العدد 356 - 357 -

السنة الواحدة والثلاثين رمضان وشوال 1437هـ – حزيران و تموز 2016م

سياسة دولة أم خطأ استفتاء ديمقراطي!

خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي

سياسة دولة أم خطأ استفتاء ديمقراطي!

حسن الحسن

hasan.alhasan@gmail.com

 شكلت نتيجة استفتاء الشعب البريطاني لصالح الانفصال عن أوروبا صدمة لدى كثيرين، لا سيما بعد أن تعهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لزعماء أوروبا بدعوة الناخبين للتصويت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي؛ وذلك بعد أن تمت الموافقة على مطالبه المقترحة بشأن الإصلاحات في نظام الاتحاد، إضافة إلى منح بريطانيا بعض الامتيازات والاستثناءات لضمان استمرارها فيه. وقد أعلن كاميرون عزمه الاستقالة من منصبه إثر إعلان النتيجة على اعتبار أنه فشل في إقناع شعبه بذلك، وأوكل مهمة التفاوض بشأن تفاصيل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لرئيس وزراء جديد.

لقد أثارت نتيجة الاستفتاء جدلًا واسعًا حول ما جرى، وأخذ كثيرون يتساءلون: هل تفاجأ كاميرون وأركان حكومته حقًا بنتيجة الاستفتاء، أم أنهم قاموا بدورهم على أتم وجه في فصل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي؟. ورغم ما يبدو عليه السؤال من أهمية، إلا أن الاقتصار عليه وجعله محور الحديث قد يصرف النظر عن جوهر الحدث ودلالته التي ينبغي الوقوف عليها. حيث يجب أن ينصب الاهتمام على فهم موقف بريطانيا الحقيقي من الاتحاد الأوروبي وعن معنى بقائها فيه أو خروجها منه، إذ إن معالجة هذا الموضوع هو الأساس، والإجابة عليه تساعدنا أكثر في تسليط الضوء على ما ينبغي فهمه وإدراكه.

ولعل خير من يجيب حول تصور بريطانيا لعلاقتها بالاتحاد الأوروبي هو ديفيد كاميرون نفسه، فقد ألقى في مؤتمر دافوس في سويسرا كلمة (٢١-يناير-٢٠١٦م) وضع فيها النقاط على الحروف في هذا الموضوع بالذات، مؤكدًا على أن لدى حكومته مهامًا محددة تعمل على إتمامها، منها تحسين وضع الشعب البريطاني في المجال الاقتصادي والاستمرار في تحفيز معدلات النمو، إضافة -وهذا هو الأهم- إلى وجود تفويض لدى حكومته لحسم مسألة وضع بريطانيا في أوروبا.

وقد اشتملت كلمة كاميرون على نقاط مترابطة تعبر عن سياسة واضحة محددة المعالم شرح فيها واقع بريطانيا ونظرتها إلى أوروبا ودورها في هذا العالم، قدم خلالها مجموعة من الشواهد التي تعزز في خلاصتها جميعًا فكرة واحدة هي: إن بريطانيا دولة كبرى متميزة وصاحبة سيادة، وإنها لا يمكن أن تقبل بالتخلي عن عملتها واستبداله باليورو (العملة النقدية الأوروبية الموحدة) فضلًا عن رفضها البت بالاندماج فيه كوحدة سياسية. كذلك أوضح كاميرون بشكل صريح بأن بقاء بريطانيا في الاتحاد رهن بمدى خدمة ذلك لمصالح بريطانيا وتطلعاتها وسياساتها، وأنها تتطلع إلى نجاح تكتل دول اليورو وبناء علاقات مميزة معها تخدم الطرفين. وقد أكد كاميرون هذه الأمور بشكل مفصل على النحو التالي:

– إن بريطانيا ليست مع خيار الاندماج في أوروبا ذات العملة النقدية الواحدة، وإنها لا ترغب في الانضمام إلى منطقة اليورو أبدًا، مضيفًا: يجب أن نكون صريحين حول ذلك، أريد لمنطقة اليورو أن تنجح، فهي أكبر شريك تجاري لدينا. ولا أريد أن تقف بريطانيا عائقًا في الطريق لإتمام الأشياء التي تحتاج أوروبا القيام بها لجعل منطقة اليورو أكثر نجاحًا. في الواقع، أود أن أشجع أعضاء منطقة اليورو لاتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك النجاح. ولكن في الجملة، ما نحتاجه هو منظمة مرنة بما فيه الكفاية، بحيث يمكن أن يكون النجاح إذا كنت في اليورو أو خارجه قائمًا على قواعد عادلة بين الفريقين. وأشار كاميرون إلى أن بقاء بريطانيا خارج منطقة اليورو يعفيها من تحمل تبعة أية أزمات يمكن أن تتعرض لها هذه المنطقة على نحو ما حصل في أزمة اليونان مثلًا.

– إن بريطانيا غير مرتاحة للانخراط في اتحاد أوروبي لديه مؤسسات سياسية موحدة، فالشعب البريطاني لديه هواجس دائمة حول السيادة، وطالما أن لدى أوروبا توجهًا نحو بناء اتحاد سياسي فإن هذا الاتحاد سيكون غير مناسب البتة لبريطانيا. ولفت كاميرون النظر إلى أن بريطانيا – عوضًا عن الدخول في أطر سياسية موحدة- لديها أتم الاستعداد للتعاون في المسائل الاقتصادية والمناخية والأمنية والسياسة الخارجية، على نحو الاتفاقية الاقتصادية التي عقدتها بريطانيا مع كوريا الجنوبية واستفادت منها الدول الأوروبية، إضافة إلى العقوبات الأوروبية تجاه روسيا التي تزعمتها بريطانيا.

– إن بريطانيا هي خامس أكبر اقتصاد في العالم. وأن لديها كمية كبيرة من المواهب والموارد والإمكانيات والشخصيات المتميزة، وهي عضو فعال في العديد من المنظمات الهامة في هذا العالم، معتبرًا أن السؤال المطروح حول ما إذا كانت بريطانيا قادرة على النجاح خارج الاتحاد الأوروبي هو خطأ ومغالطة، وأن الأسئلة الصحيحة هي: كيف سنكون أكثر نجاحًا سوية؟ كيف سنكون الأكثر ازدهارًا؟ كيف نخلق الوظائف؟ كيف نمكن أكبر عدد من سبل العيش في بلادنا؟ وكيف نحافظ على بلدنا أكثر أمنًا؟ تلك هي الأسئلة الحيوية، بالنسبة لحكومة كاميرون.

– إن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي هي مختلفة بالفعل عن العديد من البلاد الأخرى، لأسباب هامة، متعلقة بالتاريخ والسياسة والنهج الذي تتبعه في قضايا معينة. والأفضل لنا أن نكون في سوق واحدة، والاستفادة من ذلك بالقدرة على السفر والانتقال في جميع أنحاء أوروبا، مع الحفاظ على حدودنا ومن غير عملة موحدة. إن هذا أفضل لكل من بريطانيا وأوروبا. لأننا سوف نكون جزءًا من منظمة تحقق فوائد لها وفوائد لنا، فنحن لن نكون جزءًا من اتحاد أوثق. ونود أن يكون الأمر واضحًا تمامًا، بالنسبة لنا، إننا نريد أن نتعامل مع أوروبا للتعاون والعمل معًا من أجل المنفعة المتبادلة بيننا، هكذا نريدها، ولن تكون أبدًا وحدة سياسية.

إن المدقق في كلمة كاميرون يجد أن سياسته هي وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي كعضو في سوق أوروبي لا اندماج فيه، وبلا وحدة نقدية أو اقتصادية أو سياسية! ما يعني أن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي سيكون عمليًا شبيها جدًا بوضعها خارجه، لأن رؤية بريطانيا للاتحاد الأوروبي مختلفة تمامًا عما هو سائر فيه من أسس وتوجهات وقوانين حاكمة تفوق بسيادتها قوانين أي دولة منضوية فيه.

في هذا الإطار نجد أن انطلاق قطار انفصال بريطانيا عن أوروبا جراء الاستفتاء هو أكثر انسجامًا مع تصورات الدولة البريطانية لعلاقتها مع الاتحاد وليس نقيضًا له. بل إن جملة الإجراءات التي اتخذتها حكومة كاميرون تثير الريبة حول جديتها في البقاء جزءًا من الاتحاد الأوروبي، نذكر منها:

أولًا: لقد أخذ كاميرون قراره بإجراء الاستفتاء في وقت غير مناسب البتة. حيث وصل امتعاض شريحة واسعة من الشعب البريطاني ذروته من البقاء في الاتحاد بسبب موجات الهجرة الكثيفة غير المرغوب فيها من دول شرق أوروبا كبولندا ورومانيا وهنغاريا وغيرها، ما تسبب بموجة غلاء مرعبة في كراء المنازل وشرائها مع قلة في المعروض وازدياد كبير في الطلب، إضافة إلى ازدحام غير مسبوق على استعمال الخدمات العامة المتعلقة بالصحة والتعليم والمواصلات، إلى جانب تنافس ملحوظ في سوق العمل، حيث أصبحت المنافسة شديدة على مختلف الوظائف لا سيما الدنيا منها والوسطى. وقد أشارت الإحصاءات التي جرت قبيل الاستفتاء إلى تقارب كبير بين نسب المصوتين لصالح الخروج والمؤيدين للبقاء، ما يعني أن الخروج كان احتمالًا واردًا لا يمكن إغفاله، بالتالي كان يمكن للحكومة البريطانية أن تؤجل الاستفتاء إلى وقت لاحق تكون قد هيأت فيه الأجواء لصالح البقاء، لكنها لم تفعل.

ثانيًا: كانت حملة كاميرون للبقاء في الاتحاد الأوروبي باهتة بشكل ملحوظ، وقد أهملت حكومته استثمار بعض الأحداث المهمة لقلب الرأي العام البريطاني لصالح البقاء، كاغتيال النائبة جو كوكس المؤيدة للبقاء من قبل قومي متعصب من دعاة الانفصال وهو يصرخ «بريطانيا أولًا» قبيل فترة قصيرة جدًا من موعد الاستفتاء. لكن الحدث مر بشكل عابر!

ثالثًا: سارع كاميرون للاعتراف بهزيمته وعزمه إعلان استقالته والتزامه بنتيجة الاستفتاء مباشرة، رغم إمكانية الالتفاف عليها، سواء من خلال إحالة الموضوع إلى البرلمان مثلًا، أو الدعوة لإعادة إجراء الاستفتاء مرة أخرى، لا سيما في ظل توقيع أكثر من أربعة ملايين مواطن على طلب الإعادة في ظل النسبة الضئيلة (٤٪ فرق فقط) التي تم على ضوئها اتخاذ قرار الانفصال!؟

رابعًا: إن إعلان كاميرون عن قبول الاتحاد الأوروبي للإصلاحات المقترحة من بريطانيا ودعوته مواطنيه «ممارسة حقهم في اختيار مصيرهم» غير كاف البتة لإقناعهم بالبقاء في ظل الرأي العام الذي عمل على صناعته على مدار سنوات طويلة مع حكومته وحزبه الحاكم وأحزاب اليمين البريطاني في حملة محمومة ومركزة ومنظمة ودؤوبة لإقناع الناس بضرورة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي واستعادة استقلال بريطانيا والخروج من عباءة الاتحاد المليء بالمشاكل والأعباء والتحديات التي لا ناقة لبريطانيا فيها ولا جمل!.

إن ما سبق عرضه يشير إلى أن السياسة العامة لحكومة كاميرون وحزبه أصلًا هي الانفصال والاستقلال عن الاتحاد الأوروبي، سواء بشكل علني فج على نحو ما صار الأمر إليه، أم بشكل ضمني مستتر بحسب المفاوضات التي تمت بين كاميرون وزعماء الاتحاد قبيل الاستفتاء. كما كان كاميرون واضحًا بضرورة إيجاد وضع خاص لبريطانيا -على نحو أو آخر- لمنح الاتحاد فرصة لتكوين ذاته على أسس سليمة تؤدي إلى تشكيل كتلة أوروبية منسجمة مع بعضها اقتصاديًا وسياسيًا لتحقق نجاحات يصعب تصورها في ظل وجود بريطانيا فيها. الأمر الذي يفيد بريطانيا ويفيد أوروبا معًا بحسب كلام كاميرون، وهو ما تنوي بريطانيا القيام به من خلال مفاوضات جديدة مطوَّلة ومعقَّدة، تعيد تنظيم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي على أسس واضحة ومتينة، ما يظهر الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وسياسية متماسكة مع استمرار بريطانيا كدولة كبرى مستقلة عن الاتحاد وشريكة له في آن معًا!

خلاصة القول: لقد نجح كاميرون في تحصيل ما يحقق تصورات حكومته لوضع بريطانيا في الاتحاد الأوروبي فيما لو أتى الاستفتاء إيجابيًا. لكنه في الوقت ذاته، ورغم قبول الاتحاد الأوروبي بالإصلاحات المقترحة من بريطانيا وإعلان كاميرون عن توجهات جديدة لصالح البقاء في الاتحاد، إلا أنه لم يقم بأية جهود مميزة من شأنها تغيير الرأي العام، وهو الذي كان يتوقع إجراؤه -لو كان كاميرون صادقًا وجادًا- كقائد سياسي مخضرم، وكزعيم لدولة عريقة وكبرى كبريطانيا. بل إن المدقق في سياسات كاميرون يجد أنه وضع معادلة دقيقة واضحة وحاسمة لقبول البقاء في الاتحاد الأوروبي، معادلة تجعل من وضع بريطانيا في حال استمرارها في الاتحاد شبيهًا بوضعها منفصلة عنه، معتبرًا أن معطيات هذه المعادلة ومكوناتها هي وحدها التي تمثل الخيار الأفضل للطرفين. إنها معادلة تجعل من بريطانيا منفصلة عن الاتحاد الأوروبي عمليًا حتى لو بقيت عضوًا فيه، وتجعل بريطانيا شريكًا كاملًا للاتحاد الأوروبي بصفة مستقلة، تؤثر فيه وتستفيد منه كما لو أنها عضو كامل فاعل فيه من غير أن تتحمل أيًّا من أعبائه ومشاكله.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *