العدد 356 - 357 -

السنة الواحدة والثلاثين رمضان وشوال 1437هـ – حزيران و تموز 2016م

بدء سقوط اتفاقية سايكس – بيكو بعد مئة عام فلا تدعوا الغرب يقيم لكم اتفاقية أخرى لمئة عام أخرى

بسم الله الرحمن الرحيم

بدء سقوط اتفاقية سايكس – بيكو بعد مئة عام

فلا تدعوا الغرب يقيم لكم اتفاقية أخرى لمئة عام أخرى

أبو محمد الحكيم – الشام – حمص

مما لا شك فيه لكل ذي بصيرة بالشأن السياسي أن الأمم إنما تقوم وتنهض بالمبادئ، والمبدأ هو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام. وتظهر الأمم ويصبح لها شأن على مسرح الأحداث الدولية بتمسكها بمبدئها وحسن تطبيقها له، وتغيب الدول كدول فاعلة إذا تخلت عن سبب نهضتها الذي هو المبدأ أو جزء منه،  فالمبادئ من طبيعتها لا تقبل الزيادة من غيرها أو الانتقاص منها. فانهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يطبق المبدأ الاشتراكي أعلن رسميًا في بداية التسعينات من القرن الماضي، ولكن هذا الانهيار بدأ فعليًا مع بداية ستينات ذلك القرن وتحديدًا بعد قمة خروتشوف كندي عندما تخلي الاتحاد السوفياتي عن حجر الزاوية في مبدئه، وهو حتمية الصراع مع الرأسمالية وظهور الشيوعية عليها بقبوله بمبدأ التعايش السلمي مع عدوه، وهذا كان بمثابة قاصمة الظهر للاتحاد السوفياتي، ومن ثم تسارع الانهيار ببعض الأعمال المادية التي أنهكته اقتصاديًا، كالحرب في أفغانستان ومشروع حرب النجوم.

أما بالنسبة للدولة العثمانية، فإنه بالرغم مما يكال لخلافة بني عثمان من مديح، وهم في كثير من الأحيان أهل لذلك، كيف لا ومنهم فاتح القسطنطينية الذي أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جيشه، وبالرغم من امتلاكها لقوة عسكرية هائلة؛ إلا أن هذه القوة العسكرية لم توازِها قوة فكرية تعدلها كالقوة الفكرية التي رافقت الانتشار الأول للإسلام، وهذا ما أدى إلى أن تصاب هذه الدولة بالضعف الفكري، وقد تَوَّج خلفاء بني عثمان هذا الضعف بتحييد الجهاد عن علاقة الدولة العثمانية بغيرها من الدول مقابل دخول الدولة العثمانية إلى ما يسمى المجموعة الدولية، والتي كانت عند تأسيسها تحمل اسم مجموعة الدول النصرانية، والتي وجدت أصلًا عام 1648م للوقوف في وجه تمدد الدولة العثمانية (معاهدة وست فاليا). نعم لم تدرك الدولة العثمانية فداحة الأمر، وأن في هذا التحييد هدمًا لذروة سنام الإسلام، وتخليًا عن الطريقة الشرعية لنشر مبدأ الإسلام دين الله الخاتم بين الأمم. بعد ذلك اطمأنت الدول الأوروبية إلى أن الدولة العثمانية لم تعد تهاجمها، ومن ثم أدركت أن هدم دولة الخلافة لا يكون وهي تحمل فكرة إسلامية واحدة ويحكمها رجل واحد؛ من هنا بدأت العمل على تفكيك الخلافة العثمانية ووصلت في النهاية إلى إزالتها كليًا من الوجود،

 هذه المقدمة كان لابد منها لإدراك طبيعة الدول وكيفية ظهورها وغيابها عن المسرح الدولي، وهنا لا بد من ذكر أمرين:

 الأمر الأول، (وهو الأهم)، نشر فكرة تدب من جرائها الخلافات بين مكونات الدولة الواحدة بدل فكرة التوحيد التي جمعت العرب والعجم وكل القوميات تحت راية التوحيد ، فعملت على نشر الفكرة القومية…

الأمر الثاني: فصل أجزاء من الدولة الأم بالقوة، ويذكر أن أول من تكلم بمثل هذه الخطة هو الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت؛ حيث جمع ذات مرة قادة جيشه حول سجادة ووضع في منتصفها قبعة وطلب منهم أن يمسكوا بالقبعة دون أن يدوسوا السجادة، وقد قدم هؤلاء القادة حلولًا تعتمد كلها على أدوات لأجل الوصول إلى القبعة، لم يقبل بها وقال أريدها باليد، وعندها قام بطي السجادة وتناول القبعة بيده، وقال إن القبعة هي الخلافة، وهذه السجادة هي الرقعة التي تحكمها، فإذا أردنا هدم الخلافة فلا بد من قضم أراضيها قطعة قطعة…

 أما بالنسبة إلى الأمر الأول، فكان من جراء انتشار الفكرة القومية الخبيثة أن فصلت الدول الغربية منطقة البلقان عن جسم الدولة العثمانية. وبعد ذلك، قامت هذه الدول العدوة للإسلام والمسلمين، وعلى رأسها إنكلترا، بالعمل على فصل الترك عن العرب بنفس الإسفين، فزرعت عند الأتراك فكرة القومية الطورانية، وعند العرب بذور القومية العربية، وأخذت تغذي تلك الفكرة وتبرز عددًا من رجالها العملاء الفكريين والسياسيين، وكان لمركز بيروت والنصارى فيه الذين أسسوا الجمعيات التابعة لها الأثر الأكبر في زرع هذه الفكرة النتنة، وأظهرت بريطانيا حرصًا شديدًا مدعية نفاقًا أنها تعمل على إعادة الخلافة للعرب، مستغلة بعض المغفلين سياسياً الوضيعين الطامعين بالحكم من العرب أمثال (الشريف حسين).

جاء في مراسلات الحسين – مكماهون : (إن الحكومة البريطانية ترغب في إعادة الخلافة إلى الدوحة القرشية و الشجرة المحمدية) هذا ما كانت تخاطبه به وأغرت هذا العميل المغفل للخروج على الدولة العثمانية في إسطنبول، مستغلة أحلام العصافير التي تدور حول رأسه، واعدة له أنها ستتوِّجه خليفةً للمسلمين من قبل عدوة الإسلام بريطانيا.

أما بالنسبة إلى الأمر الثاني، فقد كانت في الوقت نفسه ترسم خرائط المنطقة مع صديقتها اللدودة فرنسا، وتتفق معها على تقسيم الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ بينهما بواسطة وزيري خارجية كل من البلدين، فيما عرف فيما بعد بمعاهدة (سايكس – بيكو). وإمعاناً في التجزئة وضعت جيوبًا صغيرة في المناطق الحدودية كي تكون مثارًا للمشاكل بين الدول الكرتونية التي كانت تنوي إقامتها على أنقاض الدولة الإسلامية. ولما احتلت جيوش الدول الغربية الكافرة بلاد المسلمين وقبضت يدها على الحكم فيها، قامت بإشغال المسلمين في تلك البلاد بالكفاح الرخيص ضد المستعمر، وتكريس فكرة الدولة الوطنية الضيقة والتابعة بشكل كلي لها من خلال ما يسمى «برجال الاستقلال» للاستعمار الغربي.وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال البلاد الإسلامية بشكل مباشر، كانت فصول المؤامرة قد  استُكملت في إسطنبول على أيدي القوميين الأتراك وحلفائهم من اليهود، وتم إعلان إلغاء الخلافة ليُصبح المسلمون بلا إمامٍ ولا راعٍ أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام.

 واليوم وبعد مائة عام على معاهدة (سايكس – بيكو) المشؤومة، وانطلاق ما يُسمى بـ (ثورات الربيع العربي) كانت ثورة أهل الشام هي المميزة بين كل الثورات التي سبقتها، من حيث الشعارات التي رفعتها، والمطالب التي نادت بها، وتحديد طبيعة الصراع وطرفيه ألا وهو الصراع بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب. أما من حيث الشعارات فهي أطلقت شعارات مرتبطة بعقيدة الأمة مثل: (هي لله هي لله) و(لن نركع إلا لله) و(قائدنا للأبد سيدنا محمد). أما من حيث المطالب، فقد أطلقت مطلب الحرية المقابل لهيمنة الطاغوت الأسدي ومن ورائه أميركا التي تقف وراء كل جرائمه وتغطيها وتمنع أي مساءلة قانونية دولية لها. أما من حيث تحديد حقيقة الصراع فعبرت عنه بمطالبتها بإقامة حكم الله سبحانه في الأرض وذلك بمطالبتها بإقامة الخلافة، تلك المطالبة التي انتشرت وعمت في أرجاء البلد.

إن السياسي البصير بأحوال الأمم والعالم بتقلبات الشعوب يُدرك أن هذه الحرية التي يريدها الشعب السوري هي ليست الحرية بالمفهوم الغربي، لقد وصلت أصداء هذه الشعارات إلى الطرف الآخر من البحر، وأيقن ساسة الدول الكافرة أنهم أمام ما كانوا يخشونه وما حذّرهم أسلافهم منه ألا وهو صحوة المارد الإسلامي، فهذه الأمة كما وصفها ألدُّ أعدائها اليهودي كيسينجر: «الأمة الإسلامية تنام ولكن مشكلتها أنها لا تموت… وإن استيقظت أعادت بسنوات ما أخذ منها بقرون”. ، ولهذا السبب كان تموضع المتخاصمين في ثورة أهل الشام مختلفًا عنه في كل الثورات الأخرى، فإذا كانت الثورة في تونس ومصر تم احتواؤهما وإعادة إنتاج النظام القديم فيهما. وإذا كان الصراعُ في ليبيا واليمن صراعَ نفوذ بين دول الكفر (أميركا وحلفاؤها من جهة وبريطانيا وحلفاؤها من جهة أخرى)… أما في ثورة الشام، فإن تموضع المتخاصمين كان له شكل آخر (هناك جزء من أمة الإسلام القاطن على أرض الشام قد خرج على طاغيتها في مقابل قوى الكفر كلّها وأدواتها في المنطقة على أساس الإسلام) وكما قلنا يعلم الساسة الحقيقيون المبدئيون أن هذه الحرب لن تقف بتداعياتها عند حدود (سايكس – بيكو) المصطنعة؛ إذ يقول عضو مجلس النواب الأميركي ريتشارد كلارك: «لقد تعلمنا في الكلية العسكرية أن لكل حرب مركز ثقل، والحرب الدائرة اليوم مركز ثقلها في سوريا، وإذا انهارت سوريا فسيكون انهيار أوروبا قريبًا»، ومن هذا المنطلق يعمل الطرف الآخر وهو الغرب الكافر بكل دوله وأدواته في المنطقة على منع انتصار أهل الشام وينطلق في عداوته لها من كون هذه الثورة (ومن خلال شعاراتها الأولى) أعادت إلى الأمة عقلية المسلم وضرورة الالتجاء إلى الله، وهذا ما حاربه الغرب عندما أراد أن يهدم الخلافة كما قلنا في أول الحديث ببثه أفكار تناقض الإسلام من قومية نتنة ووطنية ضيقة؛ ولذلك فهي أي ثورة أهل الشام ستقلب طاولة الكفر رأسًا على عقب، وتعيد للأمة سلطانها على أساس الإسلام. فالصراع الدائر على أرض الشام هو صراع حضاري بامتياز وليس صراع مصالح. وأهل الشام لا تقتصر عداوتهم على طاغية القرداحة، بل تتعداه إلى النظام الدولي والذي لا يمكن أن يكون موجودًا إلا بوجود الدول الضعيفة التابعة والعميلة للدول الكبرى القوية ، وهو صراع بين مشروعين: الأول يريد فيه الغرب تثبيت الوضع الراهن، ولو بإزالة رأس النظام، وتكريس النظام العلماني العفن. ويريد كذلك من الأمة الخضوع للنظام الدولي الذي يريد أن تحيا الأمة ضمنه عبر معاهدات (سايكس – بيكو) التي يمكن أن تتغير حدودًا ولكن لا يسمح أن تتغير استعمارًا. والثاني هو مشروع الخلافة الإسلامية التي بشرنا بها خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وهذا المشروع الذي لا يعترف بحدود (سايكس-بيكو)  ولا غيرها من الحدود، وتكون وحدة الدول القائمة في العالم الإسلامي أولى مهامه، ومن ثم تقديم المشروع الحضاري الإسلامي للعالم الذي يتردى في ظلمات الرأسمالية الجشعة. وهذا يكشف أن حقيقة الصراع هو صراع بين حضارتين، وأن (سايكس – بيكو) وأمثالها هي الخنجر الذي يمزق به الغرب بلاد المسلمين.

 فإلى الكفر بطاغوت النظام الدولي ندعو كل المسلمين، ومن ثمّ العمل مع العاملين الواعين المخلصين لإعادة الخلافة على منهاج النبوة… اللهم بلّغنا ذلك اليوم الذي نرى فيه راية العقاب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفرف فوق دمشق ومكّة والقدس وسائر بلاد المسلمين، واجعلنا ممن يحملونها إلى روما وسائر عواصم العالم، واجعل نبوءة سيد البشر صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها» تتحقق على أيدينا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *