العدد 467 -

السنة التاسعة والثلاثون، ذو الحجة 1446هـ الموافق حزيران 2025م

مواجهات كاليفورنيا: حدث عرضي أم شرخ مجتمعي؟

في السادس من شهر حزيران يونيو الفائت اندلعت في لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا احتجاجات ومواجهات، مع تجلّي نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب الصارم في تطبيق قوانين الهجرة وترحيل المهاجرين غير النظاميين. وتحوّلت المظاهرات إلى مواجهات أمنية بعد اعتقال السلطات الفدرالية مهاجرين غير نظاميين في مناطق عدّة في لوس أنجلوس، وذلك بهدف ترحيلهم. غير أنّ ما بدأ احتجاجا مدنيا سرعان ما تحوّل إلى أزمة دستورية بين ترامب وولاية كاليفورنيا التي خاضت منذ بداية العهد الثاني للرئيس الأميركي مواجهات مع إدارته حول أمور شتّى على رأسها قضيّة المهاجرين غير النظاميين.لقد علّمنا التاريخ أنّ ثمة إمبراطوريات تنهار من داخلها. ولعلّ المستقبل غير البعيد سيثبت أنّ الإمبراطورية الأمريكية هي من هذا النوع من الإمبراطوريات التي من شأنها أن تنهار بفعل عوامل ذاتية داخلية، ولن ينتظر انهيارُها بالضرورة عدوّا خارجيًا يدفعها إليه.إنّ من أهمّ عوامل تماسك الدول وقوتها الداخلية أن تكون الدولة ممثِلّة لمجتمع متماسك له هويّته وتشريعه وطريقته في العيش. وتتماسك الدولة وتقوى بقدر ما يكون معظم رعيّتها أعضاء في هذا المجتمع. وقد يتوهّم البعض أنّ جميع رعايا الدولة (مواطنيها) هم أعضاء في مجتمعها، وهذا خطأ كبير. فالمجتمع ليس جميع مواطني الدولة ورعاياها بالضرورة. فقد تشتمل الدولة على مجتمعات عدّة، وقد يكون فيها كثير من الأفراد الذين لا ينتمون بوجهة نظرهم عن الحياة وطريقتهم في العيش إلى مجتمعها. وحين تشعر بعض المجتمعات المنضوية في هذه الدولة والتي ترى أنّ الدولة لا تمثّلها ولا تنتمي إليها ثقافيًا أنّ بمقدورها تنظيم نفسها، فقد تبدأ بالتحرّك الشعبي والسياسي والنضالي، لتلتحق بدولة أخرى تشعر أنّها تنتمي إليها، أو لتقيم لنفسها دولة تمثّلها، أو على الأقلّ لتنال حكمًا ذاتيًا يميّزها من سائر المجتمعات داخل الدولة. وقد رأينا عددًا من هذه الحالات والنماذج في التاريخ وفي عصرنا هذا. لقد نجحت الثقافة الغربية المعاصرة المبنيّة على عقيدة فصل الدين عن الحياة وقوانينها المنبثقة منها في أن تحقّق نجاحًا مهمّا في صهر مكوّنات عرقية ودينية، وقد بلغت ذروة نجاحها في هذا الإنجاز أواخر القرن العشرين. ولكنّها ما لبثت أن شهدت تراجعًا واضحًا في القرن الحالي. ولعلّ صدمتها الأولى كانت في فشل إقرار دستور موحّد لأوروبا وتحويل الاتّحاد الأوروبي إلى الولايات المتّحدة الأوروبية. ثمّ جاء الانقسام في تلك المجتمعات على مفاهيم حياتية ومجتمعية أساسية ليُحدث شرخًا عميقًا، لا بين المكوّنات العرقية والدينية وحسب، وإنّما داخل القومية الواحدة التي كان يفترض دائما أنّها تشكّل ثقافة واحدة تميّزها من سائر القوميات. مفاهيم مثل النظرة إلى الدين ودوره في المجتمع والسياسة، والموقف من الإجهاض، والشذوذ والنسوية وما يسمى بالجندر ومجتمع الميم-عين ودور المرأة وانقسام المجتمعات الغربية بين ما يسمى بالتيّار الليبرالي -ويسمّي كثير من هؤلاء أنفسهم بالمجتمع المفتوح، ويسمّيهم ترامب باليساريين- والتيارات العنصرية التي توصف غالبًا بالمحافِظة، كلّ هذا بدأ يقسم المجمعات الغربية إلى شطرين، يتنافسان في الانتخابات، ويأخذ كلّ منهما حين وصوله إلى السلطة البلاد والعباد باتّجاه مغاير للآخر.ظهر أنّ القلاقل التي اندلعت في كاليفورنيا الشهر الفائت وامتدّت نسبيا إلى ولايات أُخر لا تشبه بما سبقها من أعمال شغب عرفتها الولايات المتّحدة. فإذا كانت أعمال الشغب التي عرفتها أمريكا سابقًا واستدعت تدخّل الجيش قد أثارتها أقلّيات تعيش داخل المجتمع الأمريكي، وهم غالبا الأقلّية السوداء، فإنّ المشهد الحالي يعبّر عن انقسام واسع جدّا، عمودي وأفقي، يكاد ينقسم فيه كلّ الأمريكيين إلى فئتين متمايزتين ثقافيًا وأيديولوجيًا؛ فئة عنصرية محافظة، يتزعّمها ترامب والحزب الجمهوري، وفئة ليبرالية تستقطب اللادينيين والأقلّيات العرقية والدينية وما يسمّى بالمجتمع المفتوح، يتزعمها الحزب الديمقراطي. وهو انقسام ظهر مرارًا في السنوات الأخيرة، وكاد يتسبب بصدامات واسعة على ارض الواقع، ولا سيّما سنة ٢٠٢٠ حين خسر ترامب الانتخابات الرئاسية. ولئن ضبطت  السلطة الفدرالية الشارع المنتفض بعد موجة الاحتجاجات هذه، فإنّ هذا لا يعني أنّها ستكون أعمال شغب عابرة وتطوى صحيفتها كالتي شهدتها البلاد في مراحل سابقة. إنّه انقسام عميق، ويزداد تعمّقًا يومًا بعد يوم، وسيبقى يهزّ استقرار الإمبراطورية حتّى تتهاوى، والله تعالى أعلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *