العدد 344 -

السنة الثلاثون رمضان 1436هـ – تموز 2015م

القولُ المقبول في فهم منهجِ الرسول ومنه طريقةُ خير الأنام في إقامة دولةِ الإسلام (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

القولُ المقبول في فهم منهجِ الرسول

ومنه

طريقةُ خير الأنام في إقامة دولةِ الإسلام (2)

صالح عبد الرحيم- الجزائر

إن القول الفصل في فهم طريقةِ الرسول  صلى الله عليه وسلم  في التغيير – وهو ما نراه اليومَ يتطلب دقة استثنائية وحكمة بالغةً في الوصول إلى أعماقه خصوصاً في هذا الزمان – يَكمن في أن ما قام به رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في بداية الدعوة في مكة – زيادة على دعوة الناس جميعاً إلى قول لا إله إلا الله محمد رسول الله أي إلى الإسلام، وكانوا في مكة يعلمون تمامَ ما تعنيه – فإن ما قام به من اتصالٍ في السرِّ بمن كان يأنس فيه الاستعدادَ والاستقامة والقبول، ومن ثَم إعداده  صلى الله عليه وسلم  للفرد الذي قَبِل الدعوةَ من حيث بناؤه عقدياً (إيمانياً) بالعقيدة الإسلامية، وسلوكياً بالتزامه (عملياً) بالأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأخلاق وفي المطعومات والملبوسات وغير ذلك، أي إعداده عقلياً ونفسياً وبناؤه وتربيته وتثقيفه ليكون شخصيةً إسلامية متميزةً منسجمةَ التفكير والشعور منصهرةً في تكتل سري، يُجمع جميع فقهاء السيرة على كونه كان كذلك في بداية الأمر… كل ذلك إنما هو من أجل أن يكون ذلك الفرد لبنةً صالحةً في إيجاد كيان التكتل ابتداءً، أي أن يكون لبنةً في بناء التكتل لا في بناء المجتمع، أي لا كما يزعم أصحابُ المنهج المقلوب. هذا التكتل الذي سوف يواجه تركيبة المجتمع الصعبة والمعقدة. وحسبي أن يكون القارئ الكريم لبيباً في هذا المقام، وذلك لأن مرحلة التصدي لبنية المجتمع القائم بهدف بناء مجتمع جديد (باعتباره عقائد وأفكاراً ومشاعرَ وأنظمةً وقوانين وأعرافاً تحكم حياة الناس وتنظِّم علاقاتِهم فيما بينهم ومع غيرهم من المجتمعات)، أي من أجل تغيير المجتمع القائم تغييراً جذرياً (داخلياً وخارجياً)، هذه المرحلة لا يتأتى أبداً للأفراد الاضطلاعُ بأعبائها بوصفهم أفراداً، وإنما هي تتطلب عملاً جماعياً وتكتلاً سياسياً مبدئياً صلباً يقوم على عقيدة مبنية على العقل متوافقة مع الفطرة البشرية، ويتوفر فيه جو إيماني استثنائي يعجُّ في وسطه بالشخصيات الإسلامية الراقية الفكر، والمرهفة الحس، والقوية الفكر والشعور، والملتهبة الأحاسيس، والتي تُناقض في تصورها وفي سلوكها كلَّ ما في الواقع من حولها مما ألفه الناس. ولسوف يباشر التكتل بوصفه تكتلاً – بعد نموه ونضجه وتمكنه – ضربَ العلاقات القائمة في المجتمع على المصالح التي تحكمها تلك العقائد والأفكار والمشاعر والأنظمةُ والقوانين والأعراف، ويباشر أعمالاً أخرى ومهام أخرى مختلفة تماماً عما بُدئ به في عملية إيجاد التكتل الأساسية ابتداءً. علماً أنه سوف تستمر هذه العملية الإعدادية التثقيفية – أي عملية إيجاد وتكوينِ الشخصيات الإسلامية – ما بقي التكتل حياً بهدف دوام تقوية الجسم واستمرارية النمو بتكثير الخلايا ودوام صقل وبلورة الفكر والشعور والمحافظة على الجو الإيماني، وهو ما يضمن اكتمالَ نمو جسم وقوة التكتل وقدرته على المواجهة، كأنه لا يزال في مرحلة بناء التكتل الأولى. وقد دلَّ على ذلك – وعلى القارئ أن يفحص ويتبين – سيرةُ المصطفى من حيث إنه لم يبقَ في المرحلة الأولى أي بناء الفرد وتثقيفه وتكتيله في جماعة متماسكة، فضلاً عن بناء الفرد وإرساله إلى المجتمع الفاسد – لم يبقَ مستمراً فيها وحدها أبداً أي طول الوقت، معتمداً على الكثرة العددية أو التغلغل في دواليب المجتمع المكي لقلب الموازين فيه شيئاً فشيئاً مع الزمن لصالح المبدأ الجديد، فضلاً عن المشاركة في دواليب الحكم القائم فيه. وهذا أمر لا يخفى إلا على مقلوب الفهم أو على جاحد يأبى الفهم… و إنما دقت ساعةُ الانتقال عند نقطة ما من السير في الدعوة إلى مرحلة ثانية، حال النضج واكتمال حالة الوعي والقوة العقلية والنفسية لدى الجماعة المتكتلة بوصفها حزباً سياسياً سافِراً متحدياً، (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )، وهي مرحلة التفاعل مع المجتمع، وهو ما يعني حتماً (اليومَ ودائماً) الصدامَ مع بنية العلاقاتِ القائمة بين الناس حكاماً ومحكومين، ومع مكونات المجتمع وهي العقائد والأفكار والمشاعر والأنظمة والقوانين والأعراف وغير ذلك من روابط الجماعة، وهو عمل شاق ذو شقين مختلفين (وفيه ما فيه من المباداة والمواجهة والصعاب والمعاناة والصبر على الأذى وغير ذلك) وهما:

    1- الصراع مع الفكر القائم والمفاهيم السائدة وما ترتب عليها من مشاعر يحملها الناس في قلوبهم تضبط مع الفكر سلوكَهم في تحركاتهم وإشباعاتهم وتحقيق مصالحهم، وكذا الصراع مع الفكر الوافد (وهي عملية مستمرة في الزمن بحكم التدافع الحضاري على المستوى العالمي).

    2- الصراع مع الأنظمة القائمة: داخلياً في محاسبة الحكام وتبني المصالح فيما يُطبق من قوانين على الناس، وخارجياً من حيث كشف خطط أعداءِ الأمة وارتباط رعاة الشؤون (أي الحكام) عادةً بالقوى الأجنبية المعادية المتحكمة في مصائر الشعوب، وهي في هذا العصر القوى الغربية الرأسمالية الاستعمارية الغاشمة، وهو ما نطلق عليه في مجمله الكفاح السياسي.

فلا مناص إذاً من التفريق بين طورين اثنين: الأول بناء التكتل، والثاني تصدي التكتل لبنية المجتمع، حيث يحمل التكتل في هذا الطور على عاتقه تغييرَ المجتمع بوصفه أفكاراً ومشاعر وأنظمةً تحكم العلاقاتِ القائمة بين الناس في مصالحهم. وهما طوران مختلفان. جاء في السيرة في باب الجهر بالدعوة:

ثم إن الله عزَّ وجلَّ أمر رسولَه  صلى الله عليه وسلم  أن يصدع بما جاءه منه، وأن يباديَ الناسَ بأمره، وأن يدعو إليه (المباداة المجاهرة). وكان بين ما أخفى رسولُ الله أمره واستتر به إلى أن أمره بإظهار دينه ثلاثُ سنين من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ).

    إلا أن مسارَ الدعوة في الاحتكاك والتفاعل مع الناس في عملية تحميلهم الإسلام قد يُفضي إما إلى القبول وإما إلى الرفض. ففي حالة القبول يتحول الرأي العام في المجتمع سريعاً لصالح المبدأ وتقوم الدولة، ولا يتصور غيُر هذا خصوصاً إذا ما كان سندُ الحكام من ذلك المجتمع نفسه (أي سنداً طبيعياً)، وتصير الدولة أمراً واقعاً أمام أعداء الإسلام والمسلمين، وأمام العالم. أما في حالة الرفض وهي عادة سنَّةُ المجتمعات الفاسدة (وعلى رأسها حكامُها) إزاء الدعوات الجديدة، خصوصاً تلك التي يحكمها الطواغيت، فإن سيرة المصطفى  صلى الله عليه وسلم دلَّت على ما من شأنه – بعد استكمال أعمال دور التفاعل بنجاح – أن يقلب الأمور لغير صالح الحكام الذين بسبب تعنتهم وهيمنتهم على مجتمعاتهم يُحال بين الناس وبين قبول الدعوة وحصول التحوُّل. وذلك بأن يُعمد إلى غير هؤلاء الحكام ممن يمتلكون القوة الفعلية في ذلك المجتمع أو في غيره للتمكين للدعوة وإعطاء النُّصرة ليتمكن القائمون على التكتل السياسي من تحويل الأجواء سريعاً في اتجاه القبول وإيجادِ الرأي العام والحاضنةِ الشعبية والسند الطبيعي لقيام كيان المسلمين، وهو ما سيضمن حتماً بعد ذلك الاستمراريةَ واكتمالَ اكتسابِ القوة في وجه أعداء الإسلام الذين سوف يبذلون – بلا شك – كل ما في مقدورهم لإحباط هذه الخطوة في تحوُّل موازين القوى في أوضاع الشعوب. ولا شك أن هذه الأعمال أي أعمال طلب النصرة من أهل القوة والمنعة هي ذات طبيعة مختلفة تماماً عما كان يقوم به التكتل مما هو من قبيل الصراع الفكري والكفاح السياسي، وهي بالتأكيد مما يعتبره الحكام عملاً عدائياً بالغ الخطورة تجاههم، إلا أنها جاءت لتضاف إلى أعمال التكتل في مرحلة التصدي لبنية المجتمع، على خلفية رفض وتحجر المجتمع في وجه الدعوة، الذي يكون عادةً بسبب محاربة الحكام لأي تحول يزعجهم، أي يزيحهم عن سدة الحكم، خصوصاً إذا ما كان سند منظومةِ الحكم من خارج المجتمع الذي يحكمونه بالفعل (كما هو حال المسلمين اليوم)، وهذا بلا ريب مما يزيد الأمورَ في وجه استعادة سلطان الأمة تعقيداً! فلينظر المسلمون اليومَ أين تكمن القوةُ الحقيقية الفعلية في مجتمعاتهم، وهذا من معنى الاتِّباع والتأسي.

    إن هذا الفهمَ لطلب النُّصرة المستنبطَ من السيرة هو ما جعلنا نجزم بأن طلب النصرة من أهل القوة هو من طريقة العمل لإقامة الدولة، وهو من أعظم الأعمال التي دلَّ عليها الوحيُ من فعل الرسول. وبيان ذلك أنه صلى الله عليه وسلم عندما وصلت دعوتُه في مجتمع مكة مع زعماء قريش إلى «طريق مسدود» (رغم نجاح التفاعل في المجتمع المكي، أي حصول التفاعل في مكة وما حولها في أجلى صوره)، و قد كان ذلك الرفض واضحاً قبيل هلاك عمه أبي طالب، حيث أيقن رسول الله حين اجتمع بهؤلاء الزعماء عند عمه (بناءً على طلبهم) أنهم لن يقبلوا أيَّ تحوُّلٍ جذريٍّ في مجتمعهم مما تعنيه كلمة لا إله إلا الله، وأيقنوا هم أيضاً حينها أن محمداً لن يُعطيهم شيئاً من تنازل أو تسويةٍ أوحلٍّ وسط، كان ذلك نقطةً فاصلة في مسار الدعوة سجلتها السيرةُ بكل وضوح، فقد جاء فيها:

ولما اشتكى (مرض) أبو طالب وبلغ قريشاً ثقله، قالت قريشٌ بعضُها لبعض: إن حمزةَ وعمر قد أسلما، وقد فشا أمرُ محمَّدٍ في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالبٍ فليأخذ لنا على ابن أخيه، وليُعطِهِ منا. واللهِ ما نأمنُ أن يبتزُّونا أمرَنا. قال ابن عباس: مشَوا إلى أبي طالب فكلَّموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منَّا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى و تخوَّفْنا عليك، وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابنِ أخيك، فادعُه فخذ له منَّا وخذْ لنا منه، فليكفَّ عنَّا ونكفَّ عنه، وليدعْنا ودينَنا وندعْه ودينَه. فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليُعطوك وليأخذوا منك. فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشرُ كلمات. فقال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفَّقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن أمرَك لعجب! ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلِقوا وامضُوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه… 

    ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من الأذى ما لم تكن تناله منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعةَ بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عزَّ وجلَّ، فخرج إليهم وحده…(فأبوا عليه ورفضوه وردوه شر رد).

    ثم قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومُه أشدُّ ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يعرض نفسه في المواسم إذا كانت، على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبيُّ مرسَل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم عن الله ما بعثه به…

     فكان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائلَ إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسَه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادمٍ يقدم مكة من العرب، له اسمٌ وشرف، إلا تصدَّى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده…

فلما أراد اللهُ عزَّ وجلَّ إظهار دينه وإعزازَ نبيِّه  صلى الله عليه وسلم ، وإنجازَ موعِده له، خرج رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في الموسم الذي لقيه فيه النَّفرُ من الأنصار، فعرضَ نفسَه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة (موقع بين مِنى ومكة) لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً… (وهم ستة نفر) فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومَنا ولا قومَ بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك… فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسولَ الله  صلى الله عليه وسلم ، ودعَوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تَبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذِكرٌ من رسول الله  صلى الله عليه وسلم

فمن هذا يتبين أنه  صلى الله عليه وسلم  بدأ بأعمال طلب النصرة عند نقطة ما من السير بالدعوة، وهي أعمال من أعظم الأعمال السياسية، التي داوم على عليها رسول الله، وهو لم يكن يعلم من أين سيأتي الفرَج، حتى جاءت البشرى من المدينة المنورة. إلا أنه بالتدقيق في ذلك اللقاء الأول مع النفر من الخزرج يتبين أن أولئك الرهط لم يكونوا بمنزلةٍ في قومهم تمكنهم من القيام مع رسول الله على من خالفه من الناس في أمره من أول يوم، بمعنى القيامِ معه في أمر النصرة والمنعة بما يُفضي (إلى) ويمكِّن من إقامة الدولة في الحال، فضلاً عن كونهم لماَّ يفقهوا الدينَ بعد. لذا تطلَّب الأمر ما ذُكر في كلامهم من عرض الأمر على قومهم، وعلى زعماء قومهم خاصةً، وهو ما كان سيفتح الباب حتماً – إن هم أجابوا – لتهيئة الأجواء سريعاً للدعوة الجديدة وللعملِ على إيجاد حالة القبول اللازمة، والحاضنة الشعبية لدعوة الإسلام في مجتمع المدينة، رجاء أن تكون يثرب نقطة ارتكازٍ لاحتضان الدولة الإسلامية الناشئة، وهذا بالفعل ما كان. خصوصاً بعدما بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لهذه المهمة الجسيمة (في العام التالي)، بعدما انصرف عن رسول الله القومُ الذين حضروا بيعةَ العقبة الأولى (وكانوا في ذلك الموسم اثني عشر رجلاً فيما ذُكر في السيرة)، وذلك ليقرئَ مَن أسلم من أهل المدينة القرآنَ ويعلمَهم الإسلام وليُفَقِّهَهم في الدين. وكان مما صنع الله لهم وأراده بهم من الخير وأعدَّهم له من نُصرة نبيه وإظهارِ دينه أن هؤلاء الأنصار قدِموا مكة بعد عام آخر، أي في الموسم الذي بايعوا فيه رسول الله بيعةَ العقبة الثانية (وهم أكثر من سبعين)، وقد صلَّوا وفقهوا وفيهم أشرافهم وكبراؤهم، أي مَن يمثل القومَ من الأسياد والقادة والزعماء، وهم يومئذ على أتم استعداد للقيام معه على من خالفه من الناس فيما أمره ربه بتبيينه من هذا الدين وإيصاله إلى الناس، وهو ما كان يعني الاستعداد للحرب، فكانت تسمَّى بيعة الحرب. وكانت بذلك إيذاناً بقيام دار الإسلام في المدينة، وبدء خروج المهاجرين إليها أرسالاً. فقد ورد في السيرة في باب هجرة الرسول  صلى الله عليه وسلم :

     ولما رأت قريش أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قد صارت له شيعة وأصحابٌ من غيرهم بغير بلدهم، ورأَوا خروج َ أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم منعةً، فحذِروا خروجَ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.  

    ومعنى «صلَّينا وفَقِهنا» التي وردت في السيرة لا يكون سوى أنهم آمنوا وصدَّقوا وفهموا الدينَ وأدركوا فضل السبقِ في الإسلام، كما التزموا بأحكامه واستعدُّوا لما ينتظرهم من أعمال عظيمة ومهمات جسيمة، بعد أن أدركوا حجم التحدي وأبعادَ المسؤولية وتبعاتِ الإسلام وحمل الدعوة الإسلامية، وما يلاقونه في الدنيا وفي الآخرة. ولمـَّا قامت الدولة في المدينة وُجدت معها دارُ الإسلام، وعز المسلمون بإسلامهم، ووُجد المجتمع الإسلامي، وأمِن المسلمون فيه على دينهم، وانطلقوا بعد ذلك ليبلغوا رسالة الإسلام ولينشروه في جميع أنحاء العالم، وهم أمة واحدة من دون الناس.

والخلاصة أن الدولةَ في الإسلام هي من أعظم الواجبات، فهي حكم شرعي، وطريقة إقامتها كذلك حكم شرعي. والحاصل أن الناس منذ أزمنةٍ غابرة استقرت خلالها أوضاعُ البشر في مجتمعاتٍ ودول، هم حاكم ومحكوم. أما الحاكم فهو مَن يُسيِّر أمورَ محكوميه إما بإرادته هو دون سواه، وهو ما يسمى اليومَ بتعبير هذا الزمان الدكتاتورية والاستبداد، وإما بإرادة محكوميه وسيادة شعبه وهو ما يعرف اليومَ بالديمقراطية. أما الحاكم العميل فهو حالة شاذة، وهو ما نشاهده في البلاد الإسلامية اليومَ كلِّها: فهو يحكم محكوميه بما يريد أسيادُه موهماً إياهم أي موهِماً محكوميه أنه يحكمهم بما يريدون هم، أو بما يريده هو بوصفه واحداً منهم. وفي هذه الحالة يكون الحاكم في وضع منافق شاذٍّ، لا يقدر عليه إلا حاذق يتقن فنونَ الدجل والكذب والتحايل على الناس، ومخالفة الظاهر للباطن، ويكون فيه حتماً خصماً حقيقياً لشعبه ومحكوميه ولكن تابعاً ذليلاً بيد أسياده وأمامَ أعداء شعبه، وهو ليس من قومه على وجه الحقيقة. ولا غرابة في أن يكون كل شيء في حال العبادِ والبلادِ التي يحكمها مثل هذا الحاكم زيفاً أو زيفاً مضاعفاً بحسب درجة تصنُّعِه وتبعيته وخنوعه. هذا في المجتمعات التي تتجاهل وجود الخالقِ المدبر، أي التي تدين بالعلمانية وإبعاد الدين عن السياسة والحكم أي عن الحياة العامة. وبالمجمل في هذا المقام، فإن كل مَن يسبح في هذه المنظومة الفكرية-السياسية من المثقفين وحتى من الدعاة والمفكرين ممن يعتبرون أنفسَهم من المسلمين، والتي تتلخص في أنها تتجاهل كما أسلفنا مسألةَ وجود الخالق المدبرِ عزَّ وجلَّ، أي تَفصلُ الدين عن الدولة، يكون الحكمُ حتماً في تصورهم إما استبداداً (أي دكتاتوريةً) وإما ديمقراطيةً و لا يمكن أن يتصوروا شكلَ الحكم في غير واحدٍ من هذين مطلقاً، وهو ما نجده اليومَ في أذهان أكثر المثقفين والنخب من أبناء المسلمين (في الشعور وفي اللاشعور) ولا عجب، خصوصاً الذين تربَّوا منهم في أحضان الغرب، بل حتى ممن يُسمَّون «إسلاميين». كما نجد على ألسنتهم من مصطلحات هذه المنظومة السياسية فيما يقابل الاستبدادَ مثلاً: الدولة المدنية والحكم الجمهوري والمجتمع المدني والمواطنة والديمقراطية وحكم الأغلبية والمعارضة والتداول على السلطة… وغير ذلك. وهؤلاء تصعب عادةً معالجتُهم إلا أن يُعالَجوا في أساسات فكرهم، أي إلا أن يُعاد النظر في طريقة تفكيرهم من الأساس، وهو ما يعني البحثَ في مسائل العقيدة ووجهة النظرِ في الحياة عندهم. هذا هو حال الناس حتى فيما مضى. ولمَّا جاء الوحي من عند الله فيما أنزله على رُسله رحمةً بخلقه، وعلى سيد المرسلين محمد بن عبد الله خاصةً، جاء معه الهدى والنور، وتبين به الرشدُ من الغي، وجاءت معه منظومةٌ فكرية وسياسية أخرى، وتصورٌ آخر للحياة ولشكل الحكم في عالم البشر، وهو عالم الفكر السياسي الإسلامي، وهو الفكر المتعلق بالحكم ورعاية شؤون الناس من منظور الإسلام. وفي هذه المنظومة الفكرية-السياسية والثقافية-المعرفية المختلفة تماماً صار الحكم إما حكماً بما جاء به الوحي وهو في شريعة الإسلام نظامُ الخلافة وليس شيئاً آخر مطلقاً (وهو دار الإسلام)، مهما تغير الظرفُ أو الزمان أو المكان، وفيه السعادة في الدنيا وفي الآخرة. وإما هو حكم أهواء البشر وهو حتماً الحكم بغير ما أنزل الله (وهو دار الكفر)، مهما تعدَّدت صوره وأشكاله وتسمياته، حتى وإن بقي المسلمون مسلمين كأفراد، كما هو الحال الآن. وعاقبتُه ضياعُ الدنيا في الحال والخسران المبين في المآل. نسأل الله السلامةَ والعافية. هذا بالنسبة للمسلمين إن هم غيَّروا وبدَّلوا وتحوَّلوا عما جاء به الوحي، وتخلَّوا عن حمل رسالة الإسلام بالطريقة الشرعية، وقد فعلوا، بعدما فرَّطوا في دولتهم التي هي من صميم دينهم، فأصابهم ما هو مشاهدٌ من سوء حالهم اليومَ على كثرتهم، كونهم – وهم مسلمون بوصفهم أفراداً – تخلوا عن تطبيق الإسلام بوصفهم جماعةً، وتركوا الإسلامَ بوصفهم أمةً، وعن حمل رسالةِ الإسلام إلى العالم بوصفهم دولةً، إلا أن يعودوا إلى ما جاء به الوحي – وهم عائدون بإذن الله؛ ولهذا كان العمل لإقامة دولة الإسلام في هذا الزمان وفق منهج رسول الله المبيَّن أعلاه هو من أعظم القُربات عند الله.

فاعلم، أخي المسلم، أنه لا إسلام في المجتمع بدون دولة تطبق شريعةَ الإسلام، ويكون أساسها عقيدة الإسلام. وبهذا يكون معنى عودةِ المسلمين إلى الإسلام اليومَ إنما هو إقامة دولة الإسلام على أساس العقيدة ولا ريب، وبالطريقة التي جاء بها الوحي ولا بد، إذْ كلُّها أحكام شرعية واجبة في الإسلام، وهو ما قلناه في أول الكلام. أما بالنسبة للكفار المعرضين عن الذكر، فقد قال عزَّ من قائل:

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *