العدد 348 -

السنة الثلاثون محرم 1437هـ – تشرين الثاني 2015م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

  1. بعد أن بيّن الله سبحانه في الآيات السابقة دلائل الإيمان ووحدانيته ثمّ حبّ الله عند المؤمنين وحبّ الأنداد عند الكافرين وما أعدّ الله لهم من عذاب أليم لاتخاذهم من دون الله أنداداً، بيّن في هذه الآيات إنعام الله ورزقه الذي يشمل الناس أجمعين حتى الكافرين فيهم.

وفي الآيات خطاب للناس أن يأكلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، والأمر ( كُلُوا   ) للإباحة.

( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) للتحريم أي لا تتبعوا طرقه ولا تقتدوا به.

( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي ظاهر العداوة للإنسان. وفي هذا دلالة على أن الشيطان مهما أحكم خططه وفكّر ودبر، فإنه يبقى ظاهراً مكشوفاً لا ينخدع به أصحاب العقول السليمة والفطرة المستقيمة، وذلك لسوء ما يدعو إليه.

ثم بَيَّن الله سبحانه أن الشيطان لا يأمر بخير قطّ بل يأمر بكلّ أنواع الشرّ سواء ما لم تصل عقوبته إلى الحدّ – وهو السوء – أو ما كان الحدّ عقوبته – وهو الفحشاء – كما قال ابن عباس t. أو ما وصل إلى الكفر كالافتراء على الله بالتحليل والتحريم كما كان يصنع المشركون ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) وفي هذا دلالة على ضرورة التقيد بأوامر الله ونواهيه وعدم الافتراء عليه سبحانه، وإلا كان إفكاً كبيراً وبهتاناً عظيماً.

  1. ثم يبين الله سبحانه حال الذين يتبعون خطوات الشيطان من أنهم إذا قيل لهم التزموا شرع الله أجابوا بأنهم لا يتبعون إلا ما وجدوا عليه آباءهم، وهنا يستنكر الله أمرهم ويستقبح جوابهم موبخاً إياهم على اتّباعهم آباءهم تقليداً دون نظر أو تدبُّر، علماً بأن آباءهم على ملة باطلة لم يدينوا بها وهم يعقلون أو يهتدون.

( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) الهمزة لاستنكار الحال التي هم عليها واستقباحه والتعجب منه، و(الواو) للحال، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم في دينهم وحال الآباء أنهم يدينون بدون عقل ولا هدى.

  1. ثم يضرب الله مثلاً لهؤلاء الكفار الذين يتبعون آباءهم على ضلالتهم دونما تدبر أو تفكر، فَمَثَلُهم، في الانتفاع بما يُدعَون إليه من خير واتباع لما أنزل الله، كَمَثَل البهائم التي لا تفهم من نعيق راعيها سوى مجرد أصوات بلا معنى فهي لا تسمع منهم إلا دعاء ونداء، مجرد أصوات تصل من قريب أو بعيد. وهذا كناية عن عدم التدبر والإدراك والفهم السليم الذي يشترك فيه الذين كفروا والبهائم!

( كَمَثَلِ ) من النعيق وهو التتابع في التصويت على البهائم للزجر.

( بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) أي بالبهائم التي لا تسمع إلا مجرد أصوات دون فهم لمعناها، وقد ذكرت ( ما) التي لغير العاقل للدلالة على ذلك.

( إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) (الدعاء) للقريب، و(النداء) للبعيد، أي البهائم التي لا تسمع إلا أصواتاً تأتيها من بعيد أو قريب.

ويكون المعنى كاملاً أن مثل الكافرين الذين إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع الدين الذي عليه آباؤنا مهما كان بطلانه، فنتبعه تقليداً دون نظر أو تدبر.

مثل هؤلاء في فهمهم وإدراكهم بما يوعظون به كمثل البهائم التي يزجرها راعيها فهي لا تسمع إلا أصواتاً، فتدور مع الأصوات حيث دارت دون أن تدري مدلولات الأصوات أهي أصوات شر للبهائم أم أصوات خير؟ فيها لعنات عليها أو مدح لها دون أن تميز صالح الأصوات من باطلها، غثها من سمينها، وهي أصوات عليها وحسب.

فكما تدور البهائم مع الأصوات التي تصلها جيئة وذهاباً دون أن تفهم معناها، فكذلك هم المقلدون يدورون مع دين آبائهم في الذهاب والإياب دون فهم لهذا الدين أو تدبر له ليقفوا على الصواب منه، بل يغرقون في باطله وضلاله كأنهم بلا آذان يسمعون بها، وبلا ألسنة ينطقون بها، وبلا أعين يبصرون بها فهم والحالة هذه لا يعقلون كأنما عطلت عقولهم ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ).

  1. ثم يخصّ الله عباده المؤمنين بخطاب خاص بعد الخطاب العام للناس أجمعين، وهو رحمة مخصوصة ورضوان على المؤمنين، فيرزقهم من الطيبات ويشكرونه سبحانه على نعمه لإيمانهم به وعبادتهم إياه – جلّ ثناؤه -. وهذا الخطاب المخصوص لهم بعد الخطاب العام للناس دلالة على ما أعده الله لهم من نعيم ورضوان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ).

  2. ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ) أي حرم أكل هذه المذكورة. والعرب إذا أطلقوا التحريم على ما يؤكل كان المعنى: تحريم أكله حتى وإن لم يذكر تحريم الأكل. فمثلاً ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) المائدة/آية3 أي أكلها. وإذا أطلقوا التحـريم على مـا يشرب كان المعنى: تحريم الشرب، فمثلاً “كلّ مسكر خمر وكلّ خمر حرام[1] أي شربه. وإذا أطلق التحريم على النساء كان المقصود النكاح ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) النساء/آية23 أي نكاحهن.

وذلك لأن العرب إذا أطلقوا اللفظ دخل فيه لازمه دلالة حسب لغتهم دون الحاجة إلى ذكره.

( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) والميتة لفظ عام يقع في كلّ ما لم يُذكَّ الذكاة الشرعية وهو الذبح والنحر المبين في الأحكام الشرعية، وذلك فيما فيه ذكاة كالأنعام وكلّ ما أُحِلّ أكله، والميتة تقع كذلك في كلّ ما حرّم أكله من حيوانات أخرى مهما كانت صورة القتل أو الموت الواقعة بها كصورة الذكاة وغيرها. أي أن كلَّ ما يحل أكله لا يقال عنه ميتة إلا إذا مات بغير الذكاة الشرعية، أما ما يحرم أكل لحمه فيشمله لفظ ( الْمَيْتَةَ ) سواء أمات على صورة الذكاة الشرعية أم على غير صورتها.

ويدخل في الميتة كلّ عضو قطع من حي أو فصل عنه وذلك لحديث رسول الله e: “ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة[2].

والميتة لفظ عام فينطبق على كلّ ميتة إلا إذا ورد دليل تخصيص كما ورد في حديث رسول الله e: “أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال[3].

( وَالدَّمَ ) وهو كذلك لفظ عام فهو ينطبق على كل دم إلا إذا ورد دليل تخصيص كما في الحديث السابق حيث خُصص التحريم في غير الموجود في الكبد والطحال وكذلك كما ورد في الآية الأنعام ( أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) الأنعام/آية145 فقد ورد الدم فيها مقيداً بالمسفوح أي السائل المتدفق من الذبيحة فيكون الدم المحرم هو المسفوح فقط وفي غير الكبد والطحال.

( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) وهو الحيوان المعروف.

( وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ) كأن ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله، ( ما  ) ما من صيغ العموم فاللفظ عامّ يشمل كلّ ما أهل لغير الله به سواء أذبح للأصنام أو لغيرها. والإهلال رفع الصوت فمن ذبح مسميا باسم غير الله فذبيحته محرمة.

  1. ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) يبين الله سبحانه أن الذي يضطر لأكل ما حرمه الله في الآية فإن الله غفور رحيم فلا يكون هناك إثم عليه في الأكل من تلك التي حرمها الله.

غير أن رفع الإثم على الأكل مشروط بأن يكون حال اضطرار محققاً لأمرين إن تحققا رفع الإثم وإلا فلا عذر له وعليه عقوبة، وهذان الأمران هما المذكوران في الآية مضافان للحال ( غَيْرَ ):

أ. ( غَيْرَ بَاغٍ ) أي غير ظالم، والظلم وضع الشيء في غير محله ومعنى ذلك أن يكون هذا الأكل بدافع الاضطرار للحفاظ على الحياة، فإن أكلها لغير ذلك يكون قد ظلم نفسه بهذا الأكل لأنه استعمله في غير محله، فالله تعالى قد حرم أكل الميتة فمحلها أن لا تؤكل إلا اضطراراً للحفاظ على الحياة، فلو أكلها في هذه الحالة يكون قد استعمله في محله أما إن أكل مما حرمه الله ليس اضطراراً للحفاظ على الحياة فيكون قد استعمله في غير محله ويكون بذلك باغياً أي ظالماً.

وقلنا إن (باغيا) بهذا المعنى أي استعمال أكل الميتة في غير موضعه وهو الاضطرار للحفاظ على الحياة، قلنا ذلك لأن الله سبحانه قد ذكر هذا الأمر في آية أخرى ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ) المائدة/آية3 وهذه الآية ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) ، والاثنتان في الموضوع نفسه، وتعقيبٌ على المحرمات نفسها، وهذا يعني أن المعنى واحد على النحو التالي:

( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ  ) المائدة/آية3 أي مجـاعة حفاظاً على الحياة، وهي نفسها ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ) أي غير ظالم، وبذلك يستعمل الأكل في محله للحفاظ على الحياة.

ب. ( وَلَا عَادٍ ) أي غير متجاوز ما يلزمه للحفاظ على حياته عند حصوله المجاعة المؤدية إلى الهلاك فيأكل بقدر حاجته ولا يتجاوز ذلك إلى شهواته ولذاته من أكل تلك المحرمات، أو يعمد إليها وهو يجد حلالاً غيرها يسد حاجته، فإن تجاوز الحاجة أو لجأ إلى أكل ما حرمه الله وهو واجد غيره حلالًا طيباً، عندها يكون قد تعمد الإثم ومال إليه وهو المعنى نفسه في الآية الأخرى ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ) المائدة/آية3 أي غير متعمد لإثم وغير مائل إليه.q

[1]               مسلم: 3733، 3735، الترمذي: 1784، النسائي: 5488، ابن ماجه: 3381، أحمد: 2/29، 31

[2]               الترمذي: 1400، أبو داوود: 2475، ابن ماجه: 3207

[3]               ابن ماجه: 3305، أحمد: 2/97

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *