العدد 356 - 357 -

السنة الواحدة والثلاثين رمضان وشوال 1437هـ – حزيران و تموز 2016م

سلمة بن قيس الأشجعي رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

سلمة بن قيس الأشجعي رضي الله عنه

 

قضَى الفاروقُ ليلتهُ تلكَ سَهران يَعُسُّ (يسهر في الليل للحراسة) في أحياءِ المدينةِ لينامَ الناسُ ملءَ جُفونهمُ آمنينَ مُطمئنين. وكان خلالَ تطوافهِ بين الدّور والأسواقِ يَستعرضُ في ذهنهِ الأنجادِ (أصحاب النجدة والمروءة) الأمجادَ من صَحابِة رسولِ الله لِيعقدَ لواحدٍ منهمُ الراية على الجيشِ الذاهبِ لفتح الأهوَاز ( منطقة تقع في غربي إيران ). ثم ما لبثَ أن هتفَ قائلًا: ظفرتُ به، نعَم ظفرت به، إن شاءَ الله.

ولما طلعَ عليهِ الصباحُ دعا سَلمَة بنَ قيسٍ الأشجعيِّ وقال له: إني وليتكَ على الجيشِ المتوجهِ إلى الأهوازِ، فسِر باسمِ الله، وقاتل من كفر بالله، وإذا لقيتم عدُوكم من المشركين فادعُوهم إلى الإسلام؛ فإن أسلمُوا: فإمَّا أن يختاروا البقاءَ في ديارهم ولا يشتركوا معكم في حربِ غيرِهم فليسَ عليهم إلا الزكاةُ، وليسَ لهُم في الفيءِ نصيبٌ. وإمَّا أن يَختاروا أن يُقاتلوا مَعكم فلهُم مثل الذي لكم، وعليهم مثلُ الذي عليكم.

فإن أبَوا الإسلامَ فادعُوهم إلى إعطاءِ الجزيةِ ودَعوهم وشأنهُم، واحمُوهم من عدوِّهم، ولا تكلّفوهم فوقَ ما يُطيقون. فإن أبَوا فقاتلوهُم؛ فإن الله ناصرُكم عليهم. وإذا تَحصنُوا بحصنٍ، ثم طلبوا منكم أن ينزِلوا على حُكم الله ورسوله فلا تقبلوا مِنهم ذلك؛ فإنكم لا تدرُون ما حُكم الله ورسوله. وإذا طلبُوا منكم أن ينزلوا على ذِمَّة الله ورسُولهِ فلا تعطوهُم ذمة الله ورسوله، وإنّما أعطوهم ذِممكم أنتم، فإذا ظفرتم في القتالِ فلا تسرِفوا، ولا تغدُرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. فقال سلمَة: سمعًا وطاعةً يا أميرَ المؤمنين. فودَّعه عمرُ بحرارةٍ، وشدَّ على يديه بقوةٍ، ودعا له بضراعةٍ. فلقد كان يُقدّر ضخامَة المهمةِ التي ألقاها على عاتقهِ وعاتِق جنودِه؛ ذلك لأن الأهواز مِنطقة جبلية وعرةُ المسالِك، حصينة المعاقل، واقعة بينَ البصرةِ وتخوم فارس، يسكنها قومٌ أشداءُ من الأكرادِ. ولم يَكن للمسلمين بُدٌ من فتِحها أو السيطرةِ عليها لِيحمُوا ظهورهم من هجماتِ الفُرس على البصرةِ، ويمنعوهم من اتخاذها ميدانًا لجنودهم فتتعرّض سلامَة العراقِ وأمنهُ للخطرِ.

مضى سَلمة بنُ قيسٍ على رأس جيشِه الغازي في سبيل الله؛ غير أنهم ما كادوا يَتوغلون قليلاً في أرضِ الأهواز حتى دخلوا في صراعٍ مريرٍ مع طبيعتها القاسيةِ؛ فقد طفقَ الجيشُ يُعاني من جبالها النخِرة وهو مُصعِدٌ (صاعد) ويكابدٌ من مٌستنقعاتها الموبُوءة وهو مُسهلٌ (سائرٌ في السهل). ويُصارع أفاعيها القاتِلة وعقارِبها السامة يقظانَ نائمًا. لكنَّ رُوح سَلمة بنِ قيسٍ المؤمنة الشفافة كانت ترفرفُ بأجنحتها فوقَ جندهِ؛ فإذا العذابُ عَذبٌ وإذا الحزنُ سهلٌ. فلقد كان يتخولهُم بالموعظةِ (يتعهدهم بالموعظة حينًا بعد حين) التي تهُز نفوسهُم هزًّا، ويُترعُ (يملأ) لياليهم بأرجِ القرآنِ (عطر القرآن وشذاه) فإذا هم مغمورون بضيائهِ، سابحون في لألائِه، ناسون ما مسَّهم من عناءٍ ونصبٍ. امتثلَ سلمة بن قيسٍ لأمرِ خليفة المسلمين، فما إن التقى بأهلِ الأهوازِ حتى عرضَ عليهم الدُّخول في دين الله، فأعرضوا ونفروا، فدعاهُم إلى إعطاءِ الجزية فأبوا واستكبرُوا، فلم يبقَ أمامَ المسلمين غيرُ ركوبِ الأسنةِ     ( كناية عن الحرب)، فركبُوها مُجاهدينَ في سبيلِ الله، راغِبين بما عِنده من حُسنِ الثوابِ.

دارتِ المعاركُ حامية اللّظى مُستطيرة الشَّررِ، وأبدى فيها الفريقانِ من ضرُوب البسالةِ ما لم تَشهد لهُ الحروبُ نظيرًا إلا في القليل النادر. ثم ما لبِثت أن انجلتِ المعاركُ عن نصرٍ مؤزرٍ للمؤمنين المجاهدين لإعلاء كلمة الله، وهَزيمةٍ منكرةٍ للمشركين أعداءِ الله. ولما وضعتِ الحربُ أوزارها بادَرَ سلمة بن قيسٍ إلى قِسمةِ الغنائم بين جنوده، فوجد فيها حلية نفيسة، فأحبَّ أن يُتحف بها أميرَ المؤمنين (يقدم له ما يجده بديعًا طريفًا) ؛ فقال لجنوده: إنَّ هذه الحِلية لو قسمتْ بينكم لما فعَلت معكم شيئًا، فهل تطيب أنفسُكم إذا بعثنا بها إلى أميرِ المؤمنين؟، فقالوا: نعم. فجعلَ الحلية في سفَطٍ (صندوق صغير)، وندبَ رجلًا من قومه بني أشجعَ وقال له: امِضِ إلى المدينةِ أنت وغلامُك، وبشرْ أميرَ المؤمنين بالفتح، وأطرِفه (أتحفه) بهذه الحِلية. فكان للرجل الأشجعيِّ مع عمر بن الخطابِ خبرٌ فيه عبرٌ وعظاتٌ. فلنتركِ الكلام له ليرويَ لنا خبره بنفسه:

قال الرجلُ الأشجعي: مضيتُ أنا وغلامي إلى البصرةِ فاشترينا راحِلتين مما أعطانا سلمة بن قيس، وأوقرناهما زادًا (حملناهما طعامًا وغيره مما يتزود به المسافر)، ثم يممنا وجهينا شطرَ المدينةِ (وجهنا وجهينا جهة المدينة) ، فلما بلغناها؛ نشدتُ أميرَ المؤمنين (طلبته وبحثت عنه) فوجدته واقفًا يُغدي المسلمين وهو مُتكئ على عصاه كما يصنعُ الرّاعي. وكان يدور على القِصاع وهو يقول لِغُلامه يرفأ: يا يرفأ زِد هؤلاء لحماً… يا يرفأ زِد هؤلاء خبزاَ… يا يرفأ زد هؤلاء مرقاَ… فلما أقبلتُ عليه قال: اِجلس، فجلستُ في أدنى الناسِ وقدمَ لي الطعام فأكلتُ. فلما فرَغ الناسُ من طعامهم قال: يا يرفأ ارفعْ قِصاعكَ، ثم مضى فتبعتهُ. فلمَّا دخلَ داره استأذنتُ عليهِ فأذنَ لي، فإذا هو جالسٌ على رقعةٍ من شعرٍ، متكئٌ على وسادتين من جلدٍ محشوتينِ ليفًا، فطرحَ لي إحداهُما فجلستُ عليها. وإذا خلفهُ سترٌ فالتفتَ نحو السِّتر وقال: يا أمَّ كلثوم غداءَنا (أي أعطنا غداءنا) فقلتُ في نفسي: ماذا عسى أن يكونَ طعامُ أميرِ المؤمنين الذي خَصّ به نفسه؟! فناولتهُ خُبزةً بزيتٍ عليها ملحٌ لم يدقَّ. فالتفتَ إلي وقال: كلْ، فامتثلتُ وأكلتُ قليلًا. وأكلَ هو، فما رأيتُ أحدًا أحسن منه أكلًا.

ثم قال: اسقونا فجاؤوهُ بقدح فيه شرابٌ من سويقِ الشعيرِ (نقيع الشعير) فقال: أعطوا الرجل أولًا؛ فأعطوني.

فأخذتُ القدح وشربت منه قليلًا؛ إذ كان سويقي أطيبَ منهُ وأجودَ. ثمَّ أخذهُ فشربَ منهُ حتى روي ثم قال: الحمدُ لله الذي أطعمنا فأشبعنا وسقانَا فأروانا.

عند ذلك التفتُّ إليه وقلتُ: جئتك برسالةٍ يا أمير المؤمنين، فقال: من أين؟ فقلت: من عندِ سلمة بنِ قيسٍ.

فقال: مرحباَ بسلمة بنِ قيسٍ، ومرحباً برسوله. حدِّثني عن جيشِ المسلمين، فقلت: كما تحبُّ يا أميرَ المؤمنين… السلامَة، والظفرُ على عدوِّهم وعدو الله. وبشَّرتهُ بالنصرِ، وأخبرته خبرَ الجيش جُملة وتفصيلًا.

فقال: الحمد لله، أعطى فتفضَّل، وأنعَم فأجزلَ (أكثر). ثم قال: هل مررتَ بالبصرةِ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: كيف المسلمون؟ فقلت: بخيرٍ من الله. فقال: كيف الأسعارُ؟ فقلت: أسعارُهم أرخصُ أسعارٍ. فقال: وكيف اللحمُ؟ فإنّ اللحمَ شجرة العربِ، ولا تصلحُ العربُ إلا بشجرتها. فقلت: اللحمُ كثيرٌ وفيرٌ. فالتفت إلى السَّفطِ الذي معي، وقال: ما هذا الذي بيدك؟! فقلت: لما نصرَنا الله على عدِّونا جمعنا الغنائِم فرأى سَلمَة فيها حلية، فقال للجُنود: إن هذه لو قسِمت عليكم لما بَلغتْ منكم شيئًا… فهل تطيبُ نفوسُكم إذا بعثتُ بها لأمير المؤمنين؟ فقالوا: نعم. ثم دفعتُ إليه بالسفطِ؛ فلما فتحه ونظرَ إلى الفصُوصِ  (الأحجار الكريمة التي توضع في الحلي) التي فيه من بين أحمرَ وأصفرَ وأخضرَ وثبَ من مجلسه، وجعلَ يده في خاصرتِه، وألقى بالسَّفط على الأرضِ فانتثر ما فيه ذاتَ اليمين وذات الشمالِ. فظن النساء أني أريدُ اغتيالهُ، فأقبلنَ نحو السِّترِ، ثم التفتَ إليَّ وقال: اجمعْه. وقال لغُلامه يرفأ: اضربه وأوجعه. فجعلتُ أجمعُ ما انتثرَ من السفطِ، ويرفأ يضربُني. ثم قال: قمْ غيرَ محمُودٍ لا أنت ولا صاحبُك. فقلت: إئذنْ لي بمركبٍ يحملني أنا وغُلامي إلى الأهوازِ، فقد أخذ غلامُك راحلتي. فقال: يا يَرفأ أعطهِ راحلتين مِن إبل الصدقة له ولِغلامه.

ثم قال لي: إذا قضيتَ حاجتك مِنهما، ووجدتَ من هو أحوجُ لهما منك فادفعهما إليه. قلت: أفعلُ يا أميرَ المؤمنين، نعم أفعلُ إن شاءَ الله. ثم التفت إليَّ وقال: أمَا والله لئِن تفرَّقَ الجُندُ قبلَ أن يقسمَ فيهم هذا الحُليُّ لأفعلنَّ بك وبصاحبك الفاقرَة (الداهية الشديدة كأنها تكسر فقار الظهر). فمضيتُ من توِّي حتى أتيتُ سَلمة وقلت: ما بارَك الله لي فيما اختصصتني به. اِقسم هذا الحُليَّ في الجُند قبل أنْ تحلَ بي وبكَ داهيةٌ (مصيبة). وأخبرتِهِ الخبر.

 فما غادَرَ مجلسَه إلا بعدَ أنْ قسمهُ فيهم.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *