العدد 347 -

السنة الثلاثون ذو الحجة 1436هـ – أيلول / ت1 2015م

رداً على شطحات الريسوني: الخلافة من الضروريات لحفظ الشريعة ومقاصدها ربط المقاصد بالوسائل أو الفكرة بالطريقة عند الشاطبي (4)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

رداً على شطحات الريسوني:

الخلافة من الضروريات لحفظ الشريعة ومقاصدها

ربط المقاصد بالوسائل أو الفكرة بالطريقة عند الشاطبي (4)

محمود عبد الكريم حسن

 

تبين فيما سبق افتراءات الدكتور الريسوني بإنكاره الأدلة الثابتة على وجوب الخلافة، وبتهوينه من شأنها وعدِّها من الوسائل لا المقاصد، كما تبيَّن تطفُّله على علم المقاصد، وهو ما سيزداد بياناً في هذه المقالة الأخيرة في هذا الموضوع هنا.

أنتقل إلى مسألة أخرى من صميم منهج الشاطبي شيخ المقاصد وإمامها، كررها كثيراً في «موافقاته»، ومع ذلك نرى كثيرين من زاعمي الاستناد إلى منهج المقاصد يجهلونها ويخالفونها، وفي مقدمة هؤلاء الدكتور الريسوني الذي رأيناه ينقضها نقضاً صارخاً وهو يزعم علم المقاصد ويتصدر فيه. هذه المسألة هي: هل يجوز تغيير الأحكام الشرعية أو مخالفتها بحجة مقاصدها؟

وقد أوردت تحريفات الريسوني فيما سبق بقوله إن الله لم يفرض علينا أن نقيم الخلافة، وإنه «لو اختفى لفظ الخلافة والخليفة من حياة المسلمين إلى الأبد ما نقص ذلك من دينهم مثقال ذرة ولا أصغر منها، ولكن إذا اختفى العدل واختفت الشورى وشرعية الحكم ليوم واحد فتلك طامة كبرى».

وهذا القول من الريسوني دعوة صريحةٌ وقحةٌ إلى محاربة الخلافة ودعاتها، وتحريفٌ للإسلام بزعمه أن المهم هو العدل والشورى كيفما كان ذلك، وبأي طريق أتى، بينما حقيقة منهج المقاصد على النقيض من هذا تماماً كما تبين وكما سيزداد بياناً. فعلى سبيل المثال، يقرر الشاطبي أن الجهاد ضروري وأن الوالي فيه ضروري، والمعنى أن الخليفة ضروري، وأما العدالة في الخليفة – والعدالة تتضمن معنى العدل – فهي من المكملات أو التحسينيات، أي هي كالفرع الخادم للضروري والذي هو ليس ركناً فيه. ويذهب الشاطبي إلى أنه إذا عُدم الوالي فقد عُدمت العدالة وعُدم كل حكم متعلقٍ بالوالي، بينما إذا عدمت العدالة في الوالي فقد عُدم وصفٌ فيه، والموصوف أصل للصفة، وإذا عُدم الموصوف عدمت الصفة، بينما إذا عدمت الصفة يبقى الموصوف وإن اختلَّ. ولذلك أمر الشارع بالمحافظة على الأصول وإن فقدت منها بعض الفروع، إذ لا يصح أن يرجع الفرع على الأصل بالإبطال، بينما يصح أن يبقى الأًصل وإن انتقضت بعض فروعه. وفيما يلي مثال من أقوال الشاطبي الصريحة في ذلك: «فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضرورة، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يُعتبر، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة، والعدالة مكملة لذلك المطلوب، ولا يبطل الأصل بالتكملة»، وهذا نقض صريح جليٌّ من الشاطبي للريسوني في النص الذي نقلته عنه أعلاه الذي يقول فيه إن المهم العدل والشورى ولو اختفت الخلافة…؛ لذلك أسأل مرةً أخرى: هل فهمَ هذا (العالم المقاصدي) فكرة المقاصد؟

وجرياً على نفس المنهج الذي يقرره الشاطبي، فإن مقاصد الشريعة إنما مصدرها الشريعة، أي نصوص الشريعة وأحكامها، فإذا كانت مقاصد الشريعة أصولاً شرعية، فالنصوص والأحكام الشرعية هي أصول تلك الأصول، فلا يصح أن تُلغى الأحكام الشرعية بحجة مقاصدها، كما لا يصح أن تُلغِيَ الشريعةُ مقاصدها، إذ هي لم تكن مقاصد إلا بعد أن قررتها الشريعة بالاستقراء.

لذلك فإن ما يشطح إليه الريسوني وبعض المــُحَرِّفة من أن ما كان معدوداً من الوسائل فيمكن إلغاؤه ورفعه من الشريعة ولن ينقص ذلك من الدين شيئاً، فهو افتراء لا أصل له في الدين ولا في منهج الشاطبي ولا في منهج المقاصد، وإنما هو أهواء أو ما هو أشنع من ذلك.

والشاطبي يذهب إلى تلازم أو ارتباط تامٍ بين المقصد والوسيلة التي تفضي إليه بحيث لا ينفصل أحدهما عن الآخر. فالمقصد حكم شرعي وغاية شرعية قررتها الشريعة، والوسيلة كذلك حكم شرعي وكيفية شرعية قررتها الشريعة، فكلاهما ثابتان بالشرع. وما قررته الشريعة كوسيلة أو كيفية معينة لأجل مقصد أو هدف معين، فلا يصح شرعاً أن يُتَّخذ لتحقيق ذلك المقصد إلا هذه الوسيلة، كما لا يصح اتخاذ هذه الوسيلة لتحقيق أي مقصد أو هدف إلا ذلك المقصد أو الهدف، هذا هو التلازم أو الارتباط بين المقصد والوسيلة عند الشاطبي أو بين الفكرة والطريقة. يشير الشاطبي إلى هذا الأمر أكثر من مرة، ويبحثه بالتفصيل في بحثه للأسباب والمسببات، على اعتبار أن السبب إنما سُمي سبباً لأنه يؤدي إلى أمر هو نتيجة له أو مسبَّب له، والمسبَّب إنما سمي مُسبَّباً لأنه لا يُتوصل إليه إلا بطريقةٍ أو وسيلةٍ أو بسبب. يقول: «الأسباب من حيث هي أسباب شرعية وُضعت لمسببات إنما شُرعت لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة أو المصالح المستدفعة»، ويقول: «والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان:

أحدهما: ما شُرِعت الأسباب لأجلها…

والثاني: ما سوى ذلك مما يُعلمُ أو يُظنُّ أن الأسباب لم تُشرع لها، أو:

(والثالث): لا يُعلم ولا يُظن أنها شُرعت لها أو لم تُشرع. فتجيء الأقسام ثلاثة:

أحدها: ما يُعلم أو يُظن أن السبب شُرع لأجله، فتسبُّبُ المتسبِّبِ فيه صحيحٌ لأنه أتى الأمر من بابه وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسُّل به إلى ما أذن أيضاً في التوسل إليه…

والثاني: ما يُعلم أو يُظنُّ أن السبب لم يُشرع لأجله ابتداءً، فالدليل يقتضي أن ذلك التسبُّبَ غيرُ صحيح؛ لأن السبب لم يُشرع أولاً لهذا المــُسَبَّب المفروض، وإذا لم يُشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدةٍ بالنسبة إلى ما قُصدَ بالسبب فهو إذاً باطل، هذا وجه. ووجهٌ ثانٍ: وهو أنَّ هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروضِ غيرُ مشروع، فصار كالسبب الذي لم يُشرع أصلاً، وإذا كان التسببُ غيرُ المشروعِ أصلاً لا يصح، فكذلك ما شُرع إذا أُخذ لما لم يُشرع له. ووجهٌ ثالث: إن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبَّب المعين دليلٌ على أن في ذلك التسبب مفسدةً لا مصلحةً، أو أن المصلحة المشروعَ لها السببُ منتفيةٌ بذلك المسبَّب، فيصير السبب بالنسبة إليه عبثاً» ثم قال:

والثالث: «هو أن يقصد بالسبب مسبَّباً لا يُعلم ولا يُظن أنه مقصودٌ للشارع أو غير مقصودٍ له، وهذا موضع نظرٍ وهو محل إشكالٍ واشتباه، وذلك أنَّا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السببُ غيرَ موضوع لهذا المــُسبَّب المفروض، كما أنه يمكن أن يكون موضوعاً له ولغيره، فعلى الأول يكون التسبب غير مشروع، وعلى الثاني يكون مشروعاً، وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعاً أو غير مشروع كان الإقدام على التَسَبُّبِ غير مشروع». ثم قال: إن السبب «إنما فُرض مشروعاً بالنسبة إلى شيءٍ معيَّنٍ مفروضٍ معلومٍ لا مطلقاً»، وقال: «بل علمنا أن كثيراً من الأسباب شُرعت لأمور تنشأ عنها، ولم تُشرع لأمور وإن كانت تنشأ عنها وتترتب عليها… فلما علمنا أنه مشروعٌ لأمور مخصوصةٍ، كان ما جُهل كونه مشروعاً له مجهولَ الحكم، فلا تصح مشروعية الإقدام حتى يُعرف الحكم»، ثم قال: «فإذا ثبت هذا وتبين تسبُّبٌ لا ندري أهو مما قصده الشارع بالتسبُّبِ المشروع أم مما لم يقصده، وجب التوقف حتى يُعرف الحكم فيه… «

هذه النصوص للشاطبي  – وغيرها كثير – يجب على مريدي فهم المقاصد ومنهج الشاطبي فيها أن يُنعموا النظر فيها وأن يدرسوها بتأنٍّ، وليس أن يقفزوا عليها ثم يلقوا علينا قصورهم وتناقضاتهم، كدأب كثيرين من المتشدقين بمقاصد الشريعة، بل ومن محققي كتاب الموافقات. وسأسهِّل النصوص المذكورة أعلاه بالمثال:

يقول الشاطبي إن تحقيق الغاية الشرعية لا يصح إلا بالطريقة الشرعية التي وضعها الشارع طريقةً لها. وكذلك إذا جاء الشرع بطريقة معينةٍ لتحقيق غاية معينةٍ، فلا يصح السعي لتحقيق تلك الغاية إلا بهذه الطريقة. ويضيف الشاطبي أنه لا يصح أن تُتَّخذ تلك الطريقة أو أن يُتوسَّل بها لتحقيق غاية أخرى ولو كانت تلك الغاية مقصودةً شرعاً؛ وذلك لأن تلك الطريقة أو الوسيلة إنما شُرعت لأجل تلك الغاية أو المقصد، ولم تشرع لكل مقصد. فالشارع وضع حكم قطع اليد لمنع السرقة، فلا يصح أن يُتخذ غير قطع اليد لهذه الغاية، كما أنه لا يجوز أن يُتخذ قطع اليد لأي مقصد آخر كمنع الردة مثلاً أو منع الزنى. حتى وإن كانت الطريقة أو الوسيلة الأخرى أبلغ في الزجر، كأن يوضع القتل أو مصادرة الأملاك كلها أو الأمران معاً بدلاً من القطع أو معه.

وكذلك يُقال في الخلافة فهي طريقة أو وسيلةٌ لتطبيق الإسلام كله، فلا يجوز اتخاذ طريقةٍ أخرى لأجل ذلك – على فرض وجودها – كما لا يجوز اتخاذ الخلافة لأي أمر آخر غير تطبيق الإسلام. ولذلك فلا يعد الإسلام مطبقاً ما لم تكن الخلافة هي التي تطبقه.

هذا ما ينص عليه نهج المقاصد والوسائل، وهو قبل ذلك ما ينص عليه الشرع لجهة حرمة تحريف أو تبديل أي حكم شرعي، سواء وُضع في خانة مقاصد أو وسائل أو غير ذلك، ومهما اصطُلح عليه من أسماء. ولم نكن أصلاً بحاجة لولوج هذا المنهج من أساسه، لولا أن بعض المحرِّفة تذرعوا به واتخذوه وسيلةً لمقاصدهم.

وثمة مداخل أخرى – وعلى نهج الشاطبي نفسه – للرد على هذه الشرذمة أو الشراذم من الذين يتذرعون بالمقاصد والوسائل لمواجهة صحوة الأمة على دينها، وليضلُّوها عن التوجه الصحيح  نحو العمل الشرعي المنتج لإقامة دولة الخلافة بعد إذ لمسته، وليحرِّفوا أحكام الإسلام ويقدموا أفكار الكفر من ديمقراطية وغيرها بلبوس إسلامي مخادع، ومن هذه المداخل أحد أهم المقاصد عند الشاطبي وأوسعها بحثاً عنده، وهو ما سماه قصد التعبد والامتثال أو قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة. ومفاده باختصار أن قصد التعبد والامتثال لأمر الشارع موجود في كل أحكام الشريعة، أي في المقاصد وفي الوسائل، إذ كلها أحكام شرعية نتعبد الله بها، والأحكام التي جعلها الشارع طريقاً إلى المقاصد لا يجوز إلغاؤها بحجة أن المهم تحقيق القصد أو المعنى. فقصد الشارع في أن يعبده المكلف موجود في كل الأحكام، سواء أكانت من العبادات أم من العادات، قال الشاطبي: «إن كل حكم شرعي ليس بخالٍ عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد»، ويقول بخصوص ما جعله الشرع سبباً لمسبَّب أي ما أريد لغيره أو ما كان وسيلة لمقصد إن هذا ثابت لا يتغير ولا يرتفع ولو تغير الزمان أو تقدمت الاكتشافات، فيقول إن من خصائص الشريعة: «الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبتَ سبباً فهو سببٌ أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام، فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فُرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك».

أعتقد أن في ما مرَّ كفايةً لرد كل ما افتراه الدكتور أحمد الريسوني بهدف إنكار وجوب الخلافة، ولبيان أنه بتذرعه بالمقاصد يهرف بما لا يعرف، وكذلك لبيان أن الخلافة من الضروريات وأنها هي الطريقة أو الوسيلة الشرعية والوحيدة لتطبيق الإسلام، وأنها في حال غيابها يصبح إيجادها هو المقصد الأهم والأعلى فوق كل الضروريات، إذ بغيابها تضيع وتختفي سائر المقاصد الضرورية وكذلك الحاجية والتحسينية.

وأختم بنصيحة للريسوني ولكل خائض في مقاصد الشريعة وفي «موافقات» الشاطبي، ولكل مهتم بهذا الموضوع أن يعمل بنصيحة الشاطبي، فلقد توقع – رحمه الله – وجود هؤلاء المتطفلين فحذرهم بقوله: «وَمِنْ هُنَا لَا يُسْمَحُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ نَظَرَ مُفِيدٍ أَوْ مُسْتَفِيدٍ؛ حَتَّى يَكُونَ رَيَّانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، مَنْقُولِهَا وَمَعْقُولِهَا، غَيْرَ مُخْلِدٍ إِلَى التَّقْلِيدِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذْهَب، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ هَكَذَا؛ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَلِبَ عَلَيْهِ مَا أَوْدَعَ فِيهِ فِتْنَةً بِالْعَرَضِ، وَإِنْ كَانَ حِكْمَةً بِالذَّات» وهذا ما حصل مع الدكتور الريسوني، فذهب يعبث بالشريعة ويلغي أحكامها متبجحاً بمقاصدها، وكأنه بعد إلغاء الشريعة سيبقى ثّمَّ مقاصد.

اللهم أَعِنَّا على اجتناب الأهواء، وعلى أن نكون من العاملين الممتثلين، ومن المؤيَّدين بنصرك وبإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، والحمد لله رب العالمين.q

[انتهى].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *