مؤامرة «سايكس – بيكو» الاستعمارية: مائة عامٍ على إقصاء الإسلام، مائة عامٍ من الضياع والتشتتِ والانقسام!
2016/07/25م
المقالات
3,598 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
مؤامرة «سايكس – بيكو» الاستعمارية:
مائة عامٍ على إقصاء الإسلام،
مائة عامٍ من الضياع والتشتتِ والانقسام!
صالح عبد الرحيم – الجزائر
وإذا كان نظامُ الخلافة يعني ببساطة أن يكون الإسلامُ معمولًا به على مستوى الحكم، أي على جميع الأصعدة وفي كافة شؤون المجتمع، فإن من أهم ما يجب أن يعيه المسلمون اليومَ أن إقصاء الإسلام عن الحكم بالإجهاز على دولة الخلافة (التي كانت تتمثل في التاريخ القريب بالدولة العثمانية) هو ما كان الغرض الأساس من مؤامرة «سايكس-بيكو» الاستعمارية، تلك الاتفاقية السرية التي عقدت بين الإنجليز والفرنسيين (بموافقة روسيا القيصرية) في أوائل القرن الماضي (1916م). وقد خطط الأعداءُ حينها لتثبيت أوضاعٍ جديدةٍ في بلاد المسلمين تقتضي ألا تقومَ للمسلمين قائمة بعد ذهاب دولتهم، وتنطق بلسان الحال (ولو بعد عقود) بـ«استحالة» عودة الخلافة إلى ديارهم!! ومن ذلك تكريس الهوية القومية والهوية الوطنية (فكريًا وسياسيًا ووجدانيًا) في الأقطار التي أنشئت على أنقاض الخلافة، وتثبيتُ الحدود السياسية والجغرافية بين الكيانات (لمنع الوحدة بين المسلمين)، ومنها إنشاء كيان (إسرائيل) في قلب البلاد الإسلامية، وغير ذلك…
الآن وبعد مرور قرنٍ من الزمان على هذه الاتفاقية المشؤومة، يبدو أن المنطقة هي مجددًا أمام «سايكس-بيكو» ثانية تهدف إلى إعادة تشكيل قلبِ بلاد المسلمين وفق منظورٍ استعماري جديد (آت هذه المرة من وراء الأطلسي أي من أميركا)، يضمن لأعداء الإسلام في الغرب درءَ خطر الإسلامِ عليهم، وذلك بمنع قيام دولة الخلافة، وهو ما يعني استمرارَ إقصاء الإسلام عن الحكم واستبعاد الحكم بما أنزل الله في بلاد المسلمين، ولو إلى حين. فما الذي سيحول دون تنفيذ هذه المؤامرة الجديدة، بعدما أصبحت أميركا الاستعمارية هي الآن زعيمةَ الغرب وقائدتـَه في الحرب على المسلمين في بلادهم؟
وجدير بالذكر في هذا الصدد أنه بعد كل هذه العقود من الهيمنة الاستعمارية والخضوع للنظم والدساتير الغربية، أصبح المسلمون أنفسُهم حريصين على ما انجرَّ عن «سايكس-بيكو» (الأولى) من تقسيماتٍ وحدود، بل ويقتل بعضهم بعضًا في سبيل تثبيت مضامين هذه الاتفاقية التي كانوا هم ضحاياها! فكأنَّ الغرب نجح نجاحًا باهرًا في ترسيخ وضعٍ في البلاد الإسلامية (والعربية منها تحديدًا) ينطق بلسان مقالِ كثير من أبناء الأمة باستبعاد أو استحالة عودةِ الخلافة وتوحيد الأمةِ الإسلامية من جديد!!
أما آن أوان دفنِ اتفاقية «سايكس-بيكو» وتداعياتـُها، ومنع أي بديل غير إعادة الخلافة إلى ديار الإسلام؟!
لا يختلف أهل الإسلام في جميع أقطار الدنيا في ما يرون اليومَ – بعد زوال الخلافة – من سوء أحوالهم وتردي أوضاعهم، وما يعيشون في بلدانهم من فوضى وخراب وتشتتٍ وانقسام، وهم يشاهدون كيف ذهب ملكهم وانتكست أمورُهم وسُرقت ثرواتهم ودب الخلاف بينهم حتى صارت بلادهم مرتعًا للشر والدمار والاقتتال ومزرعةً للأعداء ومضربَ المثل في تفشي الظلم وسوء الرعاية وانتشار الفاسدين والمفسدين، حين تولى أمورَ الأمة شرارُها واستلم الحكمَ فيها فسَّاقُها وسرَّاقُها وأدخلوها حالةً من التردي والتبعية لأعدائها لا نظير لها، وأن المسلمين بلغوا من الضعف والتخلف والهبوط والانحدار مبلغًا لا يليق بانتمائهم إلى هذا الدين العظيم!! فعجبًا كيف انقلب العز والقوةُ مهانةً وضعفًا! وعجبًا كيفَ تكيفَ المسلمون مع الفوضى التي حلت ببلادهم وسوء الرعاية التي نجمت عن تطبيق غير الإسلام عليهم بعد زوال دولتهم، حتى صار واقعُهم كأنه منذ أمد بعيدٍ هكذا كان!
فعندما أدرك الغربُ الرأسمالي الاستعماريُّ الكافر الحاقدُ سرَّ قوةِ المسلمين، وأيقن أنها إنما تكمن في قوة عقيدةِ الإسلام، وفي قوة أفكارِ الإسلام، وفي قوة دولة الإسلام، عمد منذ أمد بعيدٍ إلى عملية قلبِ المفاهيم عن كل شيء في أذهانهم، فكان الغزو الثقافي والتبشيري خلال القرن السابع عشر الميلادي تحديدًا، وهي عملية خطيرةٌ للغاية تكاد تكون أعظمَ نجاحٍ له في صراعه مع الأمة الإسلامية على الإطلاق؛ ما أدى فيما بعدُ إلى قهرهم سياسيًا بإزالة دولتهم وتقسيم بلادهم، وعسكريًا واقتصاديًا باحتلالهم واقتسام ثرواتهم! وأخطر ما في الأمر أنه أوجد مِن بين المسلمين – إلى اليوم – مَن يحمل خليطًا عجيبًا من ثقافته وبضاعته، يروج لها على أساس أنها هي الإسلام، أو أنها من الإسلام، أو أنها لا تتناقض مع الإسلام.
ويجب ألا ننكر أن حالةَ الانحطاط والانبهار (بل الذهول) التي كانت سائدةً في الأمةِ مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي (تحديدًا) كانت لوحدها مؤذنةً بزوال دولة المسلمين، إلا أن زاوية منحنى الهبوط الفكري والانحدار السياسي لدى المسلمين كانت قد تغيرت بشكل مرعب بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بسبب كيد الكفار الأوروبيين خاصةً، بحيث كان قد تسارع ذلك الانحدار سياسيًا وعسكريًا وقتئذٍ بشكل غيرِ مسبوق، ولم يكن أبدًا من السهل إعادة الأمور إلى نصابها في آخر أيام الدولة العثمانية، خصوصًا في عهد الخليفة عبد الحميد الثاني، رغم كل المحاولات!! وهو ما أدى بالفعل إلى زوال الدولة العثمانية وحلول الكارثة. فلم يكن سهلًا تفادي ما طرأ على الأمة قبيل سقوط الدولة، فضلًا عن تدارك ما حل بها بعد سقوطها. وقد كان الإنجليز قد أوشكوا على إتمام اللعبة المميتة والإجهاز على دولة المسلمين، حتى إن كثيرًا من أبناء الأمة الإسلامية – بل من العلماء و«زعماء الإصلاح» – بسذاجتهم باتوا وقتئذٍ يتوقعون بحماسة بل وينتظرون بشغف لحظةَ التخلص من «الاستبداد» الذي كانت تمثله الدولةُ العثمانية، وكانوا ينظرون إلى الكماليين نظرة التقدير والإجلال، حتى بلغ الأمر عند بعضهم حد الإطراء والتقديس!
فبعد مرور مائة سنة على اتفاقية «سايكس-بيكو» المشؤومة التي وُقعت بين بريطانيا وفرنسا يوم 16/05/2016م وجرى بموجبها تقسيمُ البلاد العربية في المشرق (أو معظمها) بالمسطرة على الورق، ثم تقاسمُها بين الدولتين الاستعماريتين، وهي التي كانت جزءًا من الخلافة العثمانية، بدا للعالم وللمسلمين اليومَ كأن أوضاعهم هكذا كانت منذ زمن بعيد. ومما هو معلوم أن تلك الاتفاقية قامت على تفاهمٍ سري بين فرنسا والمملكة المتحدة بموافقة روسيا (القيصرية) أيام نيكولا الثاني، واتفاقٍ على اقتسام البلاد العربية بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في البلاد العربية وفي غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية التي كانت تحكم تلك البلاد وكان الإجهاز عليها وشيكًا. وقد تم التوصل إلى هذه الاتفاقية من خلال مفاوضاتٍ سرية بين نوفمبر عام 1915م ومايو عام 1916م بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وتبادلِ وثائق تفاهمٍ بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك. ومعلوم أنه تم الكشف عن الاتفاق المؤامرة بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا البولشوفية عام 1917م، إلا أن ذلك لم يسبب كبيرَ حرج للدولتين ولا أثناهما عن المضي قُدُمًا في تنفيذ المتفق عليه ولا أثار غضبًا ذا أثر لدى الشعوب المسلمةِ التي مستها الاتفاقية. فبعد الثورة البولشوفية في روسيا، نشر المفوض الروسي للشؤون الخارجية ليو تروتسكي آنذاك محتوى تلك الاتفاقية بغرض إبراز مدى ما تُضمر القوى الاستعماريةُ الكبرى لشعوب العالم من العداوة والغدر والخديعة. وقد كان هدف الشيوعيين الذين وصلوا إلى السلطة حينها من نشر الخريطة المرتبطة بالاتفاقية هو كشف كيف أنها تعكس خطوطَ التفكير الإمبريالي الاستعماري، وكيف يتم فرض حدود على الورق بمئات الكيلومترات في البلاد العربية (من حيفا إلى كركوك مثلًا)، ما يكشف الأطماعَ الاستعمارية ويشير إلى مدى تآمر الغرب الرأسمالي على أهل المشرق وعلى الشعوب العربية وعلى العالم الإسلامي وشعوب العالم عمومًا، وأن اتفاقية «سايكس-بيكو» السرية تدخل ضمن المؤامرات الكبرى على الشعوب، وأنها لا تخدم سوى مصالح القوى الغربية الاستعمارية الكبرى.
ومهما قيل في اتفاقية «سايكس –بيكو» وتداعياتها على البلاد الإسلامية وعلى المسلمين، فقد كان الكفار الأوروبيون قد تهيَّؤوا لاقتسام «التركة» على وجه يضمن بسطَ السيطرة وإحكامَ النفوذ على قلب البلاد الإسلامية. كما يجب أن يُنظر إلى الاتفاقية على أنها شكلت منعطفًا خطيراً في حياة الأمة الإسلامية، مرتبطاً بفاجعة ذهابِ دولة المسلمين، ومحطةً مهدت لقيام نظام عالمي جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في غياب دولة الخلافة، أي في غياب المسلمين عن الساحة الدولية. وقد صاحبها سلسلةٌ من الاتفاقيات كانت كلها وبالاً على المسلمين وعلى بلادهم، نذكر منها معاهدة بيلفور في نوفمبر 1917م التي وعد فيها وزيرُ الخارجية البريطاني أرثر جيمس بيلفور الجاليةَ اليهوديةَ في بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وكذلك المراسلات التي عُرفت بمراسلات حسين-مكماهون التي تحدث فيها «زعيم» الحجاز حسين بن علي والمفوض السامي البريطاني (في مصر) هنري مكماهون عن ضرورة تأسيس دولة عربية مستقلة بعد هزيمة الدولة وانتهاء العثمانية!! وقد شكلت هذه الاتفاقيات مقدماتٍ لمخططات ووعود جرى بالفعل تنفيذُها على حساب المسلمين وبلادهم فيما بعد ذهاب دولتهم. فما أول الشر إلا ذهابُ الخلافة والقضاء عليها من طرف الإنجليز، ثم نشوء مدرسة الواقعية والاعتدال على أنقاضها في أحضانهم لتكريس واقع التقسيم، وصرف الأذهان إلى إصلاح الأفراد بتربية الأخلاق عن إعادة سلطان المسلمين، وذلك بعدما راجت – بتدبير من الإنجليز – في بلاد الإسلام أفكارُ الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهم، ووساوس أتباع المدرسةِ التوفيقية وأصحاب الفكرة الواقعية والحركة الإصلاحية – خاصة في مصر. وأما وسطه فهو إقامة دولة اليهود خنجر الإنجليز المسموم في فلسطين. و أما آخره فهو ما نشهده الآن من سطوة أميركا ونقل مشعل عداوة ومحاربة الإسلام وأهله وحضانة دولة الصهاينة منهم إليها (من الإنجليز إلى أميركا)، وهو بإذن الله آخر الشر قبل عودة الخلافة إلى ديار الإسلام من جديد.
إلا أن ما نريد إبرازَه في هذا المقام هو أن ضمان عدم عودةِ الخلافة كان ولا شك الهاجسَ الأكبر لدى قوى الكفر آنذاك بريطانيا وفرنسا وروسيا (خاصة). وهو ما كان يعني إقصاء الإسلام عن الحكم بهدم الدولة مهما كان الثمن!! والحاصل أن هذه الاتفاقية مثلت حلقةً مهمة في تشكيل أوضاع المسلمين كما نراها اليوم. والناظر في واقع المسلمين في بلادهم اليومَ يرى دولًا متعددة (أكثر من خمسين) تعمل كلها في شعوبها (من حيث الرعاية سلبًا!!) ما هو مطلوب منها، أي عكسَ ما تعمل الدول المستقلةُ في شعوبها! كونها أقامها الكفارُ على أساس العلمانية والوطنية في بلادهم وعلى أنقاض الخلافةِ دولةِ المسلمين، وتأتمر بأوامر أعداء المسلمين في الغرب. فهي بطبيعة نشأتها ومهمتها منبعُ كل الفساد والفوضى والاضطراب والتردي والضياع في بلاد المسلمين، وهي مصدر كل أصناف الشر والشقاءِ في ديارهم. وعملُها الأساسي هو المحافظةُ على تجزئة الأمة، وإبقاؤُها في حالة الضعف والانحدار والتفتت والتبعثر والفقر والتبعيةِ للأعداء، بل ما هو أكبر من ذلك وهو صرف المسلمين عن حمل رسالتهم إلى العالم.
ملامح إعادةِ تقسيم المنطقة وفق منظورٍ استعماري جديد على الطريقة الأميركية!… فهل تستيقظ الأمةُ العريقة لإحباط المؤامرة؟
وفي هذا السياق، نود لفت نظر المسلمين اليومَ إلى ما يجري في بلادهم مجددًا من مخططاتٍ تقودها هذه المرة أميركا الاستعمارية – التي كشرت عن أنيابها – هدفه منع المسلمين من إقامة الدولة على أساس الإسلام. علمًا أن الصراعَ في جوهره في بلادهم اليومَ إنما هو صراع حضاري وسياسي، ويدور تحديدًا حول مسألة عودةِ الخلافة إلى ديار المسلمين، وعودةِ المسلمين إلى موقع الريادة في السياسة الدولية، وهذا أخشى ما يخشاه الغربُ قاطبةً ويعمل بكل قواه لمنعه من الحدوث – وهو ما سيحدث فعلًا رغمًا عنه بإذن الله قريبًا. فهذا الصراع هو في حقيقته اليومَ بين الأمة الإسلامية وأعدائها من الكفار الرأسماليين المستعمِرين، سواء الأميركيون أم الأوروبيون أم غيرهم، إلا أن هؤلاء الأعداء الغربيين، بفعل تناحرهم فيما بينهم على المصالح والنفوذ في البلاد الإسلامية، وبحكم عدائهم الشديد للإسلام والمسلمين، صيروه بالخطط السياسية الذكية، وبالمؤامرات الخبيثة الخفية، نزاعًا بين أبناء الأمة الواحدة على أساس الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق، أي نزاعًا بين مختلف مكوناتِ الأمة الإسلامية، بحسب ما تقتضيه سيطرتهم على مقدرات الشعوب المسلمة. كما جعلوه بفعل ما يمتلكون من قوة ونفوذٍ في أوساط الأمة الإسلامية، صراعًا على أسس قوميةٍ أو إقليميةٍ أو وطنيةٍ ضيقةٍ أو غير ذلك، بحسب ما تمليه مصالحُهم وأغراضهم في البلاد الإسلامية. وبما أن الغايةَ تبرر الوسيلةَ عند الغرب، فإن هؤلاء الأعداء المتآمرين باتوا بالفعل يُوظَّفون في هذا الصراع مع الأمة الإسلامية – إلى حد التناحر والتقاتل – كلَّ هذه الانتماءات المتداخلة، وهو ما نراه اليوم حاصلًا بالفعل في ما تقوم به أميركا تحديدًا في العراق وفي اليمن، وفي الشام خاصة.
يحصل كل ذلك في الأمة اليومَ بشكلٍ خطيرٍ غايةَ الخطورة، بحيث لا ولن يُنجي منه سوى العودة إلى الإسلام في دولة مبدئية قويةٍ جامعةٍ يكون فيها الولاءُ لله ولرسوله – وهو ما يجب أن يعيه المسلمون في شتى أصقاع الأرض – بحيث تنصهر وتذوب فيها جميعُ هذه الانتماءات والولاءات، وتُفعَّل فيها كل الطاقات والإمكانات، وهو ما كانت عليه الأمة الإسلاميةُ العريقة خلال قرونٍ عديدةٍ خلت، وطوال أزمنةٍ مديدةٍ مضت، حتى جاء الغرب والاستعمارُ، وحلَّ معه الشقاقُ والفتنةُ والدمارُ.
فما تقوم به أميركا اليوم – مسخِّرةً في ذلك قوى كبرى ضمن صفقاتٍ كإقحام روسيا عسكريًا في سوريا مثلًا، ومسخِّرةً قوى أخرى إقليمية (شعوبها مسلمة وحكامها عملاء لها!!) كما فعلت وتفعل الآن مع إيران وأذرعها في أفغانستان والعراق والشام واليمن وفي دويلات الخليج، وكما تفعل مع تركيا والسعودية في بلاد الشام تحديدًا، وكإقحام مصر-السيسي في ليبيا مثلًا، أو كإنشاء «داعش» لتكون سببًا في الاقتتال بين المسلمين على أساس طائفي أو عرقي أو غير ذلك، ومبررًا للتدخل وخلط الأوراق في سوريا وفي العراق وفي ليبيا وفي كل مكان – فما تقوم به أميركا اليومَ إنما هو لمنع عودة الخلافة في بلاد المسلمين، أي لمواصلة المسيرة وإتمام المهمة التي كان يقوم بها من قبل في بلاد المسلمين الأوروبيون بقيادة الإنجليز، وذلك بعد انحسار نفوذ هؤلاء فيها بفعل الصراع الدولي مع القوى العظمى بعد الحرب العالمية الثانية (وعوامل أخرى لا يسعنا ذكرها الآن). ويمكن تلخيص ما تضطلع به أميركا اليومَ في قلب بلاد المسلمين لمنع قيام كيان سياسي جامعٍ للمسلمين على أساس دينهم وعقيدتهم في الأمور التالية، وهي تدرك أن قيام الخلافةِ في بلاد المسلمين معناه قيام نظام عالمي جديد يتقلص معه نفوذها فيها، بل يؤول إلى لا شيء:
المحافظة على التقسيم في بلاد المسلمين، أو إعادة التقسيم وفق خطوط جديدة تخدم المصالح والمآرب الأميركية، على أساس الجغرافيا أو العرق أو الدين أو المذهب أو اللغة أو غير ذلك، بحسب الموجود (فهي تستغل الآن مثلًا حرمان الأكراد من دولةٍ وفق التقسيم الأول!!). فهل نحن بصدد «سايكس- بيكو» جديدة وفق الرؤية الأميركية لضمان قرن آخر من الهيمنة الاستعمارية؟ وهو ما يعني أيضًا إنشاء خطوط تجزئةٍ وتقسيمٍ جديدة لمنع الاستقرار حتى على أساس الموروث الاستعماري السابق! السودان مثلًا جرى تقسيمه بالفعل، ويُعمل الآن على تقسيم المقسم منه!! أما العراق والبحرين وسوريا واليمن وحتى مصر وبلدان أخرى فهي ربما على خارطة التقسيم (!!) إذا لم يستيقظ المسلمون ويسارعوا إلى إعادة الحكم بما أنزل الله! لا إلى المحافظة على الموروث الاستعماري القديم!
الإبقاء على ورم (إسرائيل) في قلب جسد الأمة أي في بلاد الشام. فهي بالنسبة للغرب قاطبةً – وحتى لروسيا والصين وغيرها – خط أحمر.
تكريس الدولة الوطنية القطرية في البلاد الإسلامية، كونها هي الورقة الرابحة في تثبيت «الهويات» الجديدة التي فُرضت على المسلمين بعد ذهاب دولتهم.
تكريس العلمانية الكافرة هي الضمانة لإقصاء الإسلام عن الحكم، وفرض الدساتير التي تحكم بها الأنظمة الوطنيةُ العميلة، وهو ما يضمن إبعاد واستبعاد الحكم بما أنزل الله بأيدي المسلمين في جميع أقطارهم (!!) سواء ما اعتمد منها النظام الجمهوري أم الملكي أم غيرَ ذلك.
اعتماد الديمقراطية شكلًا وحكم العسكر فعلًا عبر الأجهزة الأمنية هو صمام الأمان لبقاء أزلام الاستعمار الأميركي (تحديدًا) في سدة الحكم، وذلك كلما حاول المسلمون (بسذاجتهم) الوصول إلى الحكم ضمن الأطر وعبر الطرق (والمجاري) التي تتيحها الأنظمة القائمة! وقد رأينا مؤخرًا كيف أن «الدولة العميقة» في هذه الكيانات التي صنعها الاستعمارُ، والتي هي في الواقع ذراعُ من أذرع القوى الغربية الخارجية المتحكمة، كانت أذكى (سياسيًا) بكثير من «الإسلاميين»، وكانت تدرك أن وصولَهم إلى واجهة السلطة ضمن الحدود والأطر والسقوف التي وضعها الاستعمارُ هو محرقة لهم. وهذا ما كان!
مزيد من إثارة النعرات القومية والطائفية والمذهبية وغيرها لاستخدامها مستقبلًا في الصراع مع المسلمين.
ابتكار فكرة «الحرب على الإرهاب» وتوظيفها لتكون ذريعةً «مقنِعة» للعالم وحتى لكثير من المسلمين (!) من أجل التدخل عسكريًا أو إقحام الأطراف الإقليمية (وحتى الدولية) بغرض تنفيذ خطط أميركا في بلاد المسلمين بجيوش المسلمين وأسلحة المسلمين وأموال المسلمين! (داعش وغيرها نموذجًا).
أما لماذا تبث قناة الجزيرة «خطوط على الرمال…» من عدة حلقاتٍ في الذكرى المئوية لاتفاقية «سايكس- بيكو» (قبل أيام) في هذا الظرف بالذات، فهو ليس لتذكير المسلمين بما اقترفته بريطانيا في حقهم – إذ هذه الأخيرة تدرك أن المسلمين في ألمٍ شديد من أوضاعهم الحالية بعد ذهاب دولتهم – وإنما هو لتوظيفه في صراعها مع منافسيها في البلاد الإسلامية على المكاسب والمنافع. وواضحٌ فيه استماتة بريطانيا البائدة من أجل «تنيبه» المسلمين لخطر داهم جديد أي «سايكس-بيكو2»!! بل تسخيرهم وتوظيفهم بما تمتلك من نفوذ قديم في بلاد المسلمين؛ وذلك أنها لم تعد تخشى يقظةً من المسلمين تجاهها (أي في اتجاه نقض ما فعلته هي) بعد أن «استقرت» أوضاعهم على الأسس التي رسمتها قبل مائة عام، أي بعد أن صاروا يدافعون عن حدود أقطارهم بل عن هوياتهم الجديدة (التي صنعها الإنجليز) بدمائهم وأموالهم، حيث اختلط الجهاد في سبيل الله مع الجهاد في سبيل الوطن!! فكأنها أمنت جانبَهم، وصار المطلوب منهم الآن أن يوجهوا سخطَهم ليمنعوا أميركا من تحقيق أهدافها ومآربها في بلادهم – بمزيد من الشرذمة والتقسيم (ولو بنسف الإطار الوطني القديم بتفعيل الطائفية وتكريس المذهبية والعرقية بهدف إنشاء كياناتٍ جديدة على أساس الفيدرالية أو غيرها..) – لأن ذلك لن يكون سوى على حساب الخطوط القديمة (الراسخة) التي خطَّها الأوروبيون وجعلوا بلادَ المسلمين تبدو في أعين أهلها كأنها منذ ألف عامٍ هكذا كانت! فما الذي سيوقف مشروعَ أميركا وبريطانيا معًا غيرُ الخلافة؟ فجانب من الصراع في بلاد المسلمين هو نعم بالتأكيد بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد.
إلا أن ما نراه اليوم ماثلًا أمام أعيننا من حراك في الأمة باتجاه التحرر من قبضة الغرب الكافر المستعمِر، وهو ما يؤشر إلى بداية تلاشي الدولة القطرية وزوال الأوضاع التي أقامها الاستعمارُ في أرجاء البلاد الإسلامية على أساس النعرة القومية أو الفكرة الوطنية، كما يؤشر أيضًا إلى بداية تفكك منظومة «سايكس-بيكو 1» البريطانية الفرنسية (الروسية أيضًا) التي نتجت عن إلغاء الخلافة العثمانية، لا يعني بالضرورة أن الأمورَ في بلاد المسلمين سوف تتجه حتمًا إلى نقض ما فعلته بريطانيا الاستعمارية الآثمة، أي نحو إعادة لملمة الشتات، وتوحيد الكيانات وتدارك ما فات؛ لأن ذلك يبقى دائمًا مرهونًا بمدى وعي المسلمين على قضيتهم، بل على مدى تحركهم لأجلها حقيقةً في الميدان.
والحقيقة أن ذلك في كافة الأحوال مرهون حصراً بمدى تحرك أبناء الأمة أنفسهم – المخلصين والواعين من المثقفين والسياسيين والفاعلين – ومدى وجودهم سياسيًا في الصراع القائم في بلاد المسلمين باتجاه نقض ما فعله الاستعمار الأوروبي البغيض، أي باتجاه إعادة دولة الخلافة إلى ديار المسلمين من جديد، ومواجهة المخططات الخبيثة الآتية مجددًا من بعيد، لغرض إنشاء شرق أوسط جديد. وإلا فليس بعيدًا أن تبتكر القوى الدوليةُ الفاعلة التي لا تنام أساليبَ جديدةً في القهر وبسط السيطرة ولو بالتكاتف وتبادل الأدوار. كما أنها قد تخترع وسائلَ حديثةً في الهيمنة وتمديد عمر الاستعمار، ولو بأي شكل من أشكال البطش والظلم والاستكبار! ومن ذلك كما أسلفنا إثارة النعرات، وتفعيل الانقسامات والانتماءات، مستغلةً في ذلك ما هو موجود بين المسلمين من ثغرات.
وإذا ما بقي المسلمون لا يرَون من دينهم سوى التمسك بما هو من مقومات الأفراد من أخلاق وعبادات، تاركين ما يصلح حالهم بوصفهم جماعةً وأمةً – وهو الدولة على أساس الإسلام – فإن وضعهم بين الأمم سيظل حتمًا كأنهم في حالة قعود وانتظار، لما سيأتي من شر ودمار! ولا نظن أن هذه الأطراف الدولية الفاعلةَ والنافذةَ (أميركا تحديدًا) تقعد عن رسم الخطط والأساليب، أو تقف عاجزةً عن اختراع الخدع والألاعيب، كل ذلك من أجل تنفيذ مرادها وتحقيق مآربها! إلا أن تنهض الأمةُ لقضيتها المصيرية وهي العودة إلى الإسلام بإقامة الخلافة وطرد النفوذِ الأجنبي بجميع أشكاله من بلاد المسلمين، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم. فلا يجدي من أجل النهوض بكل ذلك إلا الصدقُ مع الله في عملية إقامةِ الدين بالاستجابة لرب العالمين واقتفاء أثر خيرِ المرسلين.
تركيزُ العمل على إعادة الخلافةِ هو ما سيُجبر الأميركيين (وأعوانهم المتآمرين) على الخروج من المنطقة خائبين مدحورين!!
فالسلوك الاستعماري المتمثلُ في سرقة ونهب ثرواتِ الشعوب من خلال بسط الهيمنة والإخضاع، ولو بقتل الناس وسفكِ دمائهم (بل إبادتهم)، سلوكٌ متأصل عند أعداء الإنسانية من أصحاب الفكرة الرأسمالية، كونه منبثقًا عنها، وهو ما فعله في الماضي ويفعله اليومَ الأوروبيون والأميركيون (بوصفهم دولًا) في جميع قارات الأرض بعد «نهضتهم» المشؤومة. أما على مستوى الأفراد فهو النفعية الدنيئة والمادية البحتة والـمُتع الجسدية والمكر والنفاق والهوى والوحشيةُ تجاه «الآخر» (أيًّاكان)، خصوصًا عند قادتهم وسياسييهم. ولا يخفى على أحد أن القضاء على الدولة الإسلامية الأخيرة (العثمانية)، على ما كان يشوبها من نقائص، كان قد تحقق على يد شياطين الإنجليز (تحديدًا) عقب الحرب العالمية الأولى بعد تضافر جهودِ كل الدولِ الغربية الأوروبية الاستعمارية الكافرة ردحًا من الزمن في الصد عن سبيل الله والكيد لأهل الإسلام، وتُوج بالإجهاز على الخلافة في الآستانة.
لم يتسبب مكرُ شياطين الغرب الرأسمالي الحاقد على الإسلام وعلى أمة الإسلام في حجب نور الهدى ودين الحق عن شعوب دولهم فحسب، وإنما تعدَّاه إلى حرمان شعوبِ الكرة الأرضية كلها من رؤية الحق، ومن السعادة، ومن العيش في كنف الإسلام الشامخ. فبِـإزالة دولة الخلافة من الوجود، أوردوا قومَهم دار الشقاوة والهلاك، وأوردوا جميعَ من في الأرض مصيرًا مظلمًا لا يُنجي البشريةَ منه سوى رحمة من الله مأمولة، وذلك بعودة المسلمين إلى ساحة التأثير الدولية. ولن يتم ذلك للمسلمين إلا بعودة دولة الخلافة عزيزةً منيعةً من جديد، وهي الدولة التي كانت – بتأييد من الله – منذ عهد رسول الله وصحابةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر أيامها، تمثل منارة الهدى في العالم، وأملَ البشرية في الخلاص من ظلمات الجاهلية ومن نير الاستعمار والاستغلال والجور وقيودِ العبودية للبشر. كما سيتحقق مع عودة الخلافة حتماً سقوطُ وزوال منظومة الغربِ الوحشي العلمانيةِ الفاسدةِ التي باتت اليومَ علاماتُ إفلاسها باديةً ظاهرةً للعيان.
إلا أنه عند النظر في كيفية مواجهة الأعداء في الغرب ودحر مخططات أميركا تحديدًا، بإنهاض المسلمين وتغييرِ المجتمع في بلادهم وتصحيح حالِ الأمة الإسلامية، لا يصح أبدًا أن يغيب أو ينفصل مفهومُ الدولةِ وشكلُ نظام الحكمِ عن حقيقةِ وماهية المجتمع، خصوصًا عند التفكير بوجوبِ وكيفيةِ العودة إلى الإسلام وإقامةِ الدين. وإذا ما تغيرت نظرةُ المسلمين لمفهوم الدولةِ ولمعنى المجتمع على النحو المطلوب، بأن تصبح الدولةُ والسياسة عندهم من صميم دينهم، فإن جهود أبناءِ الأمة – العاملين منهم – ستصبح عندئذ حتمًا سائرةً في الاتجاه الصحيح، وهو العمل لإعادة الخلافة.
فسرعان ما تتوحد في العمل السياسي المثمر، باتجاه تحرير الأمةِ من قبضة الكافرِ المستعمِر، وإنهاء نفوذ الغربِ في البلاد الإسلامية، وعودةِ المسلمين إلى موقع الريادة في السياسة الدولية، والسيطرة على الموقف الدولي والنظام العالمي من جديد، وإحباط هيمنةِ المنظومة الغربيةِ العلمانية التي تتحكم اليومَ في كل دول وشعوبِ العالم والمسلمين، بخاصة عن طريق منظمةِ الأمم المتحدة ومؤسساتها، وهي المؤسسات «الدولية» الساهرة والضامنة لبقاء الاستعمار، والجالبة في بلاد المسلمين لكل أصناف التبعية والدمار. ولن يتحقق ذلك للأمة إلا بحمل الدعوة في الطريق السياسي وإعادة دولةِ الخلافة واستئنافِ الحياة الإسلامية، وبذلك وحده ستسترجع الأمةُ قوتها وعزتها في زمن قياسي! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يبقى أن التحدي الأكبرَ أمام المسلمين اليومَ إنما هو في كشف أساليبِ وألاعيبِ الغرب العدو الحاقد وعلى رأسه أميركا اليومَ، بما يضمن أن يُوَجَّهَ تحركُ الأمةِ نحو ما يُحقق لها حقيقةً ما تصبو إليه من العزة والرفعة، ولن يكون ذلك إلا بدولةٍ إسلامية على منهاج النبوة، وهي الخلافة. ثم إن ما يجب أن يُذكَّر به جميع المسلمين هو أن العزةَ والتحررَ يستحيل أن يتحققا بغير دولةٍ تعتنق لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن المنطلقَ من أجل النهوض والتحرر لا يمكن إلا أن يكون الإسلام بشكلٍ واضح لا لُبس فيه، علمًا أن رائد هذا الاتجاه اليومَ في الأمة الإسلاميةِ إنما هو حزب التحرير، وأن هذا المنطلقَ هو الذي يحدد المسارَ ابتداءً كما يحدد النتائجَ انتهاءً، بناء على نصر الله الذي ينصر به من يشاء من عباده، وهو العزيزُ الحكيمُ، الذي يقول وقوله الحق: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ).
كما يجب أن يُفهم أن العمل السياسيَ وفق شروط الاعتمادِ المفروضةِ التي أقلُّ ما يُراعِي فيها مَنْ يفرضُها أنها ستضمن للأعداء عدمَ المساس بمنظومة الحكم القائمةِ في هذا البلد أو ذاك، سيكرس الواقعَ ويضمن نفوذَ الكافر في بلاد المسلمين ببقاء أجهزةِ الحكم خاضعةً للأجنبي ومرتبطةً بالمستعمِر. كما هو الحال اليومَ في كل هذه الكيانات المصطنعة في بلاد المسلمين، كمصر والأردن ونيجيريا والمغرب وإيران وماليزيا وأوزباكستان واليمن وغانا وكازاخستان والجزائر والعراق وإندونيسيا وموريتانيا والصومال وليبيا والسعودية وتنزانيا وباكستان وسوريا والكويت ومالي والنيجر وتونس وأفغانستان وتشاد وتركيا والسودان… أي كما هو الحال في جميع هذه الأقطار – وما أكثرها – التي أنشأ أنظمتَها الكفارُ، وحدَّ حدودَها الاستعمارُ… فهل يرضى الله ورسولُه أن تكون حالُ المسلمين على هذه الشاكلة بعد عزٍّ ووحدةٍ وقوةٍ؟!
فواضح أن ابتعاد المسلمين عن الفهم الصحيح للإسلام وما حل بهم من ضعف الإيمان وقلة الالتزام أفضى إلى عدم تطبيقه جماعيًا، أي أفضى إلى زوال الدولة، وهو بدوره ما كانت نتيجتَه حالةُ الانكسار والانقسام والفوضى والضياع التي يعيشها المسلمون اليوم في جميع أقطارهم على كثرتهم وكثرتها!
فيجب في جميع الظروف أن يأخذ المسلمون من الإسلام لا من غيره لمعالجة أحوالهم وإصلاح أوضاعهم، ومنه إقامة الدولة والمحافظة على بقائها ووحدتها على أساس الإسلامِ في بلادهم، وهي الطريقة الشرعية الضامنةِ لبقاء الإسلام حيًّا على المستوى العالمي، وموجودًا في حياتهم بوصفهم أمةً، وذلك هو بمعنى المحافظة على سلطان الأمة وسيادةِ الشرع في دولتهم مهما كان الموقف ومهما تعقد الوضع، بناءً على أن الدولة في الإسلام هي من الأحكام الشرعية الجماعية الملتصقة بالعقيدة، وهي من صميم الدين.
كما يجب أن ينتبه المسلمون إلى فظاعة التضليل الكبير والتوظيف السياسي الخطير الذي يمارسه الغربُ هذه الأيام – وأميركا تحديدًا – في بلادهم. فمفهوم «الدولة الدينية» ومفهوم «الدولة المدنية» (مثلًا) كلاهما دخيل على الأمة الإسلامية ومخالف لطبيعة الدولة ونمط الحكم في شريعة الإسلام. إذ نظرة الإسلام للحياة الإنسانية هي مزج المادة بالروح، إن على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع. ومعناه تسيير الحياة (الفردية والجماعية) وفق أوامر الله ونواهيه بناءً على إدراك الصلة بالله، وهذا هو أصل الداء في وجهة نظر الغرب في الحياة أي عند الغربيين قاطبةً. فمفهوم «الدولة الدينية» وكذلك مفهوم «الدولة المدنية» كما هو رائج اليومَ في الغرب (وفي البلاد الإسلامية أيضًا بتأثير من الغرب) يتناقض كل منهما مع الإسلام. فليس معنى أنْ يُحكم بالإسلام أنَّ الدولةَ في الإسلام هي دولة دينية (ثيوقراطية)، إذ الإسلام ليس دينًا بالمعنى الذي يعطيه الغرب للدين، وإنما هو دين بالمعنى الذي يُعطيه الإسلام للدين. قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ…). فالدولة في الإسلام لا هي دينية ولا هي مدنية، بل هي خلافة راشدة يحكم فيها البشرُ على منهاج النبوة كما حكم رسول الله وكما حكم صحابةُ رسول الله. والحكام في الإسلام لا هم معصومون ولا هم فوق البشر. كما أن الدولة الإسلامية لا تكون دولةً دينيةً خصوصًا إذا فُهم الدينُ على أنه خالٍ من السياسية، إذ الإسلام دين منه الدولة. أما معنى «مدنية الدولة» فهو ألا يكون لمسألة وجود الخالق شأن في الحياة العامة، وهو مضمون ومفهوم الدولة العلمانية. فإقامة الدين وعدم التفرق فيه كما أمر الله في الآية 13من سورة الشورى في قوله تعالى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يفند هذا المعنى ويحتم أن يكون الإسلام في الحكم، وأن يسوس الحاكمُ شؤونَ الناس – مسلمين وغير مسلمين – بالشريعة الإسلامية، وهو ما يصلحهم جميعًا. وعكسه فصل الدين عن الحياة وعن السياسة، أي إبعاد ما جاء من عند الله، أي ما نزل من وحي عن الحياة وعن الشأن العام، وهو الضلال والشرك. وقد تستعمل لفظة «مدنية» في مقابل «عسكرية»، وهو ليس موضوعنا في هذا المقام.
وهل كانت انتصاراتُ المسلمين فيما مضى أيام العز والرفعةِ سوى عندما كانت دولتُهم على أساس عقيدتهم، التي هي هويتهم وسر حياتهم ومرتَكز وجودهم وقوام مجتمعهم ومنبثَق تفكيرهم وسلوكهم ووجهة نظرهم وأفكارهم جميعًا؟؟ فكفى بالابتعاد عن السياسة بعدًا عن الإسلام. ولا شيء في الحقيقة يُصلح حالَ الجماعة، ويوقف تدهورَ حالِ المسلمين، ويضمن وجودَ الإسلام حيًا في حياة الناس، بل يضمن وجودَ الإسلام والمسلمين عالميًا، أي وجودَ الإسلام على المسرح الدولي وبقاءَه رائدًا ومهيمنًا على النظام العالمي كما كان من قبلُ، سوى طريقته في ضمان كل ذلك، وهي دولة المسلمين، وهي الخلافة.
فترى اليومَ الذين في قلوبهم زيغ ممن يُبرزهم الغربُ في الإعلام كمفكرين أو دعاة أو مصلحين (!!) ممن وضعهم على المنابر الإعلامية والسياسية، سواء هناك في الغرب أم على منابر الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين، يُنَظِّرون للأمة في كل الأمور والمسائل. ومن ذلك أنهم يَصْدَعون لها بأن هذه العلمانية الآتيةَ من الغرب لا تصطدم بأي حالٍ مع الدين (أي دين).
بل على العكس من ذلك بحسبهم: فهي التي تحمي الدينَ من سطوة الحاكم كونها لا تحمل أي صبغةٍ أيديولوجية!! فهي تقف على مسافة واحدة من جميع البشر بغض النظر عن معتقداتهم وانتماءاتهم، فلا بد أن تكون الدولةُ القائمة على أساسها – وهي الدولة المدنية – هي إذًا النموذج «الحضاري والحداثي» الأمثل للتوافق والتعايش وتحقيق مصالح العباد في أي مكان، لا بل هي الطريقة المثلى لإبعاد الصراع بين الناس على أساس المعتقد، الذي كثيراً ما يتسبب في التناحر والاقتتال (بزعمهم!!)، بحيث يعيش البشر في فضاء مشترك يسوده الوئام ويعم فيه السلامُ وتكون الرعاية فيه من قِبل الحاكم بالتوافق بين الناس مهما كان الاختلاف في الرؤى والتصورات والمناهج والمعتقدات، أي مهما كان موقف الإنسان من الخالق عز وجل. إذ لن يكون لهذا الموقف بعدئذ أي دور في المجتمع! فيصبح الدين بعيدًا عن الشأن السياسي العام ويكون شأناً فردياً، أو بالأحرى يكون مكانُه حيث يضعه الناسُ بالأغلبية (ديمقراطياً) من خلال البرلمانات الممثلةِ لأفراد المجتمعات (بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم) عن طريق الصناديق والانتخابات!!
وهل مشاكل المسلمين في جميع أنحاء العالم اليومَ إلا نتيجة طبيعية وحتمية لهذه العلمانية المقيتة ولغياب الإسلام في حياتهم بوصفهم أمةً لا بوصفهم أفراداً، الذي معناه غياب الدولة التي ترعى شؤونَ الناس وفق الشريعة الإسلامية وليس معناه شيئًا آخر؟؟ ولعمري لستُ أدري أي معنًى سيكون للعودة إلى الإسلام وإقامةِ الدين وتصحيح أوضاع الأمة إذا خلا منها عودةُ الخلافة إلى ديار المسلمين وإقامةُ الدولة على أساس الإسلام في بلاد المسلمين!
وإذا بات المسلمون اليومَ متفقين في أن السببَ في كل مصائبهم إنما هو البعد عن الإسلام – إلا قليلًا منهم لا يُعتدُّ بهم من المضبوعين بإنجازات الغرب الكافر، معتنقِ العلمانية الرأسماليةِ الاستعمارية وعدوِّ البشرية والإنسانية، خصوصًا على صعيد أنظمةِ الحكم والاقتصاد، وما نجم عن نهضة دول الغرب الفكريةِ والسياسيةِ وتقدمهم في ميادين الفكر والعلوم التجريبية والتكنولوجيا والصناعات، وما نتج عن ذلك من وسائل وأشكالٍ مدنية ومخترعات – فإن العودةَ إلى الإسلام على مستوى الأمة يجب ألا يكون معناها في أذهانهم وفي أعمالهم سوى إقامة الدولة وعودة الخلافة إلى ديارهم، وهو وحده ما سيحقق الوحدةَ، ويكون العلاج الصائب لأوضاعهم ومصابهم وما حل بهم في ديارهم، وذلك حصرًا بتطبيق الشريعةِ الإسلامية.
وكما ثبت أن الدولةَ في الإسلام لازمةٌ لزومًا شرعيًا بحيث لا يكون المسلمون مسلمين حقيقةً بوصفهم مجتمعًا إلا بها، إذ لا يمكن تطبيقُ الشريعةِ إلا بوجودها، يثبت أيضًا كما هو معلوم أن طريقَ إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة إلى ديار المسلمين هو الطريق السياسي ولا شيء سواه. ومعناه أن يتكتل المسلمون سياسيًا حول قادتهم من علمائهم وزعمائهم، رغم أنف الحكام العملاء وشياطينهم في الغرب، من أجل استنهاض همم المسلمين جميعًا بغرض الالتفاف حول مسألةِ إعادة الدولة في بلاد المسلمين، وموضوعِ إقامةِ تاج الفروض، الذي هو فرض إقامةِ دولةِ الخلافة وإعادتها إلى الوجود، مهما كلف ذلك من تضحيات وجهود. علمًا أنه يقع على عاتق المسلمين من أفراد الجيوش – وقادتهم خاصة – في بلاد المسلمين عبءٌ زائد، ألا وهو النُّصرة والحماية واحتضان الدعوة لإعادة الحكم بما أنزل الله، ولهم بذلك الدرجاتُ العلى في الجنة وعداً من الله، كما كان للأنصار في المدينة من أمثال سعد وصحبه قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وبالخلاصة، فإن أغلبَ المسلمين في كافة أرجاءِ المعمورة في هذا الزمان أصبحوا لا يدركون أن وجودَهم كأمة عزيزةٍ منيعةٍ مرهوبةِ الجانب تحيا في ظل الشريعة الربانية، مرهونٌ حصرًا بإقامة الخلافة على منهاج النبوة والحرص على بقائها – كذلك عزيزةً منيعةً. فوفق هذه النظرة الصحيحة تكون الدولة الإسلامية هي السبيل لتطبيق الشرع وتحقيقِ عزة المسلمين وإصلاحِ أحوالهم ودوام صلاحهم وتصحيحِ أوضاعهم. كما أنها هي السبيل لتحررهم (وتحرر البشرية جمعاء) من قيود الاستعمار الغربي العلماني الكافر البغيض حاملِ الكراهية والتعاسةِ للبشرية.
بعد كل الذي سبق فالعجب كل العجب ممن يكتفي من أبناء الأمة من الإسلام فقط بما يقوم به في خاصة نفسِه، وربما أهله، بالعبادات وتربية الأخلاق – وهم أكثر المسلمين اليومَ – معتبراً ذلك أكملَ ما يجب عليه تجاه أمته وانتمائِه لهذا الدين وموقفِه من رب العالمين.
2016-07-25