العدد 352 -

السنة الثلاثون جمادى الأولى 1437هـ – شباط / آذار 2016م

ارتباط العبادات بالزمن في الإسلام (2) -الصيـام-

بسم الله الرحمن الرحيم

ارتباط العبادات بالزمن في الإسلام (2)

-الصيـام-

عبادة الصوم هي المؤشر الحقيقي على ضبط النفس، وكبح جماحها، والتغلّب على شهواتها. وقد جاء القرآن الكريم بتعيين المدة الزمنية أو الأيام التي يجب فيها الصيام، وذلك في نصين كريمين هما:

1- قـوله تعالى: () يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ). ومعنى معدودات: أي مؤَقَّتات بعدد معلوم [انظر: الزمخشري، الكشاف، ج1، ص223]. وهذا العدد المعلوم تحديداً هو شهر رمضان، والذي يدل عليه النص الثاني وهو:

2- قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). فهذا الجزء المعروف من السَّنة القمرية بشهر رمضان، هو الذي جُعل زمناً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين، فكلما حان وقت هذا الشهر من السَّنة، وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه.

ومن جهةٍ أخرى فقد حدد القرآن الكريم الزمن الذي يبدأ فيه الصوم وينتهي بالنسبة لليوم الواحد من أيام رمضان، ويظهر ذلك جلياً في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ).

فقـوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) فيه بيانُ أن الليل كله ظرفٌ للمفطرات التي منها الرَّفث؛ أي الجماع. وقوله: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فيه بيانُ جواز الأكل والشرب طوال الليل، وبدء الصوم هو أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود؛ أي تولّي الليل ومجيء النهار. فقد روى البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: لما نزلت ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) عمدْتُ إلى عقالٍ أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلتُ أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك فقال: «إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار» رواه البخاري. وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) بيانٌ لانتهاء وقت الصوم.

كما جاء هذا التحديد في نصوص من السنة النبوية، ومنها: ما روته عائشة رضي الله عنها، أنَّ بلالاً كان يؤذن بليل، فقال صلى الله عليه وسلم :»كلوا واشربوا حتى يُؤذِّن ابن أمّ مكتوم، فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر» رواه البخاري. قال العيني: «يُستفاد من هذا الباب أن الصائم لـه أن يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق كَفّ، وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين» [بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (دار المعرفة: بيروت)، ج10، ص297]. وفيما يتعلق بوقت انتهاء الإمساك، يدلّ عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم» رواه البخاري.

الأسرار والحكم في توقيت فرضية الصوم:

1- في تحديد الصوم، وتعيين زمنه، وعدم تركه مفتوحاً، من  الحكمة مالا يخفى. ذلك أن بعض الأديان والشرائع القديمة، تجرّدت عن تعيين أيام الصوم، وتحديدها بالبداية والنهاية، فكان الأمر بالخيار، وكان الناس في كثيرٍ من الأديان مخيَّرين في الأيام التي يصومونها، وفي تحديدها؛ فكانت النتيجة أن ذلك جنى على الصوم وضيّعه وأضعف قوَّته، فكان للإنسان أن يصوم متى شاء، وما شاء، والأمر موكولٌ إليه، فتطرّق الوَهَن، وتسربت الخيانة إلى النفوس، وتخطّى الناس الحدود وصعبت المحاسبة، فربّ مفطر إذا حوسب تعلل بأنه قد صام فيما مضى [انظر: أبو الحسن الندوي، الأركان الأربعة: الصلاة- الزكاة – الصوم- الحج، في ضوء الكتاب والسنة].

وإلى هذه الحكمة الدقيقة في التحديد والتعيين، يشير الشيخ ولي الله الدهلوي بقوله: «وإذا وقع التصدّي لتشريع عام، وإصلاح جماهير الناس، وطوائف العرب والعجم، وجب أن لا يُخيَّر في ذلك الشهر ليختار كل واحدٍ شهراً يسهل عليه صومه، لأن في ذلك فتحاً لباب الاعتذار والتسلل، وسداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإهمالاً لما هو من أعظم طاعات الإسلام» [الدهلوي، حجة الله البالغة]. ثم يقول وهو يذ كر الحاجة إلى تعيين المقدار: «ثم وجب تعيين مقداره، لئلا يفرّط أحدٌ فيستعمل منه ما لا ينفعه وينجع فيه، أو يفرط مفرط فيستعمل منه ما يوهن أركانه، ويُذهب نشاطه ويُنَفِّه (يتعب) نفْسه، ويُزيره القبور، وإنما الصوم ترياق يُستعمل لدفع السموم النفسانية، مع ما فيه نكاية بمطيّة اللطيفة الإنسانية ومنصتها، فلا بدّ من أن يتقدر بقدر الضرورة» [الدهلوي، حجة الله البالغة، ص 49].

2- في ارتباط فريضة الصوم بشهر واحد في العام أكبر الأثر في تضامن المسلمين ووحدتهم. فـ «الله تعالى لم يفترض الصيام على المسلمين جميعاً إلا في شهرٍ واحد بعينه، ليصوموا جميعاً لا متفرِّقين. وفي ذلك أيضاً كثير من المنافع، فإذا جاء شهر رمضان، أظل المجتمع المسلم كله جو من الطهارة والنظافة والإيمان وخشية الله وطاعة أحكامه ودماثة الأخلاق وحسن الأعمال، وكسدت سوق المنكرات، وعم انتشار الخيرات والحسنات، وبدأ الصالحون من عباد الله يتعاونون فيما بينهم على أعمال البر والإحسان، وبدأ يعتري الأشرار الخجل من اقتراف المنكرات، ونشأت في الأغنياء عاطفة المساعدة لإخوانهم الفقراء والمساكين، وبدؤوا ينفقون أموالهم في سبيل الله، وأصبح المسلمون جميعاً في حالة متماثلة، وكل ذلك يكوِّن فيهم الشعور العام بأنهم جميعاً جماعة واحدة. وتلك وسيلة ناجعة لتنشأ فيهم عاطفة التحابِّ والإخاء والمواساة والتعاون والوحدة» [المودودي، مبادئ الإسلام].

3- في وصفه سبحانه لأيام رمضان بأنها ( أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) ما يشير إلى قِلّة هذه الأيام، والتي تشكّل شهراً واحداً في العام، الأمر الذي يخفف وقع التكليف بالصيام على النفوس؛ وفي هذا تذكير للناس برحمة الله تعالى، وتيسير شرعه، لأنه لو شاء أن يفرض عليهم صوم العام كله أو معظمه لفعل، ولكنه تعالى من رحمته اكتفى منهم بالقليل.

4- أما الحكمة من تخصيص الصوم بشهر رمضان، فقد نطق بها القرآن الكريم. قال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ  ) فهو الشهر الذي شرفه الله بنـزول القرآن، وأُفيضت فيه على البشرية هداية الرحمن. ويدل هذا التخصيص على «أنّ بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة، فلما كان هذا الشهر مختصاً بنـزول القرآن، وجب أن يكون مختصاً بالصوم» [الرازي، التفسير الكبير].

ومن مظاهر هذه الصلة المتينة بين رمضان والقرآن، ما ورد من مُدارسة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم مع جبريل – عليه السلام- في كل يوم من أيام هذا الشهر الفضيل. فقد روى البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة». [انظر: البخاري، الصحيح مع الفتح، ج1، ص44، كتاب بدء الوحي]. لقد كان لتخصيص هذا الشهر بفرضية الصيام تذكير للمسلمين بنعمته تعالى بإنزال القرآن الكريم عليهم، حيث اقتضت حكمته تعالى «أنّ وقت أداء الطاعة، هو الوقت الذي يكون مذكراً بنعمة من نعم الله تعالى، مثل يوم عاشوراء، نصر الله تعالى فيه موسى – عليه السلام- على فرعون فصامه، وأمر بصيامه، وكرمضان؛ نزل فيه القرآن، وكان ذلك ابتداء ظهور الملة الإسلامية» [الدهلوي، حجة الله البالغة، ص99].

5- أمَّا السر في التحديد الزمني لهذا الصيام من طلوع الشمس إلى غروبها، والامتناع إبّان هذه الفترة عن تناول المفطرات، فلا يخفى ما فيه من تربيةٍ عملية للأمة الإسلامية على الانضباط والالتزام، والدقة في مراعاة الأوقات والانتباه لها، وهو ما أشرتُ إليه في الحكمة من توزيع الصلاة على خمسة أوقات في الليل والنهار. وهو -بشكلٍ عام- أمرٌ ملحوظ في معظم التشريعات الإسلامية، التي جاءت لتنظم علاقة الإنسان مع الله ومع الناس ومع نفسه.

6- والحكمة من جعل شهر رمضان شهراً قمرياً، تظهر من وجهين، الأول: سهولة ضبط بدئه ونهايته، برؤية الهلال والتقدير. ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل شكل القمر متغيراً، بحسب الزمن الذي يمضي من الشهر، مما يسهّل معرفة أوائل الشهور، وأنصافها، وأواخرها. والثاني: إنَّ كون رمضان شهراً قمرياً، يجعله يدور مع العام، في جميع أوقاته، من صيف وشتاء وربيع وخريف، وفي هذا من الحكمة مالا يخفى.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *