياح الضفة وما قوبل به هذا الاجتياح من رد (مزلزل) بمبادرة السلام العربية، فأوجدت هذه الزلازل المتلاحقةُ الرأي العام بأن الكافر وأعوانه هم العدو الحقيقي، وعن هذا الأمر يقول الشيخ المؤسس رحمه الله في كتاب التفكير ص 163 ما نصه «ومتى وجد هذا التتبع وجد التفكير السياسي، إلا أن هذا التتبع لا يصح أن يكون منقطعاً، بل يجب أن يكون متصلاً، لأن الحوادث والوقائع الجارية، تشكل حلقة مترابطة الأطراف، فإذا فقدت حلقة منها انقطعت السلسلة، أي انفكت الحلقة، ويصبح في غير مقدور الشخص أن يربط الأخبار وأن يفهمها، ولذلك كان بقاء الحلقة حلقة أمراً ضرورياً في التفكير السياسي، أي إن التتبع المتصل شرط أساسي في التفكير السياسي.

والتفكير السياسي ليس خاصاً بالأفراد، بل هو كما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، أي يكون في الشعوب والأمم، فهو ليس كالتفكير الأدبي، ولا كالتفكير التشريعي، أنما يتحقق بالأفراد فحسب، ولا يتأتى أن يكون في الجماعات فهو فردي، بل التفكير السياسي تفكير فردي وتفكير جماعي، وكما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، فيكون في الشعوب والأمم كما يكون في الأفراد من حكام وسياسيين، بل إنه لا يكفي أن يكون في الأفراد، بل يجب أن  يكون في الشعوب والأمم، وبدون وجوده في الشعوب والأمم لا يوجد الحكم الصالح ولا يتأتى وجود النهضة، ولا تصلح الشعوب والأمم لحمل الرسالات، ومن هنا كان لا بد أن يوجد التفكير السياسي في الشعب والأمة، ذلك أن الحكم إنما هو للشعب أو الأمة، وكامن في الشعب والأمة، ولا تستطيع قوة أن تأخذه إلا إذا أعطاه الشعب والأمة، وإذا حصل اغتصابه منها، فإنه إنما يغتصب لفترة، فإما أن تعطيه فيستمر، أو تصر على استرجاعه فيطاح بالحكم. وما دام الحكم هو للشعب والأمة، أو كامن فيها، فانه لا بد لهذا الشعب وهذه الأمة من أن يكون لديه أو لديها التفكير السياسي؛ ولذلك فان التفكير السياسي هو ضروري للأمة قبل الحكم، وضروري لاستقامة الحكم أكثر من ضرورته لإيجاد الحكم، ومن هنا كان لا بد أن تثقف الأمة أو الشعب ثقافة سياسية وأن يكون لديها التفكير السياسي» انتهى.

لقد أصحبت طريقة الكافر لنشر مبدئه بعد أن تمتع بخيرات مستعمراته غاية، وأصبح يزداد نهماً يوماً بعد يوم، ويرفع سقف إملاءاته مع اكتشاف كل خير من بترول وغيره، وكثر ضغطه على موظفيه من حكام فازدادوا ظلماً لشعوبهم وطمعاً وتنكيلاً ومحاربة للإسلام تحت شعارات أملاها السيد عليهم، فقتلوا وحبسوا وأفقروا العباد وسرقوا خيارات البلاد، حتى حصل الافتراق بين نظام الحكم وبين الأمة، وأصبح الغاشم هو الصورة النمطية المستنسخة في كل بلاد المسلمين، فلا فرق بين قطر وقطر، ولا بين ظالم وظالم، وغدا الغاشم عدو الأمة الأول، كما أمست الأمة هي عدو الغاشم الأول، فحصلت المفاصلة بينهما، فكانت أية مشاركة له في الحكم من أية جهة إطالة لعمره، وترقيعاً لنظامه، والدخول معه في البرلمان هو إضفاء شرعية لحكمه، بغض النظر عن الشعارات البراقة مثل التداول السلمي للسلطة أو الممارسة الديمقراطية، فإن اتفاقية وادي عربة مثلاً قد مرت بالأغلبية، والمعارضة شريكة في هذا الأمر شاءت أم أبت.

إن المتتبع للأحداث في تونس وتسلسل وقوعها ليرى ويدرك أن ما حصل في تونس قد كان مرشحاً للحدوث فيها وفي غيرها بنفس القدر، إذ إن الإفقار والتجويع والإذلال إنما هي عوامل تجعل أي إنسان  يثور على هذا الوضع ليغيره، فكيف يكون هذا الأمر عند خير أمة أخرجت للناس؟ فكان هذا الاحتقان عند  الأمة الإسلامية المستند لوعيها السياسي من مشرقها إلى مغربها هو هو، وان الحرارة عند الأمة في كل مكان هي نفس الحرارة، وإن الشوق للإسلام هو نفسه في كل قطر، و لكن تونس هي التي علقت الجرس إيذاناً بكسر حاجز الخوف من الغاشم فكسرته، فالشجاعة هي مواجهة الخوف وليس الهرب منه، فانحاز الجيش للأمة لأنها المعول عليها؛ فلم يطلق النار عليها لأنه سندها الطبيعي، فارتد الخوف على الغاشم، وانعكس ما يحدث في المغرب على المشرق وسارع الغاشم مهرولاً في كل مكان محاولاً تدارك أمره، فهذا يصرف لكل مواطن ألف دينار، وهذا يصدر قراراً بزيادة دعم التدفئة، وهذا يصدر قراراً بتخفيض أسعار السلع، وهذا يوظف أبواقه الإعلامية محاولاً تجميل نفسه ليظهر بمظهر الراعي محاولاً إخفاء وجهه الحقيقي، ولكن هيهات هيهات  فالأمة اليوم واعية، فلا مكان لمتسلق أو لمستوزر أو لصائد ثورة، أو لمرتزق، فالأمة لا تسلم رايتها لجبان، فلا يستطيع الغاشم خداعها بإعادة إنتاج نفسه أو تغيير لهجته، فكل حيله مكشوفة، وأقنعته زائفة، وتباكيه على الأمة دموع تماسيح، فالغاشم يخاف ولا يستحي وكذلك سيده.

إن العالم بعد أحداث تونس ليس كالعالم قبلها، فما حدث في تونس كان مفاجئاً للكافر، ولكنه بالنسبة لنا لم يكن مفاجئاً، فإننا منذ  زمن بانتظاره بفارغ الصبر، فلقد ترسمنا خطى المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وطريقته، فسرنا عليها ثم أعدنا النظر حين أبطأ النصر، فوجدنا أننا لم نتجاوزها قيد أنملة، فأسلمنا أمرنا لربنا، فالنصر من عنده، وضاعفنا جهدنا بالعمل في الأمة حتى أنتج الوعي العام رأياً عاماً مبنياً على الفكر ولله المنة والفضل، وفي هذا الأمر يقول الشيخ المؤسس رحمه الله في كتاب التفكير ص 174 ما نصه «والتفكير أعلاه إنما يكون في الإسلام، فأدى ذلك إلى وقف التفكير لدى الناس، واستمرؤوا هذا التعطيل للتكفير، والإنسان بطبعه حيوان كسول، لذلك وقفت الأمة عن التفكير حتى هذا القرن، القرن الرابع عشر الهجري، فسلخت عشرة قرون وهي معطلة التفكير. ولذلك ليس من السهل على أمة سلخت عشرة قرون من عمرها وهي معطلة التفكير، أن يتحرر فيها التفكير، وأن تفهم عن وعي قيمة التفكير، وقيمة المفكرين؛ ولذلك فان ملايين الكتب مثل هذا الكتاب، لا تضمن أن تحرك الأمة للتفكير، وأن تسوقها لأن تجعل التفكير سجية من سجاياها، ولكن الأحداث الموجعة التي تسحق الأمة سحقاً، وتمعسها  معساً، فإنها صارت تبعث الأمل في أن يجد التفكير سبيله للأمة، لا سيما بعد أن وجد فيها جماعات تفكر، وجماعات تحاول التفكير، بعد أن تحقق فيها آلاف تجسد لديهم حب التفكير، وصاروا مفكرين لا يستمرئون غير التفكير، حتى غدوا تفكيراً يحيا ويتحرك وينمو، لذلك فإن ضخامة الأحداث وفظاعتها، وكون التفكير تجسد في أشخاص حتى غدا تفكيراً يمشي في الأسواق بين الناس، فإن هذين الأمرين: يوجدان أملاً مشرقاً، في أن ينتقل التفكير من الأفراد إلى الجماعات، وأن يصبح تفكيراً جماعياً لا تفكيراً فردياً، وأن يكون تفكير الأمة لا تفكير الأفراد، فتصبح الأمة الإسلامية أمة مفكرة، وتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس» انتهى.

إن ما حدث في تونس، وسواء أَوَصلنا إلى ما نريد أم لم نصل، فإنه نصر للفكرة، وأثبت مقولتنا بأن السند الطبيعي للحكم إنما يكمن في الأمة، والجيش سندها، وليس معاداة الجيش أو الاستقواء بالخارج، وإن طريقتنا التي استلهمناها من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القائمة على الصراع الفكري والكفاح السياسي هي التي تتغذى بها الأمة لتصل إلى التغيير الحقيقي.

والله نسأل أن يحمي فكرنا وشبابنا في كل مكان، وأن يحمي الأمة الإسلامية من كل متربص وخائن.

وصدق الله العظيم حين قال: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد 17].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *