العدد 353 -

السنة الثلاثون العدد 353 جمادى الثاني 1437هـ ،آذار/نيسان 2016م

النهضة تقوم على الأساس المبدئي

بسم الله الرحمن الرحيم

النهضة تقوم على الأساس المبدئي

 

الكاتب : فهد سعيد الزيلعي – اليمن – صنعاء

لقد كانت مسألة النهضة ولا زالت من المواضيع الأساسية الشاغلة لأغلب المفكرين والسياسيين والمختصين ـ فما هي النهضة؟ وكيف تتحقق؟ لماذا نهضت أمة من الأمم؟ ولماذا تنحط وتتخلف أمة من الأمم؟

 وهل النهضة مرتبطة بقضية الدين، أم بعلمانية فصل الدين عن الحياة، أم بقضية التكنولوجيا والمدنية، أم بالتشيد العمراني واستعمال الوسائل المادية الحديثة؟ وهل وفرة المدراس والمعاهد والجامعات وكثرة الخريجين وحملة الشهادة العالية في كل المجالات والاختصاصات هو دليل على نهضة البلدان؟ وهل كل بلد يعيش في بحبوحة اقتصادية هو بلد ناهض، أم أن كل هذه هي أعراض وثمرة تنشأ وتتطور إذا تحققت النهضة؟

أولًا: النهضة في اللغة مشتقة من فعل نهض أي قام. ومكان ناهض يعني مرتفع. وفي الاصطلاح تعني الرقي الفكري الذي يتصف بالعمق والشمول، فالنهضة هي الانتقال بالفرد والمجتمع والدولة من حال التخلف والانحطاط إلى حال أفضل منه على أساس الفكر المبدئي. فما هو هذا التحول الذي يعبر وجوده عن وجود نهضة في المجتمعات؟ وما المقياس الذي يميِّز بين إنسان ناهض أو إنسان منخفض؟

وما الفارق بين شعب ناهض وشعب متخلف؟

وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد أن نجلي الغموض عما يردده الكثير من أن انتشار التعليم وزياده الثروة ومقاومة المرض هي التي تقضي على أسباب التخلف والعلة في المجتمعات، وهي الفقر والجهل والمرض، حتى صارت قاعدة أساسية ترسخت في الأذهان، وبذلت في مكافحتها كل جهود وإمكانات الدول، وأعدوا ما استطاعوا من قوة في محاربة الجهل والأمية ابتداءً من الحضانة والروضة حتى الجامعة، انتهاء بملاحقة كبار السن في محو الأمية حتى بلغت نسبة الخريجين وحملة الشهادات والماجستير والدكتوراه أعلى بكثير من الشعوب المتقدمة، فماذا كانت النتيجة؟ وهل وقف الانحدار والتخلف.

النتيجة كانت بهجرة الكثير من العقول وحملة الشهادات إلى الدول المتقدمة لتستفيد منهم. والنتيجة الأخرى كانت الزيادة الهائلة من الموظفين والخريجين الذين غصت بهم الدوائر الحكومية طالبين للوظائف ليعيشوا عليها. وهذا ما اضطر كثيرًا من الدول لاستيعاب أكبر عدد ممكن من هؤلاء الخريجين دون الحاجة إليهم؛ ما أدى إلى صرف أموال وإرهاق ميزانيات لدول دون تحقيق أي إنتاج أو تنمية إلا ما ندر، وصارت البطالة مقننة تصل إلى 70%.

والأخطر من ذلك، أن التعليم لم يرتقِ ليؤهل موظفين بمنهجية تفكير يتحلون بالنزاهة والشعور بالمسؤولية على مصالح الناس، بل تراهم يلهثون خلف المنفعة الذاتية، إلا من رحم ربي، وقليل ما هم.

وعندما عمدوا لمحاربة الفقر، بحسب قواعد النظام الاقتصادي الرأسمالي، من حرية السوق، وزيادة الإنتاج، والندرة النسبية، وخصخصة المشاريع العامة… فقاموا بإدخال التقنية في كل المجالات الاقتصادية، وأكبوا على دراسة علم الاقتصاد وتنمية الثروة بالخطط الخمسية والعشرية، وأغرقوا البلاد بالقروض في بناء مشاريع البنية التحتية ومشاريع شكلية استهلاكية؛ حتى وصلوا بالبلدان، بواسطة مصيدة البنك الدولي، إلى أن تصبح مسلوبة الإرادة، يتحكمون بمصير الشعوب، ويبتزون ثروات وخيرات الدول الفقيرة بفرض سياسة الإفقار والتجويع؛ وصارت توجد أزمات وأعباء على كاهل المجتمعات والدول في هذه البلدان، وبهذا نكون كأننا نضع العربة أمام الأحصنة (الترويكة) برغم ما حباه الله لنا من وفرة الموارد والثروات الطبيعية من النفط والغاز والمعادن والزراعة والثروة الحيوانية والبحرية، وبرغم كثرة الأيدي العاملة وحملة الشهادات في كل الاختصاصات والمجالات. وما زلنا نهوى إلى الحضيض، ونسمى بالعالم الثالث والدول النامية أي المتخلفة؛ ولهذا نجد أن هذه الظواهر والأعراض وجدت عندما غابت الأسس والقواعد في بناء النهضة؛ لأنها هي الركائز الضرورية في تقدم الدول. إذًا فإن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب البحث عن الأسس التي تقوم عليها النهضة وهي الآتي:

1- الإنسان: النظرة العميقة للإنسان بكونه إنسانًا  يعيش في هذا الوجود.

2- الأساس المبدئي: عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام.

3- المجتمع: المكونات الأساسية التي تشكل المجتمع.

4- الدولة: هي الكيان التنفيذي الذي يعبر عن قناعات الناس وتقودهم نحو النهضة.

أولًا: الإنسان

الإنسان هو محور بحثنا في هذا الوجود؛ فكان لا بد من معرفة ماهيته وخصائصه، ومعرفة الباعث على أعماله وتصرفاته والمسيِّر لها، ومعرفة مدى انضباط سلوك الفرد وانسجامه مع سلوك الجماعة. فالمتأمل في حياة الإنسان الذي احتوى الكون في تكوينه وما فيه من حياة، يختلف عن غيره من المخلوقات بصفات وخصائص اختصه الله بها من عقل، وما وهب له من إدراك وإرادة. فهو منذ أن يولد إلى أن يموت في حركة دائمة، وتراه مشغولًا في تأمين حاجاته وسد جوعاته وإرضاء رغباته؛ فنجده يحافظ على نفسه ويدافع عنها، ويحس بالعجز والاحتياج، ويشعر بالعطف والحنان، وفيه حب الذات وحب التملك والسيادة، ونجده يغضب ويفرح… وغير ذلك من الأحاسيس التي تولد لديه الرغبة والاندفاع في الحياة لإشباع حاجاته ورغباته، والتي غالبًا ما تكون في حيازة غيره؛ ولهذا فإن الإنسان بفطرته كائن اجتماعي يعيش بجماعة بطبيعته الناتجة عن علاقة الذكر والأنثى؛ فصار شعوبًا وقبائل لتعارفوا.

إلا أن اجتماع الناس مع بعضهم يؤلف منهم جماعة أو جماعات، ولا يجعل منهم مجتمعًا إلا إذا نشأت بينهم علاقات دائمية لجلب والمصالح لهم ودفع المفاسد عنهم، والتي تحددها مفاهيم مكتسبة عن الأشياء بناء على الإدراك العقلي، إن كان هذا الشيء فيه قابلية للإشباع أم غير قابل، وهي مفاهيم تكاد تكون واحدة عند بني البشر، ولا تختلف بين الناس إلا في الأذواق والرغبات، فلا أثر لها في سلوك الإنسان من حيث رقيه أو انخفاضه…

أما النوع الثاني من المفاهيم عن الحياة من حيث إنه يجوز له الإشباع بحسبها أو لا يجوز، وهل في هذا الفعل خير أم شر، وهل هو فعل قبيح أم حسن، وهل فيه مصلحة أم مفسدة. وهذا أمر خارج عن ذات الشيء، وعن ذات الانسان، بل يقتضي الرجوع إلى القاعدة أو القواعد التي جعلها مقياسًا لأعماله ومعيارًا لتصرفاته؛ ومن هنا نجد أن أعمال الأنسان جميعها مقيدة بمقاييس وقواعد آمن بها، حددتها وجهة نظره في الحياة. وهذا ما يمتاز به الإنسان عن غيره من الكائنات الحية. إلا أنه قد يتصرف برجع غريزي كما يتصرف أي حيوان، أو يخضع نفسه لثورة غريزية جامحة، أو لإغراءات لم يستطيع مقاومتها. وليس عنده من الايمان أو القيم ما يردعه عن القيام بإشباعها، فيتصرف دون تفكير أو تمحيص، فينحدر عن مستوى إنسانيته. قال تعالى:] إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [

 ومن هنا كان الحكم على هذا الإنسان من خلال أعماله هو حكم على ما آمن به من أفكار، وما اتخذ لنفسه من مقاييس، وما جعله له من وجهة نظر في الحياة. والحكم على هذه الأفكار يقتضي وجود قواعد ومسلمات عقلية يرجع لها الإنسان في حياته؛ ولذلك يجب أن نفرق بين أن ينظر الإنسان إلى نفسه في الجماعة براجع الرابطة الغريزي (الفطري) بدءًا باهتمامه بذاته وواجباته في سبيل العيش في الحياة؛ حيث يكابد هـمومها ويتغلب على صعوباتها من أجل تحقيق مصلحته التي يراها في إشباع حاجاته من مأكل ومشرب وملبس ومسكن… وإشباع غرائزه وإرضاء رغباته، والتي من خلال هذه النظرة الذاتية قد تتسع نظرته إلى أسرته وعشيرته وقبيلته، ثم إلى وطنه وقد تشمل قوميته؛ وذلك من زاوية ضرورة العيش وتحقيق الأمن والاستقرار وسيادة إقليم الدولة (الأرض والشعب) وفق مقياس المنفعة الفردية.

وهذه الرابطة الفطرية يشترك فيها الحيوان والإنسان. فكما أن الحيوان يدافع عن محل عيشه وبيئته ويحافظ على صغاره، وعلى القطيع بحسب قدرته إذا شعر بالخطر. كذلك الإنسان يحامي عن بيئته وعرضه وموطنه عندما يداهـمه احتلال أو خطر حيث تظهر هذه الرابطة بصورة قوية.

وعندما يغيب الواقع المثير بذهاب المحتل أو تجاوز الخطر، أو في حال السلم وهو الحال الطبيعي، عندها ينخفض فكر الإنسان، ويطغى عليه الشعور بحب السيادة والتملك والسيطرة؛ فيندفع الناس الذين يعيشون في جماعات وأحزاب ومذاهب وعنصريات في صراعات يسعى كل منهم في تحقيق مصلحته بمقياس النفعية، ولو كان فيها إلحاق الضرر بالآخرين وتدمير المجتمع والدولة.

وبما أن طبيعة السلطة وملابساتها تقوم على النفوذ والسطوة والسيطرة والغلبة والقدرة على فرض الإرادة واستخدام القوة؛ فلطالما دفعت عشاق النفوذ والغلبة لتحقيق رغباتهم الجامحة لجمع الثروة، ونشوة حب السيادة، وفرض الهيمنة فتحدد المسؤولية بين الفئة الحاكمة والشعب، وتكون في انخفاض وارتفاع، أي عرضة للمساومة، وقد تصل للانعدام إذا تعارضت الشعوب مع مصالح المتنفذين فيها، ولو كان ذلك يؤدي لسفك الدماء وبيع الأوطان والفساد في الأرض؛ فيتخذون مع الشعب سياسة الترهيب والترغيب تحت قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)، وفي شراء الذمم والولاءات من أهل القوة، وإذلال الشعوب والتآمر عليهم، ونهب خيرات وثروات البلاد من قوى خارجية استعمارية. وفي هذه الحالة يكون الاختلاف والتباين ما بين الناس، والوقوع في محذور الخوف والفتن وعدم الاستقرار؛ فيكون مجتمعًا فوضويًا غير منسجم، وهذا المسار يسلكه كل الطغاة والظالمين.

ولذلك فإن المجتمع المضطرب العلاقات المشتت الأفكار، المختلف المشاعر، الكاره للنظام ويعمل على تقويضه يكون مجتمعًا محكومًا بالحديد والنار وكم الأفواه وجز الأعناق وقطع الأرزاق، مجتمعًا تسوده الأنانية وتنتظمه اللامبالاة، مجتمعًا فوضويًا ومنحطًا، وهو صورة واضحة لمجتمعاتنا في العالم الإسلامي… برغم ما في هذه المجتمعات من جامعات ومعاهد ومثقفين ومحللين سياسيين وثروات… وما فيه من أكبر مستشفيات العالم، ومن الكوادر الطبية الماهرة وغيرها من الإمكانات الضخمة؛ ومع كل ذلك، فإننا ما زلنا نهوي إلى الحضيض.

ولذلك فإن نظرة الانسان لنفسه بدافع الفطرة لم ترتقِ به لتصل إلى مستوى إنسان يعيش في هذه الحياة مع غيره من بني البشر بحسب النظرة الشاملة والعميقة… ولذلك كانت الرابطة التي تربطه مع غيره هي رابطة عاطفية عرضه للتبديل والاختلاف وتقديم المصالح الشخصية على العامة؛ فلا يمكن من خلالها السير في طريق النهوض والارتقاء. فالإنسان لا يستطيع النهضة والارتقاء في حياته دون معرفة معنى وجوده في الحياة، ومعنى هذه الحياة الزمنية التي يقضيها.

ومن هنا نجد أن المجتمع مؤلف من الأفراد والأفكار والمشاعر والأنظمة؛ ولا يمكن البحث في نهضة المجتمع أو تغييره إلا بالتعرض لهذه المكونات الأساسية. أما من يقول إن المجتمع هو مجموعة أفراد، فإن قوله هذا هو قول ناقص. فالأفراد بحد ذاتهم هو متأثرون لا شعوريًا بهذه العلاقة ويخضعون لها، وإذا رأوا فيها الكثير من العيوب والأخطاء تجدهم يبررون لها ويتفاعلون معها.

ثانيًا: الأساس المبدئي:

الأساس المبدئي هو امتلاك الإنسان لعقيدة عقلية ينبثق عنها نظام. فالعقيدة هي الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل هذه الحياة وعما بعدها، وما علاقتها بما قبلها وما بعدها، وما النظام المنبثق عن هذه العقيدة والمعالجات لمشاكل الإنسان، وبيان طريقة تنفيذها والمحافظة عليها وحملها للعالم.

وهذه الأسئلة هي التي تفرض نفسها على كل مفكر يريد أن يشق طريقه في الحياة، وبحسب أجابته يكون سلوكه في الحياة. وهي تمثل (الإجابة عن حل العقد الكبرى عند الإنسان) التي تعرفه بأصله، وماله وما عليه، وطبيعة حياته والغاية منها.

وإذا نحن استعرضنا العالم كله الآن، لا نجد فيه إلا ثلاثة مبادئ هي: الرأسمالية والاشتراكية والمبدأ الثالث الإسلام. فإذا رجعنا إلى أوروبا في القرون الوسطى وكيف كانت تعيش في العصور المظلمة، برغم أن تلك الشعوب تدين بدين واحد وعقيدة واحدة هي النصرانية؛ إلا أنها كانت عقيدة كهنوتية ووجدانية تلقتها الشعوب تقليدًا عن الآباء والرهبان، وهو ما أدى بها إلى الانحراف الخطير الذي أصاب البشرية اليوم والمتمثلة بالجريمة الإنسانية.

إن الغرب عندما وجد أن الدين النصراني خال من أنظمة الحياة ومعالجات مشاكل الإنسان، وأن رجال الدين النصراني يظلمون الناس باسم الحق الإلهي وادعاؤهم أنهم وكلاء الله في الأرض، وأن الكنيسة استبدت بالشعوب، ووقفت ضد العلم والحقوق والإنسانية وعجزت عن حل المشاكل، وبررت للملوك والإقطاعيين ما يمارسونه من جرائم ضد الشعوب، ومارست حق الغفران وحق الحرمان، وقتلت أكثر من 21 ألف عالم بحجة تحريم العلم… ما أدى إلى انطلاق الثورة الفرنسية تحت شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)

إن الصراع المرير الدموي بين الفلاسفة والمفكرين من جهة ورجال الدين من جهة أخرى استمر حتى ساد الرأي العام في المجتمعات الأوروبية بفصل الدين عن الحياة، والتي شكلت حلًا للعقدة الكبرى عندهم، فهم لم يبحثوا في موضوع الايمان بالله تعالى وتنظيم الحياة بل جعلوها مسألة حرية فردية يحق للفرد أن يعتنق ما يشاء، مع أن الأصل أن الإنسان عاجز، واحتياجه للخالق المدبر فطري، وهو ليس بمقدوره أن يحدد بنفسه وجهة نظره في الحياة بشك صحيح، ولا الغاية من وجوده، ولا أن يضع نظامًا وقواعد صحيحة وعادلة تنسجم مع الغاية من وجوده؛ وهذا يؤكد أن أمر التشريع هو لمن خلق العقل والإنسان والحياة، والذي هو أعلم بما يصلحه وما يفسده.

وعلى هذا الأساس استقر الرأي عند جمهرة الفلاسفة والمفكرين على عدم البحث في الدين من ناحية إنكاره أو الاعتراف به، بل بحثوا في أنه يجب فصل الدين عن الحياة، واعتبروها حلًا وسطًا بين رجال الدين والمفكرين؛ فصارت قاعدة فكرية لهم، وبناء عليها كان أن الإنسان هو الذي يضع نظامه في الحياة وذلك بإطلاق حرية الأفراد في الاعتقاد وحرية الرأي والحرية الشخصية وحرية التملك. وصوِّرت السعادة بأنها الأخذ بأكبر قدر من المتع الجسدية، وكان مقياس المنفعة هو الذي يشكل مفهوم السعادة لديهم، وصاروا يلهثون بجنون وراء كل إشباع حتى وصلوا للإشباع الشاذ؛ وعلى هذا الأساس الخاطئ المبني على ردة الفعل حدث الانقلاب الفكري والسياسي في الغرب قلب لديهم مفاهيم الأشياء ومراتب القيم وساعد على وجود الانقلاب الصناعي والتقني والإداري، وأوجدوا عقدًا اجتماعيًا أوجد الانسجام في مجتمعاتهم. وبالرغم من أن القاعدة الفكرية التي استندوا عليها خاطئة؛ إلا أنها أحدثت نهضة صناعية وعلمية في الوقت الذي انحطوا فيه بعلاقاتهم الاجتماعية وأدى إلى تفشي الانحلال الأخلاقي بينهم، وتركز الثروة بأيدي قلة من التعساء من عبيد المال المتحكمين بمصائر الشعوب…

فالعلمانية ترى أن المجتمع مكون من أفراد. والدولة تشرف على حرية الأفراد. وترى أن تنظيم شؤون الفرد ينتظم بانتظام شؤون المجتمع.

أما بالنسبة للمبدأ الاشتراكي الذي يرى أن الكون والإنسان والحياة مادة، وأن المادة هي أصل الحياة، وهي أزلية، حتى إن الفكر عندهم إنما هو انعكاس المادة على الدماغ، وترى أن المجتمع مجموعة عامة، منها الأرض وأدوات الإنتاج والطبيعة والإنسان باعتباره شيئًا واحدًا هو المادة، وحين تتطور الطبيعة وما فيها يتطور الإنسان ثم المجتمع كله.

وتطور الفرد يدور مع تطور المجتمع كما يدور السن في الدولاب؛ كذلك فقد كان المبدأ الاشتراكي ردة فعل للقضاء على طبقة البورجوازيين والإقطاعيين؛ ولذلك أمموا الملكيات وألغوا ملكيات الفرد.وكان للدولة وحدها عندهم تنفيذ النظام بقوة الجندي وصرامة القانون، وهي تتولى عن الفرد وعن الجماعة شؤونهم، وهي التي تطور النظام.

أما المبدأ الإسلامي الذي يقوم على أساس عقيدة أن لهذا الوجود خالقًا خلقه وهو الله تعالى، وأن لهذه الحياة بداية ولها نهاية، وبعدها حساب على ما اكتسبه الإنسان في هذه المدة الزمنية التي عاشها في الحياة؛ فلا بد إذن من أن يكون تنظيم العلاقات بين الناس وتنظيم حياتهم وضبط أفعالهم وتصرفاتهم بناء على أوامر هذا الخالق المدبر؛ فكان الوحي هو وسيلة التبليغ للناس ما أراد بهم ربهم وما أراده لهم؛ وعليه كان النظام والقانون الذي يسير علاقات الناس وينظم سلوكهم وتصرفاتهم منبثقًا من العقيدة الصحيحة التي تبنى على العقل وتوافق الفطرة: فنظم علاقة الإنسان بخالقه بما بيَّنه من عقائد، وما شرعه من عبادات. ونظم علاقة الإنسان بنفسه بما شرعه من أخلاق وأحكام المطعومات والملبوسات. ونظم علاقته بغيره من الناس بما شرعه من أنظمة للمجتمع تقوم به دولة الخلافة… من هنا كانت العقيدة الإسلامية قاعدة فكرية بنيت عليها حضارة إنسانية عريقة، وتحققت لها نهضة توسعت حتى شملت من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومرت الدولة الخلافة الإسلامية طوال فترة حكمها في ارتفاع كلما أحسنت تطبيق الإسلام، وفي انخفاض كلما أساءت تطبيقه.

ولهذا رأى المفكر «ويل ديورانت» وهو من المفكرين المنصفين البلاد الإسلامية في ظل الخلافة الإسلامية «أن الخلفاء قد أمنوا الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيؤوا الفرص لذوي المواهب، ونشروا الرخاء على مدى ستة قرون في أصقاع لم ترَ قط مثل هذا الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم لنشر التعليم ازدهرت العلوم والآداب والفلسفة…»

وباختصار إن وجود المبدأ لدى أمة من الأمم وهو السبب في نهضتها النهضة الصحيحة أو النهضة الخاطئة. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا هنا هو: بما أن الإسلام هو المبدأ الصحيح بعقيدته العقلية، والتي ينبثق عنها نظام شامل عادل من شأنها أن توجد نهضة، فلماذا هذا الانحطاط والتخلف والرجعية  في حياة المسلمين اليوم؟ وهذا يرجع إلى أمرين: مخلفات العصر الهابط، وزوال الدولة الإسلامية وهيمنة دول الغرب على عالمنا الإسلامي.

أما بالنسبة إلى مخلفات العصر الهابط، فقد كان سببه الضعف الشديد الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام، وإهـمال شأن اللغة العربية، وإغلاق باب الاجتهاد، وسواد عقلية التقليد والاتباع والدروشة حتى قالوا: من لا شيخ له فالشيطان شيخه، وسواد المشاعر المتعددة والمتناقضة مثل تقديس الأضرحة ومقامات الأولياء، وظهور علم الكلام وانتشار المظاهر الصوفية المتأثرة بالفلسفة الهندية التي تدعو إلى العزوف عن الدنيا وتعذيب الجسد لتسمو أرواحهم؛ ما أدى إلى تبلد إحساس المسلمين بوجوب التغيير، وسواد مشاعر القدرية الغيبية، وانتشار فكرة انتظار المهدي الموكل إليه وحده أمر التغيير، وأنه وحده من سيملأ الأرض عدلًا يعد أن ملئت جورًا… مع سيطرة هذه الأفكار على حياة المسلمين، تجمدت العقول وأُبعد التفكير المنتج المبني على القاعدة الفكرية الإسلامية؛ فتسرب الخلل إلى المسلمين؛ ما جعلهم يفصلون بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، وجعلوا العمل للآخرة في مرتبة عليا ما أدى إلى عدم الاهتمام بقضية الاستخلاف في الأرض؛ فصار المسلمون يفهمون الإسلام فهمًا روحانيًا أكثر منه فهمًا فكريًا وسياسيًا وتشريعيًا؛ ولهذا لم يفرق المسلمون بين العلم والثقافة، وبين الحضارة والمدنية، وبين الحكم والإدارة؛ فوقفوا في حيرة من أمرهم أمام النهضة الغربية، ونادوا بتحريم أخذ كل شيء منهم، وحين ظهرت المطابع وعزمت الدولة على طبع القرآن الكريم حرم الفقهاء طبعه، وكفروا كل من يتعلم العلوم الطبيعية، واتهموا كل مفكر بالزندقة.

وهذا ما جعل القائمين على النظام يشعرون أنهم بحاجة إلى قواعد وقوانين لمعالجة مشاكل العصر، وفي الوقت نفسه وجد العجز.

وهذا ما جعل شيخ الإسلام يصدر فتاوى منها (إن ما لا يخالف الإسلام هو من الإسلام) وهذا أدى إلى إدخال العديد من القواعد والتشريعات من أنظمة النشريع الروماني والفرنسي إلى أنظمة الإسلام. بكل ذلك عزلت الدولة والنظام عن المجتمع، فأراد الحكام فرض احترامهم وتقديرهم بتنفيذ أوامرهم بقوة السلاح مستعملين كل وسائل الضغط، وأرهقوا الأمة بما يشاؤون من ضرائب، وغرقت الدولة بالديون؛ فعاشت الأمة في ذعر من حكامها

وهذا ما سهل على الغرب الكافر تحقيق الحلم الذي كان يداعبه قرونًا طويلة للقضاء على الدولة الإسلامية، وبعدما انتهت الحرب العالمية الأولى استولى الحلفاء على جميع بلاد الدولة الإسلامية وقطعوا أوصالها إلى أشباه دول ونصب عليها عملاءه من الحكام.

ولما كان للثقافة الأثر الأكبر على فكر الإنسان الذي يؤثر على مجرى الحياة، عمد إلى فرض ثقافته، فوضع مناهج التعليم على أساس فلسفة (فصل الدين عن الحياة) وأنشأ المدارس والجامعات والمعاهد، ومنع الدين من أن يكون له دخل في السياسة والحكم والاقتصاد، وفرض أنظمته، وغيَّر العرف العام في المجتمعات، وصار القدوة الحسنة لكثير من المطبوعين من أبناء المسلمين المنبهرين بحضارة الغرب؛ حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من الأوضاع السيئة. وفي أتون هذه الفوضى الفكرية، والفراغ السياسي، وتعقُّد الأزمات، وتحكم الفساد بكل مستويات حياة المسلمين… تحكمت الدول الغربية بمصائرنا ونهب خيراتنا ومقدراتنا، فكان البحث عن المخرج الصحيح والعلاج الجذري هو النهضة على الأساس المبدئي. فكفانا ترقيعًا وتجارب وتمييعًا لقضايانا المصيرية في الحياة. فأوروبا نهضت على أفكار من القرن 8 قبل الميلاد في أثينا، ونحن أحق بأن نبحث في تراثنا  الحضاري وتاريخنا.

وأخيراً: إن الشعوب والأمم والدول تقاس بمبادئها ومدى احترامها وتمسكها به.ا ولكل أمة عقيدة وقضية تناضل من أجلها وتسعى لتحقيقها في الحياة، وهي التي تمثل مجموع الثوابت والقيم والمثل العليا التي تشكل هوية الأمة.

وأهـمية هذا الموضوع الواسع تكمن كذلك بتأثيره في نهضة المجتمع، ويحدد دور الدولة الخطير في تحقيق هذه النهضة، والتي لا يمكن تحقيقها بدونها. وهذا ما سنبحثه لاحقًا إن شاء الله تعالى. فكم نحن بحاجة إلى هذه المنهجية في التفكير الصحيح!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *