العدد 467 -

السنة التاسعة والثلاثون، ذو الحجة 1446هـ الموافق حزيران 2025م

أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح أمين هذه الأمة

 

عبد المحمود العامري – اليمن

أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري القرشي (40 ق هـ/584م – 18هـ/639م) صحابي وقائد مسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، لقَّبَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمين الأمة حيث قال: «إن لكل أمّة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة: أبو عبيدة».

مكانته في الإسلام:

 يُعد من الشخصيات البارزة في تاريخ الإسلام، ويحظى بالاحترام والتقدير من قبل المسلمين. وكان من قادة الجيش الإسلامي في الشام، وكان له دور كبير في فتح الشام. كان حكيمًا في حكمه، وكانت له مكانة كبيرة بين المسلمين في الشام. كان زاهدًا ورعًا، وكان يحب الخير ويعطي الناس ما يقدر. توفي في الشام بمرض الطاعون، وكان موتُه مأساةً للمسلمين. هو رمز للحكمة والزهد والورع في تاريخ الإسلام.

إسلام أبي عبيدة:

أسلم أبو عبيدة في مرحلة مبكرة من الدعوة الإسلامية، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة المنورة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر والمشاهد كلها، وكان من الذين ثبتوا في ميدان المعركة عندما بُوغت المسلمون بهجوم المشركين يوم أُحُد.

كان أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه من السابقين للإسلام؛ فقد أسلم على يد الصّحابي أبي بكر الصّديق رضي الله عنه والذي كان يتخيّر من يرى فيه النّضج والحكمة ليدعوه لدين الإسلام، وكان من بين هؤلاء أبو عبيدة رضي الله عنه، فقد توسّم فيه صفاء سريرته ورجاحة عقله، وقام من أجل ذلك بدعوته إلى الإسلام. وسرعان ما استجاب أبو عبيدة له ولدعوته، وبعدها ذهب مع أبي بكر الصديق وجماعة آخرين، من بينهم عبد الرّحمن بن عوف وعثمان بن مظعون وغيرهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدّثهم عن دين الإسلام وتعاليمه، فما كان منهم إلا أن أسلموا جميعاً في آنٍ واحد، ولم يكن النّبي صلى الله عليه وسلم قد دخل دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد، وكان أبو عبيدة حينها يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً؛ أي إنَّه كان في سنّ اكتمال العقل والنّضج.

واجه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ما واجهه المسلمون في بداية الدّعوة من الصدّ والأذى، وهاجر مع الصّحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى الحبشة في الهجرة الثّانية، ولمّا علم بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار عاد إلى مكّة المكرّمة، ليهاجر بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصّحابة إلى المدينة المنورة، ونزل عند كلثوم بن الهدم، وآخاه الرّسول صلى الله عليه وسلم مع محمد بن مسلمة رضي الله عنهم جميعاً.

قصة جهاد أبي عبيدة وشجاعته:

عُرف أبو عبيدة رضي الله عنه بالشّجاعة وحبّ الجهاد، وكان يُلقّبه النّبي صلى الله عليه وسلم بالقويّ الأمين، وقد شهد أبو عبيدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد والغزوات كلّها ولم يتخلّف عن أحدها، وكان يُؤمّر على السّرايا في عهد النّبي صلى الله عليه وسلم لِما يتمتّع به من ذكاءٍ عسكري وقيادة ناجحة.

استمرّ أبو عبيدة في قتاله واستبساله في عهد الخلفاء الرّاشدين، وشارك في حروب الرّدة وحرب مسيلمة الكذّاب، وكان أحد أمراء الأجناد الذّين ذهبوا لفتح الشّام، وقد شارك في وقعة أجنادين، ووقعة السّماوة، ومرج الصّفر، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جعله قائداً مكان خالد بن الوليد لفتح دمشق، فكان النّصر حليفاً للمسلمين، وقد صالحهم القائد أبو عبيدة حينها على نصف ممتلكاتهم وكنائسهم.

حادثة نزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجهِ رسول الله يوم أحد:

 رُوي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في غزوة أحد ودخلت حلقتا مغفرة -معدن على قدر الرأس يُلبس تحت القلنسوة- في وجنتيه الشّريفتين، وكان أبو عبيدة رضي الله عنه حاضراً؛ إذ إنَّه من الصّحابة الذّين ثبتوا إلى آخر الغزوة، وقام عندها بنزع هاتين الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسنانه، فسقطت وأصبح أهتمَ، والأهتم هو من انكسرت أسنانه الأمامية، لكنّ هذا زاده جمالاً وحسناً، فلم يكن أجمل هناك من هتم أبي عبيدة رضي الله عنه.

ورع أبي عبيدة وتواضعه:

كان الصّحابي أبو عبيدة رضي الله عنه متواضعاً، ولم تدفعه الإمارة وقيادة الجيوش للتّكبّر أو التّعالي؛ وقد روي عنه أنّه قال: «يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه»، أي جلده.  ومن مواقفه الدّالّة على تواضعه أنّ أبا بكر رضي الله عنه أرسل إليه مدداً من الجيوش في حصاره للشّام، وأمّر عليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فاستقبله بالتّرحيب، بل دفعه تواضعه لإنزال خالد مكانته.

ولاية أبي عبيدة على الصحابة وحكمته وطاعته للرسول صلى الله عليه وسلم:

 رُوي أنّ المسلمين غزوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ذات السّلاسل على مشارف الشّام، وكان قائدها الصّحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقد أرسل حينها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب إمداده بالجيوش، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمّة كبار الصّحابة، ومن بينهم أبو بكر الصّديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- بالإضافة إلى الكثير من المهاجرين، وقد أمّر عليهم جميعاً أبا عبيدة بن الجراح، وهو ما يدلّ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى فيه الحكمة لتولي هذا المكان، وما كان من أبي عبيدة إلّا السّمع والطّاعة لنبيّه.

وفي عهد أبي بكر الصديق، كان أبو عبيدة أحد القادة الأربعة الذين عيَّنهم أبو بكر لفتح بلاد الشام، ثم أمر أبو بكر رضي الله عنه خالد بنَ الوليد أن يسير من العراق إلى الشام لقيادة الجيوش الإسلامية فيها، فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافةَ عَزَلَ خالد بنَ الوليد، واستعمل أبا عبيدة، فقال خالد: «وَلِيَ عليكم أمينُ هذه الأمة». وقد نجح أبو عبيدة في فتح دمشق وغيرِها من مُدُنِ الشامِ وقُراها. وفي عام 18هـ الموافق 639م توفي أبو عبيدة بسبب طاعون عمواس في غور الأردن ودُفن فيه.

أمّه:

أُميمة بنت غَنْم بن جابر، وفي «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم الأندلسي: أميمة بنت عثمان بن جابر بن عبد العزى بن عامرة بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر، ونقل ابن حجر أن أم أبي عبيدة أدركت الإسلام وأسلمت.

ولم تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن نشاط أبي عبيدة في الجاهلية، فبدأ تأريخ حياته يوم إسلامه. ونقل ابن هشام وغيره أنه «أسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ابن أبي الأرقم».

روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة: أبو عبيدة بن الجراح». وقال ابن حجر العسقلاني: «والأمين هو الثقة الرضي، وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكنَّ السياقَ يُشعر بأن له مزيداً في ذلك، لكن خَصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان، والقضاء لعلي ونحو ذلك».

مناسبة هذا اللقب كما رواها البخاري: أن العاقبَ والسيدَ صاحبي نجران قدِما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: «لا تفعلْ، فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبُنا من بعدنا»، قالا: «نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً»، فقال صلى الله عليه وسلم: «لأبعثنَّ معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين»، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قُمْ يا أبا عبيدة بن الجراح»، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمة». وروى مسلم عن أنس: أن أهل اليمن قدموا على رسول اللهJ فقالوا: «ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام»، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هذا أمين هذه الأمة».

زهده: «غَيَّرتنا الدنيا كُلَّنا غَيْرَك يا أبا عبيدة.» عمر بن الخطاب

روى جمعٌ من الرواة قالوا: قدم عمرُ الشام، فتلقاه الأمراءُ والعظماءُ فقال: «أين أخي أبو عبيدة؟»، قالوا: «يأتيك الآن»، فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلَّم عليه ثم قال للناس: «انصرفوا عنا»، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم يَرَ في بيته إلا سيفه وتُرسه ورحله، فقال له عمر: «لو اتَّخذتَ متاعاً، أو قال: شيئاً»، فقال: «يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلغنا المقيل».

وفي المعنى نفسه برواية أخرى: أن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة: «اذهب بنا إلى منزلك»، قال: «وما تصنعُ عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليّ»، فدخل فلم يرَ شيئاً، قال: «أين متاعك؟ لا أرى إلا لِبداً (الصوف المتلبد) وصَحْفةً (وعاء الطعام) وشنّاً (القربة من الجلد)، وأنت أمير، أعندك طعام؟»، فقام أبو عبيدة إلى جَوْنةٍ (وعاء يشبه السلة أو الجرة يوضع فيه الخبز) فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: «قد قلت لك: إنك ستعصر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل»، قال عمر: «غيَّرتنا الدنيا كلَّنا غيرَك يا أبا عبيدة». قال الذهبي: أخرجه أبو داود في سننه وقال: «وهذا والله هو الزهد الخالص، لا زهدَ مَن كان فقيراً مُعدَماً».

وروى ابن سعد عن مالك أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف أو بأربعمئة دينار، وقال للرسول: «انظر ما يصنع بها»، قال: فقسمها أبو عبيدة، قال: ثم أرسل إلى معاذ بمثلها، فقسمها إلا شيئاً قالت له امرأته نحتاج إليه، فلما أخبر الرسول عمر قال: «الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا».

روايته للحديث

أسلم أبو عبيدة في وقت مبكر من بداية البعثة النبوية، وكان واسع العلم بالكتاب والسنة، إلا أن كتب الحديث لم تروِ عنه إلا أحاديث قليلة. فصحيح البخاري يخلو من الأحاديث المسندة إلى أبي عبيدة، وروى مسلم حديثاً واحداً، وروى الترمذي حديثاً واحداً، وفي مسند الإمام أحمد اثنا عشر حديثاً، إذا حَذَفْتَ المكرَّرَ بقي منها سبعةُ أحاديث، وفي مسند أبي يعلى تسعة أحاديث، يوافق الإمام أحمد في ستة منها، وتبقى ثلاثة أحاديث متضمَّنة في حديث واحد. فيكون مجموعُ ما روي عن أبي عبيدة ثمانية أحاديث، منها ما هو مرسل، ومنها ما هو متَّصل، وصحَّ بعض أسانيد المتصلة وضعف بعضها. وقد ذكر العلماء أسباب قلة أحاديث أبي عبيدة وغيره من كبار الصحابة ممن لم يرووا أحاديث كثيرة، قال ابن سعد: قال محمد بن عمر الأسلمي: «إنما قَلَّتِ الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يُحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وَلِيَا فسُئلا وقضيا بين الناس، وكلُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمةً يُقتدى بهم، ويُحفظ عليهم ما كانوا يَفعلون، ويُستَفتَون فيُفتون، وسمعوا أحاديث فأدَّوها، فكان الأكابرُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ حديثاً عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وأبي عبيدة بن الجراح ونظرائهم، فلم يأتِ عنهم من كثرة الأحاديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة… فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم».

 وفاة أبي عبيدة:

أُصيب أبو عبيدة بن الجرّاح -رضي الله عنه- بمرض الطّاعون في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب -رضي الله عنهم-، ولمّا بلغ ذلك عمر خاف عليه وأرسل له كتاباً يطلب فيه القدوم إليه في مهمّة، ولكنّ أبا عبيدة أدرك أنّ عمر لا يريد منه شيئاً سوى أنّه يخشى عليه من المرض ويريد له الخلاص منه، وكان يخاف عليه من الهلاك لما يعلمه من محبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، من أجل ذلك لم يستجب أبو عبيدة بن الجراح لطلب عمر بن الخطاب، وأرسل إليه معتذراً، وكان سبب رفضه العمل بوصيّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أنّه إذا انتشر الطّاعون في بلد لا يخرج منها أهلها، فمات رحمه الله بسبب هذا البلاء طاعون عمواس في الأردنّ في منطقة تسمّى بيسان، وقد صلّى عليه الصّحابي معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وكان هذا في سنة ثماني عشرة للهجرة، وكان قد بلغ من العمر ثماني وخمسين سنة.

أولاده:

قال ابن سعد: «كان لأبي عُبيْدةَ من الولد: يزيدُ، وعميرٌ، وأمُّهُما هندُ بنتُ جابرِ بن وهب بن ضِباب بن حُجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، فدَرَج ولد أبي عبيدة بن الجراح(أي توفوا، وانقطع نسلهم) فليس له عقب» وقال مصعب الزبيري في نسب قريش: «وقد انقرض ولد أبي عبيدة بن الجراح وإخوته».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *