العدد 346 -

السنة الثلاثون ذو القعدة 1436هـ – تموز / آب 2015م

طلحة بن عبيد الله التيمي رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

طلحة بن عبيد الله التيمي رضي الله عنه

من سرَّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه،

 فلينظر إلى طلحة بي عبيد الله

[محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

  كان طلحَة بنُ عبيدِ الله التميميُّ يَمضي مع قافِلةٍ من قوافِلِ قريشٍ في تجارةٍ له إلى بلادِ الشامِ، فلمَّا بلغتِ القافلة مدينة بُصرى (مدينة في الشام، وهي الآن من محافظة حوران في سورية)، هبَّ الشيوخ من تجارِ قريشٍ إلى سُوقها العامرةِ يبيعونَ ويَشترون. وعلى الرغمِ من أنَّ طلحةَ كان شاباً حدثاً (صغير السن) ليسَ له مثلُ خبرتِهم في التجارة، إلا أنّه كان يَملكُ من حدّة الذكاءِ ونفاذِ البصيرةِ ما يُتيحُ له مُنافستهم، والفوزَ من دونهم بأفضلِ الصَّفقاتِ. وفيما كان طلحة يروحُ ويَغدو في السّوق التي تموجُ بالوافدينَ عليها مِن كلِّ مكان، حدثَ له أمرٌ لم يكنْ سبباً في تغيير مجرى حياتِه كلها فَحسبُ،وإنّما كان بشيراً بتغيير سَيرِ التاريخِ كله… فلنترُكِ الكلامَ لطلحَة بنِ عُبيد الله ليرويَ لنا قِصته المثيرةَ.

 قال طلحَة: بينما نحنُ في سوقِ بُصرى، إذا راهبٌ (رجل الدين عند النصارى) يُنادي في الناسِ: يا مَعشرَ التُّجار، سَلوا أهلَ هذا الموسِم (مجتمع الناس للحج أو للبيع والشراء)، أفيهم أحدٌ من أهلِ الحَرَم؟ (أهل مكة). كنتُ قريباً منه فبادرتُ إليه وقلتُ: نعم أنا مِن أهلِ الحَرَم. فقال: هَل ظهرَ فيكمْ أحمدُ؟. فقلت: ومَن أحمدُ؟!. فقال: ابنُ عبدِ الله بنِ عبدِ المطلبِ، وهذا شهرُه الذي يظهَرُ فيه، وهو آخِرُ الأنبياءِ. يخرجُ من أرضِكم من الحَرَم، ويُهاجرُ إلى أرضٍ ذات حجارةٍ سُودٍ، ونخيلٍ وسباخٍ (أرض فيها نزٌّ وملح) يَنزُّ (يتحلبُ) منها الماءُ. فإياك أن تُسبقَ إليه يا فتى.

قال طلحة: فوقعَتْ مقالته في قلبي، فبادرتُ إلى مطاياي (جمالي) فرَحلتها (وضعت عليها رحالها استعداداً للسفر)، وخَلَّفتُ القافِلةَ ورائِي، ومَضيتُ أهوِي هويّاً (اندفع مسرعاً) إلى مكةَ. فلما بلغتهَا قلت لأهلي: أكان مِن حدثٍ بَعدَنا في مكة؟ قالوا: نعم، قامَ محمدُ بنُ عبدِ الله، يزعمُ أنّه نبيُّ، وقد تبِعهُ ابنُ أبي قحافة (يريدون أبا بكر). قال طلحة: وكنتُ أعرفُ أبا بكرٍ، فقد كان رجُلاً سهلاً محبَّباً مُوَطأ الأكنافِ (لين الجانب)، وكان تاجراً ذا خلقٍ واستقامةٍ، وكنّا نألفه ونحبُّ مجالِسه لِعلمِه بأخبَار قريشٍ، وحِفظهِ لأنسابها. فمضيتُ إليه وقلتُ له: أحَقاً ما يُقالُ مِن أنَّ محمَّدَ بنَ عبدِ الله أظهرَ النبوةَ، وأنكَ اتبعته؟!

قال: نعم، وجَعل يقصُّ عليَّ من خبره، ويُرَغِّبُني في الدُّخول معه، فأخبرته خبر الرّاهبِ، فدهِش له وقال: هَلمَّ (اِمضِ) معِي على محمدٍ لتقصَّ عليه خبرَكَ، ولتِسمعَ ما يقول، ولِتدخل في دين الله. قال طلحة: فمضَيتُ معه إلى محمدٍ، فعرضَ عليَّ الإسلامَ، وقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، وبَشَّرَني بخيري الدُّنيا والآخرةِ؛ فشرحَ الله صدرِي إلى الإسلامِ، وقصَصتُ عليهِ قصةَ راهِبِ بُصرى فَسُرَّ بها سُروراً بَدا على وجهه، ثم أعلنتُ بينَ يديهِ شهادةَ أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فكنتُ رابعَ ثلاثةٍ أسلموا على يَدي أبي بكر.

 وقعَ إسلامُ الفتى القرشِي على أهلهِ وذويه وقع الصاعقةِ. وكان أشدّهم جزعاً لإسلامه أمهُ؛ فقد كانت ترجو أن يسودَ قومَه لما يَتمتعُ به من كريم الشمائلِ وجليلِ الخصائل. وقد بادَرَ إليه قومُه لِيثنوه عن دينهِ فوجدوه كالطودِ الراسخِ الذي لا يَتزعزعُ. فلمَّا يئسوا من إقناعِه بالحُسنى لجَؤوا إلى تعذيبهِ والتنكيلِ به. حَدَّثَ مسعودُ بنُ خراشٍ قال: بينما كنت أسعى بينَ الصفا والمروةِ، إذا أناسٌ كثيرٌ يَتبعُونَ فتىً أوثِقت يداه إلى عُنقهِ، وهم يُهرولون وراءه، ويدفعونه في ظهرِه، ويضربونه على رأسه، وخلفه امرأةٌ عجوز تسُبُّه وتصيحُ به. فقلت: ما شأنُ هذا الفتى؟!. فقالوا: هذا طلحَة بنُ عبيد الله، صَبأ عن دينه، وتبع غلامَ بني هاشم. فقلت: ومن هذه العجوز التي وراءه؟، فقالوا: هي الصَّعبة بنتُ الحضرميِّ أمُّ الفتى.

 ثم إنَّ نوفلَ بن خويلدٍ الملقبَ بأسدِ قريشٍ، قام إلى طلحة بن عبيد الله فأوثقه في حبلٍ، وأوثق معهُ أبا بكرٍ الصدّيق، وقرَنهما معاً وأسلمهُما إلى سُفهاءِ مكة، ليذيقوهما أشدّ العذابِ؛ لذلك دُعي طلحَة بنُ عبيد الله وأبو بكرٍ الصديقُ بالقرينيْن.

 ثم جعلتِ الأيام تدورُ، والأحداثُ تتلاحقُ، وطلحة بن عبيد الله يزدادُ مع الأيام اكتمالاً، وبلاؤه في سبيلِ الله ورسوله يكبرُ ويَتعاظمُ، وبِره بالإسلامِ والمسلمين ينمو ويتسعُ، حتى أطلق عليه المسلمون لقبَ الشهيدِ الحيّ،ِ ودعاه الرسولُ عليه الصلاة والسلام بطلحةِ الخيرِ، وطلحةِ الجودِ، وطلحةِ الفيَّاض. ولكلٍّ من هذه الألقاب قصة لا تقلُّ روعة عن أخواتها.

 أما قِصة تلقيبهِ بالشهيدِ الحيِّ فكانتْ يومَ أحُدٍ حين انهزمَ المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ معه غيرُ أحدَ عشرَ رجُلاً من الأنصارِ وطلحة بن عبيد الله من المهاجرين. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يصعدُ هو ومنْ معه الجبلِ، فلحقتْ به عُصبة من المشركين تريدُ قتله. فقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ يرُدُّ عنا هؤلاءِ وهو رفيقي في الجنَّةِ؟». فقال طلحة: أنا يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلامُ: «لا، مكانَك «إلزم مكانك». فقال رجلٌ من الأنصار: أنا يا رسول الله. فقال: «نعم، أنتَ».

فقاتَلَ الأنصاريَّ حتى قُتلَ، ثم صعدَ الرسولُ عليه الصلاة والسلامُ بمنْ معه فلحقه المشركون، فقال: «ألا رَجلٌ لهؤلاءِ؟».

فقال طلحة: أنا يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: «لا، مكانكَ». فقال رجلٌ من الأنصار: أنا يا رسول الله.

فقال: «نعم، أنتَ»، ثم قاتل الأنصاريُّ حتى قُتل أيضاً. وتابع الرسولُ صعودَهُ، فلحقَ به المشركون، فلم يزل يقولُ مثل قوله، ويقولُ طلحة: أنا يا رسول الله، فيمنعُه النبيُّ، ويأذنُ لرجلٍ من الأنصارِ حتى استشهدوا جميعاً، ولم يبقَ معه إلا طلحة، فلحق به المشركون، فقال لطلحة: «الآن، نعم».

وكان الرسولُ عليه الصلاة والسلام قد كُسِرت رباعيَّته (سنه التي بين الناب والثنية) وشُجَّ جبينُه، وجُرحتْ شفته، وسال الدمُ من وجههِ، وأصابه الإعياءُ، فجَعلَ طلحة يكرُّ على المشركين حتى يدفعهم عن سول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينقلبُ إلى النبيِّ فيرقى به قليلاً في الجبل، ثم يسندُه إلى الأرضِ، ويكرُّ على المشركين من جديدٍ. ومازال كذلك حتى صَدَّهم عنه. قال أبو بكر: وكنتُ آنئذٍ أنا وأبو عبيدة بنُ الجراحِ بعيدين عن رسول الله، فلما أقبلنا عليه نريدُ إسعافه قال: «اتركاني وانصرِفا إلى صاحِبكما»، يُريدَ طلحَة. فإذا طلحة تنزفُ دماؤه، وفيه بضعٌ وسبعون ضربةً بسيف أو طعنة برمحٍ أو رمية بِسهم. وإذا هو قد قُطِعت كفّه، وسقط في حُفرةٍ مغشياً عليه، فكان الرسولِ عليه الصلاةُ والسلام يقول بعد ذلك: «من سَره أن يَنظرَ إلى رجُلٍ يمشي على الأرض، قد قضَى نحبه فليَنظرْ إلى طلحة بنِ عُبيد الله». وكان الصِّدِّيقُ رضوانُ الله عليه إذا ذكر أحدٌ يقول: ذلكَ يومٌ كله لطلحة. هذه هي قصة نعتِ طلحة بن عبيدِ الله بالشهيدِ الحيِّ.

أما تلقيبُه بطلحةِ الخير وطلحةِ الجودِ فله مائة قِصةٍ وقصة. ومن ذلك أنَّ طلحة كان تاجراً واسع التجارةِ عظيمَ الثراءِ، فجاءَه ذات يومٍ مالٌ من حَضرمَوْتَ مقدارُه سبعمائةِ ألفِ درهمٍ، فبَاتَ ليلته وَجلاً جزعاً محزوناً. فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم بنتُ أبي بكرٍ الصديق وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!. لعَله رابَكَ منا شيءٌ ! فقال: لا، ولنِعمَ حَليلة الرجُل المسلم أنتِ. ولكن تفكرتُ منذ الليلةِ وقلتُ: ما ظنُّ رجلٍ بِربّه إذا كان ينامُ وهذا المال في بيته؟!. قالت: وما يُغمُّك منه؟! أينَ أنتَ من المحتاجين من قومك وأخلائِك؟! فإذا أصبحتَ فقسِّمه بينهم. فقال: رَحِمَك الله، إنك مُوفقة بنتُ موفقٍ. فلما أصبحَ جعلَ المالَ في صُررٍ وجِفانٍ (جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة) وقسمَه بين فقراءِ المهاجرين والأنصارِ.

 ورُوي أيضاً أنّ رجُلاً جاء إلى طلحة بن عُبيد الله يطلبُ رفدَه (معونته وعطاءه) وذكرَ له رحماً تربُطه به، فقال طلحة: هذا رحِمٌ ما ذكرها لي أحدٌ من قبلُ. وإنَّ لي أرضاً دفعَ لي فيها عثمانُ بن عفانَ ثلاثمائةِ ألفٍ، فإن شئتَ خُذها وإن شئت بِعتها لك مِنه بثلاثمائةِ ألفٍ، وأعطيتك الثمنَ، فقال الرجلُ: بَلْ آخذ ثمنَهَا، فأعطاه إيَّاه…

 هنيئاً لطلحة الخيرِ والجودِ هذا اللقبُ الذي خلعُه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنه ونورَ له في قبره.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *