الإنسانوية هي دعوة شيطانية لإلغاء الأديان
8 ساعات مضت
المقالات
4 زيارة
أيمن صلاح – فلسطين
لا تكتفي أمريكا بالسياسة الاستعمارية الرأسمالية في علاقتها بالعالم، بل تريد نشر أجندات ثقافية، وتقود دعوات شيطانية تمثل بمجموعها دينا جديدا، وأدواتُها الفاعلةُ في هذه الدعوات هي الأمم المتحدة والمنظمات والمؤسسات الدولية التابعة لها، وتستخدم الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية (NGO’s) وسيلةً لتجعل أفكارها الثقافية تتجذرُ في الشعوب.
وقد بينت في مقال سابق نشر في العدد 438-440 بعنوان “الأمم المتحدة تدعو إلى دين عالمي جديد جامع للأديان”الخطوط العريضة للدين العالمي الجديد الذي تريده أمريكا والأمم المتحدة للعالم، وهو يتمثل في عقيدة وَحْدَة الوجود، وتعتمد فكرةَ وَحْدَةِ الأديان طريقةً للعبادة، وتريد جعل الإباحية والفوضى الجنسية بديلاً للنظام الاجتماعي أو أحكام الأحوال الشخصية. وفي هذا المقال نتناول فكرةَ الإنسانويةِ على اعتبار أنها الرابطة التي تريد أمريكا والأمم المتحدة جعلها بين الناس بدل رابطة العقيدة، وتريد لهذه الفكرة أن تحدد نظرةَ الناس بعضهم إلى بعض، وتنظيم العلاقة بين الأفراد في الحياة العامة وبين الأفراد والدولة، وتحدد النظرة والموقف في مختلف البلدان من الشعوب الأخرى.
لابد من التنويه بداية إلى أن مصطلح (الإنسانوية) يختلف عن مصطلح (الإنسانية)، رغم أن بعض المنظرين للإنسانوية يستخدمون مصطلح الإنسانية أو المذهب الإنساني، فالإنسانيةُ قِيِمَةٌ لها اعتبارُها في الإسلام، فقد أمرَ الإسلام بتحقيقها، ولكن القيمةَ الإنسانية ليست ديناً يُحَدّدُ الحسنَ والقبيح، ولا أساسا تُبْنى عليه الأفكار. أما الإنسانوية فهي فكرٌ مناقضٌ للدين، بل يريدونه بديلا من الدين. ولذلك يجب الانتباه وعدم الخلط بين هذه المصطلحات.
والإنسانوية فكرةٌ قديمة، وقد تطورت المعاني المقصودةُ بهذه الفكرة مع الزمن، ولذلك يصعب وضعُ تعريفٍ جامع مانع لمصطلح الإنسانوية، فهي تتجاوز الحديث عن الجانب الإنساني المحض، لتتبنى رؤيةً خاصةً بها للعالم تقوم على أساس محورية الإنسان في الوجود، فتعتمد على إعلاء قيمة الإنسان بوصفه مركزَ هذا الكون، وبعد ذلك يجب أن يُشتق أي فكر ليخدم محوريةَ الانسان، وتخليصه من أية قيود تَحُدُ من حريته، بما فيها التعاليمُ والتشريعاتُ الدينية، وهو ما أثار عليها اعتراضات كثيرة وشديدة.
يحاول الباحثون الإنسانويون العربُ التأصيلَ للإنسانوية تراثياً، فيقولون إن تلك النزعةَ وُجِدَتْ في التراث الإسلاميّ القديم ولم تكن وليدةَ عصرِ النهضة في الغرب على اعتبار أنها حقٌ مُشاعٌ في الفكر الإنسانيّ منذ قديم الزمان وإن تعددت أشكالُ التّعبير عنها. ويزعمون وجودَ تلك النزعة في بعض النصوص والمراسلات والمعاهدات التي كتبها بعضُ الخلفاء المسلمين، ومنها كتاب الإمام علي بن أبي طالب إلى عامله مالك الأشتر الذي عينه على مصر، فيتمسكون بعبارة وردت فيه وهي: “الرعية صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّين وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ في الْخَلْقِ”.
إن كثرةَ المواقف والخطابات عند شخصيات مهمة التي يستدعونها من التاريخ الإسلامي تُظهرُ مدى اهتمامهم بالقيمة الإنسانية التي أمر الإسلامُ بتحقيقها، ولكن ذلك لا يدل على وجود الفكر الإنسانوي الحديث عند المسلمين. فرغم اعتبار القيمة الإنسانية في الإسلام فإنه لم يأمر بجعل القيمةِ الإنسانية فكرةً أساسيةً تُحَدّدُ العلاقاتِ بين الناس وتقررُ الأنظمةَ والتشريعاتِ للمجتمع، ولم يَثبت أن أحدَ الخلفاء أو العلماء أو المفكرين أو الفلاسفة المسلمين جعل القيمةَ الإنسانية ديناً أو أساسا للأفكار، ولا جعلها أساسا للعلاقات البشرية كما هو مقررٌ في الفكر الإنسانوي المعاصر.
يحاول الباحثون في الإنسانوية، سواء للتنظير لها أو لنقضها، الرجوعَ لمعرفة بداياتها التاريخية، لكنني لا أرى كثيرَ فائدةٍ من البحث التاريخي في نشأة هذه الفكرة وأين نشأت. لأن المهمَّ اليومَ معرفةُ ما استقر عليه الفكرُ الإنسانوي لندرك مدى خطرِ هذه الفكرة وكيفيةِ الحذر منها. فالذي يُهِمُّنا هو الأفكارُ التي يدعو الإنسانويون اليوم إليها في العالم، ومنه العالم الإسلامي. وربما تكون خلاصةُ الفكر الإنسانوي هو ما قدمه الباحثُ الإنسانويُ الإنجليزي ستيفن لو في كتابه (الإنسانوية: مقدمة قصيرة) الذي ألفه في ٢٠١١م وترجم للعربية في ٢٠١٦م. حيث ذكر ستيفن لو الأفكارَ التي يتفق الإنسانويون عليها فيما سماه التوصيف السباعي المختصر للإنسانوية (مع عدم وجود ترتيب معين لهذه النقاط)، وهي الأفكار الآتية:
-
يؤمنُ الإنسانويون أن العلمَ والعقلَ هما أداتا المعرفة، وأنه لا يصحُ النظرُ لأي معتقدات على أنها ممنوعٌ الخوضُ فيها أو أنها غيرُ خاضعةٍ للاستقصاء العقلاني.
-
الإنسانويون إما ملحدون أو على الأقل لاأدريون، واللاأدري هو الشخص الذي لا يُؤمن ولا يكفُر بالذات الإلهية. فهم يتشككون في وجود إله أو آلهة، وكذلك يتشككون بوجود الملائكة والشياطين وغيرها من الكائنات فوقِ الطبيعية.
-
يؤمن الإنسانويون أن هذه الحياةَ هي الحياةُ الوحيدةُ للبشر، فلا توجد حياةٌ أخرى تعودُ فيها أرواحُ الناس إلى أجسادهم بعد الموت، كما لا توجد جنةٌ ولا نار.
-
تنطوي الإنسانوية على إيمانٍ شديدٍ بوجود القيمةِ الأخلاقية وأهميتها، ويؤمنون أنه يجب أن نَستمدَ أخلاقنا من طريق دراسة الطبيعة الفعلية للبشر وما يساعدهم على الازدهار في هذه الحياة، لا الحياة الآخرة، وينكرون الزعمَ بأنه لا يمكنُ وجودُ قيمةٍ أخلاقية دون الإله، وأن البشرَ لن يكونوا أخيارا دون الإله أو دون دينٍ يرشدُهم.
-
يؤكد الإنسانويون على الاستقلال الخلقي الفردي، ويقولون بمسؤولية البشر أو العقل البشري عن إصدار الأحكام الأخلاقية، ولا يصحُ أخذُ هذه الأحكام من سلطةٍ خارجيةٍ، سواءٍ كانت زعيما سياسيا أو عقيدةً دينية.
-
يؤمن الإنسانويون أنه يمكن أن يكونَ لحياةِ البشرِ معنًى دون أن يهبهم الإله إياه.
-
الإنسانويون عَلمانيون، ويريدون نظاما ديمقراطيا مفتوحا تَتَخذُ فيه الدولةُ موقفا حياديا فيما يتعلق بالدين، وتحمي حريةَ الأفراد في اتباع الأفكار الدينية والإلحادية واعتناقها أو رفضها أو نقدها على حد سواء. ويعارضون أي محاولة لإجبار الناس على اعتناق أي معتقد ديني، ويعارضون أيضا إجبار الناس على الإلحاد كما حدث في ظل حكم أنظمة شمولية معينة.
ويذكر “ستيفن لو”أن هناك رؤىً أُخر ترتبطُ عادةً بالإنسانوية ولكن ليس بالضرورة أن يعتنقَها جميعُ الإنسانويين، بل يمكن لهم أن ينقدوها، وهي:
-
أن البشرَ وحدَهم هم المهمون، فبعض الإنسانويين يفكرون بأهمية أنواع أخرى من الأحياء ويريدون لها الرفاهية.
-
وأن يكون المرء نفعياً، معتقدًا أن تعظيمَ السعادة وتقليلَ المعاناة هو كلُ ما يهم من الناحية الأخلاقية.
-
أن يعتنق “المذهبَ الطبيعي”الذي يقول بأن العالمَ الطبيعيَ المحسوس هو الواقعُ الوحيدُ الموجود.
-
أن يعتنق المذهبَ العلمي (العِلموية) معتقدًا أن كلَ سؤال جوهري يمكنُ أن يُجيبَ العلمُ عليه، بما فيها الأسئلةُ الأخلاقية.
ويؤكدُ “ستيفن لو”تعارضَ الإنسانوية مع الدين، ويبينُ حرصَ الإنسانويين على إقامة علاقاتٍ مع أشخاص ومؤسسات دينية لتسهيل تحقيقِ الأهدافِ العلمانية للإنسانويين، فيقولُ في كتابه الإنسانوية: مقدمة قصيرة: “وفي النهاية، أودُّ أن أتحدَّثَ عن تعارض الإنسانوية الشديد مع الدين. من الواضح أن كثيرًا من الإنسانويين لا يعتبرون الدينَ زائفًا وحسب، وإنما أيضًا خطرًا، بل يراه بعضهم شرّاً عظيمًا، ولكن ليس جميعُهم كذلك؛ فعددٌ كبيرٌ من الدينيين يؤيدون كثيرًا الرُّؤَى التي وَصفتِ الإنسانويةَ في إطارها،كما أنهم علمانيون، ويقبلون بإمكانية وجودِ منظومةِ أخلاقٍ وحياةِ ذاتِ معنًى حتى في غياب الإله، وكذلك قد يتشاركون مع الإنسانويين في كثيرٍ من أهدافهم. ويَسْعد الكثيرُ من الإنسانويين بالعمل مع الأشخاص الدينيين والمؤسسات الدينية لتحقيق تلك الأهداف، وثمة بالطبع دينيون مستعدون للعمل مع الإنسانويين”.
هذه هي الأفكار الإنسانوية السائدة عند الإنسانويين في الغرب، وهي نفسُها التي يُرادُ شيوعها في العالم الإسلامي ضمن دعواتٍ أخرى تحاربُ الإسلام، وهذه الأفكارُ لها مبشرون ولها دعاةٌ في العالم الإسلامي، وغالبا ما يقومون بدعوتهم صراحةً تحت عنوان المذهب الإنساني، وبعضُهم لا يصرحُ باعتناقه المذهبَ الإنساني ولكن تكون دعوتُه للانسانوية -بوعي أو بغير وعي- ضمن دعواتٍ أخرى تحاربُ الإسلام، مثل دعوة تجديد الدين وتأويل النصوص الشرعية تأويلا حداثياً. والذين يدعون إلى الإنسانويةِ من المنتسبين للإسلام يجترون العباراتِ والأفكارِ التي استقر عليها مفهوم الإنسانوية، ولكنهم يحاولون أن يظهروا أنهم لا يعادون الإسلام ولا يرفضون أحكامَه، فقد يؤمنون بالله وبالإسلام، ولكنهم لا يتحدثون عن أمور العقيدة من جهة الايمان والبرهان أو الرفض والانكار، ويقولون بإلغاء رابطةِ العقيدة الإسلامية وإقامةِ رابطةٍ تتأسسُ على الإنسانوية المحضة ويشنعون النكيرَ على من يجعل العقيدةَ هي الرابطة الصحيحة بين الناس، ولا مانعَ عندهم من الاحتفاظ بالعقيدة في القلب فقط. ويقولون بإسقاط الدين الإلهي الحق من الاعتبار في أي أمر من العلاقات البشرية، فالإنسانويةُ –بحسب زعمهم- هي الدينُ الذي سيوقفُ الحروب، وبهذا الدينِ سيَعُمُّ السلام بين الأمم، وسيُضَمِدُ جراحَهم التي أحدثتها الحروبُ والصراعاتُ الدينية، وبها تندفعُ الشعوبُ للتقدم المادي.
من المعاصرين الذي يُنَظّرون للإنسانوية محمد أركون (الجزائري)، وهو يكتب فكرَه باللغة الفرنسية لأنه جزءٌ من المنظومةِ الفكرية الغربية، وعبدُ الرحمن بدوي (المصري) صاحبُ كتاب «تاريخ الإلحاد في الإسلام»، ورسول محمد رسول ومحمد حبش وهو تلميذُ عمه (أبي زوجته) الشيخ أحمد كفتارو مفتي نظامِ طغاةِ البعثِ السوري لمدة أربعة عقود. وهناك مبشرون إنسانويون آخرون، ولكن ربما يكون حبشُ هو أكثرَ من يدعو إلى الإنسانوية في العالم الإسلامي مع إصرار في الدعوة لأفكار إنسانويةٍ تتصادمُ مع الاسلام، وباستعراض أفكاره ندركُ مدى خطرِ الفكرِ الإنسانويوانحرافِه.
الإنسانويون الذين ينتسبون إلى الاسلام يأخذون بسُباعيةِ الأفكار الإنسانوية التي لخصها ستيفن لو، وبعضِ الرؤى الإنسانويةِ الأخرى التي غالبا ما تقترنُ بالإنسانوية، إلا أنهم يواجهون تحديا مع فكرةِ الإلحاد واللاأدرية التي يتفق عليها الإنسانويون الغربيون. ولذلك يَعدّون الإيمانَ والإلحادَ واللاأدريةِ مواقفَ إيمانيةٍ تسليمية. لذلك لا يعتمدُ الإنسانويون المؤمنون بالله على الدليل العقلي القطعي لإثبات إيمانهم. ويكتفون بالإيمان الوجداني التسليمي دون النظر في الأدلة، فلا ضرورة للبحث في الأدلة لأن الملحدينَ واللاأدريينَ موجودون، ولابد من وجود أدلةعندهم على مواقفِهم الايمانية، ويجبُ أن تحترمَ هذه المواقف الإيمانية. والإنسانويون المؤمنون يأخذون من الدين ما يوافقُ الفكرةَ الإنسانوية ويرفضون ما يخالفُها، ولا يعتمدون في رفضِ النصوص أو قبولها على ضوابطَ علمية. فمثلا حبش يَدَّعي الإيمان بالله والإسلام، ويقرأ القرآنَ ويستشهدُ بما يلزمُه من الآياتِ وبحسب الفهمِ الذي يريدُه، ويأخذُ بأحاديث ويرفضُ أخرى دون اعتمادِ الضوابطِ العلمية الشرعية المتعلقةِ بقوةِ السندِ ودلالات اللغة، فالضابطُ الوحيدُ عنده هو موافقةُ الفكرِ الإنسانوي. ولا توجدُ عنده مشكلةٌ مع الإلحاد، ولا يرى مشكلةً في نقد الأديان بما فيها الإسلام، لأن ذلك من حرية التعبير التي يحرصون عليها، ويرى أن الأخوةَ الإنسانية وأخوةَ الوطن تجمعُه مع المشركين والملحدين، يقول في كتابه”جيران على كوكب واحد” تحت عنوان “جيران … مسلمون وشيوعيون”: “يا عمالَ العالم صلوا على النبي … قد يكون عنوانا صادما أن تتحدثَ عن المشترك بين الإسلام والشیوعیة …، ثم يتحدثُ عن مشاركتِه في حفلٍ أقامته قیادةُ الحزب الشيوعي في سوريا وألقى كلمةً كان فيها قوله: “لست هنا من أجل أن أُبَشّرَ بإسلامٍ أحمر، ولا أزعمُ أن الرفاقَ الشیوعیین قد تنسكوا وبدأوا ينظمون أفواجَ الحج، ولكنني مُصِرٌ على أن المشتركَ بيننا أكثرُ مما يظنُ أعداءُ هذه الأمة، وبدون ترددٍ فإنني أقولُ إن الصلاةَ والصومَ والحجَ والزكاةَ هي شرطٌ لدخول الجنة ولكنها ليست شرطا لدخول الوطن، فالوطنُ لكل أبنائه، دعونا نشتركُ في بناء الأرض ونتركُ أمرَ الحساب لله”.
كتب محمد حبش()[1] عدةَ كتبٍ في الفكر الإنسانوي، وهو يسميه “المذهب الإنساني”، ونشر كثيرا من هذه الأفكار في مقالات في الصحف العربية، وفي برامجه الكثيرة على المحطات الفضائية والإذاعات العربية وعلى صفحته على الفيس بوك، ومن كتبه:”المذهب الإنساني في الإسلام”، و”إسلام بلا عنف”، و”النبي الديمقراطي”، و”نبي من أجل الإنسان”، و”المشترك أكثر مما نعتقد”، و”إسلام بلا حروب”، و”العقوبات الجسدية وكرامة الإنسان”، و”جيران على كوكب واحد”، وغيرها الكثير. وهو يَجْتَرُّ نفسَ الأفكار الإنسانوية في كل هذه الكتب تقريبا.
ومن عناوين هذه الكتب ومن تتبع أقوالِه نَجِدُ أنها تنضحُ بالأفكار الإنسانوية الغربية التي لخصها ستيفن لو، فهو يقول إن المشتركَ بين الأديان أكثرُ من الاختلافات، فيرفضُ فكرةَ الأمة الناجية التي تقول بأنه بعد بعثة محمدٍ ﷺ لا يدخل الجنةَ إلا من يؤمن به ويتبعه، فكل الأخيار -بحسب وصفه- هم من أهل الجنة بغض النظر لأي دين ينتسبون حتى لو كانوا ملحدين. يقول في كتاب “المذهب الإنساني في الإسلام” (٢٠٢١): “وقناعتي أن الله تعالى لا يظلم مثقالَ ذرة من مسلم ومن غير مسلم وإن تكُ حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما”. وهو ينتقد بشدة ما يسميه “ثقافة الكراهية الشائعة عند المسلمين”، فلا يجوز عنده أن يَكره أو يبغِض المسلمُ الكافرَ لكفره، ولا أن يحبُ في الله ولا أن يبغضَ في الله، فالحبُ والبغضُ لا يُقبلُ إنسانيا أن يكونَ على أساسِ الموقف الاعتقادي، ولكن يصحُ الكرهُ والبغضُ بسبب الممارسات والسلوك. وينتقد الثقافةَ الإسلامية التي تتحدث عن الولاء والبراء، وهو يُشَنّعُ النكيرَ على الدعاة الذين يهتمون بهذا المصطلح أو يُضمّنون مفاهيمَ البراء من الكفار والولاء للمؤمنين في خطبهم ومواعظهم ومؤلفاتهم. يقول في كتاب “المذهب الإنساني في الإسلام”: “إنَّ فكرةَ الأسرةِ الإنسانية، والأخوةِ بين أبناء آدم، يجب أن تظهرَ تجلياتُها فيدعم الإخاء الإنساني وتقليل الحروب ونشر السلام”، ويعبر عن ذلك بعبارات مختلفة مثل “إن البشرَ كلَهم عيالُ الله وإنهم أسرةٌ واحدة تحت الله”، فالأخوةُ الإنسانية تُقَدّمُ على أخوةِ العقيدة وتُقَدّمُ على مفهوم الولاء والبراء.
ويركز حبش كشأن الإنساونوين الغربيين على إعلاء قيمة الإنسان إلى درجة المحورية في الوجود حتى كانت النبوةُ لأجل الانسان، فيَكْثُرُ منه القولُ بأن الإنسان هو مشروعُ الله الرئيس على هذا الكوكب، يقول في كتابه “المذهب الإنساني في الإسلام”: “لم يظهر في التاريخ اتجاهٌ دينيٌ ولا سياسي إلا وهو يتحدث عن الإنسان جوهرا وغاية، وبذلك فإن المذهب الإنساني اتجاهٌ فكريٌ ومجتمعيٌ يُمْكِنُكَ رصدُه في المجتمعات البشرية كلها، كما يُمْكِنُنا الوقوفَ عليه بوضوح في النصوص المقدسة جميعها، وهو اتجاه يَعُدُّ الانسانَ محورا وغاية، ويَعُدُّ تحقيقَ سعادته معيارا لصحة التدين وصحة التوجه السياسي… وبذلك فإن من المؤكد أن الحديث عن الإنسان محورا وغاية هو تحصيل حاصل”. ويقول: “لقد كنت أدعو للإيمان… واليوم أدعو للإنسان”، ويقول: “وليست الغاية الأديان، بل الإنسان”. وفي كتاب “جيران على كوكب واحد” يقول: “متى نتمكن من فك شفرة الحوار بين البشر الذين يؤمنون بالله في السماء والإنسان في الأرض”، وهو كثيرا ما يقول (الايمان بالله والإنسان) أو (نؤمن بالإنسان). فالإنسان عند الإنسانويين هو جوهر الوجود، وهو أهم من الدين والشريعة، بل يمكن تغييرُ الشريعةِ لتوافقَ سعادةَ الانسان ورفاهيته بحسب المفهوم الغربي للسعادة والرفاهية.
وفي كتاب “المرأة بين الشريعة والحياة”يرى أن أحكام الإسلام فيها تمييزٌ واضحٌ وقاسٍ ضد المرأة، مثل أحكام الولاية والشهادة ومَنْعِها من السفر بدون محرم، ويرى أن هذه الأحكام تجعل المرأةَ أسيرةَ وصايةٍ ذكوريةٍ غاشمة. ويرى أن في نظام الزواج والطلاق الذي تقرره أحكام الأحوال الشخصية اختلالا فاضحا في المساواة وحقوق المرأة يتطلب اجتهاداً جريئاً يعيد للمرأة حقوقها وكرامتها الإنسانية. وينتقد فرضَ الحجاب على المرأة، علما بأنه عندما يتحدث عن الحجاب لا يفرق بينه وبين الجلباب والنقاب، فيقول: “اتفق الفقهاء بدون استثناء أن الحجاب أدبٌ إسلامي كريم”، ثم يطرح السؤال: “هل الأمر بالحجاب أمر وجوب أم أمر استحباب؟”، ثم يجيب فيقول: “ونختار أنه أمر استحباب”! ثم يقول: “والخلاصة: إن علينا أن نترك أمر الحجاب للمرأة فهو قرارُها وحريتُها ومسؤوليتُها، وأن نشرح لها الحقائق الشرعية، وأن تعلم أن الدين يسر وليس عسراً وأنه رحمة وليس عذاباً، ورسالتي أن نحترم المحجبة والسافرة، وندعو باحترام إلى الحشمة والعفاف وعدم التبرج، وأن نوسع على الناس في الدين”.
والإنسانوية ترفض العقوبات التي فرضها الإسلام وخاصة الحدود، لأنها قاسية وغير إنسانية وهي ضد خيارات العقل الحر، وضد الفطرة الإنسانية، وتتناقض مع قيم الدين العليا وحقوق الإنسان. يقول حبش في كتاب “المذهب الإنساني في الإسلام”: “ولعلَّ أكثرَ ما يُشْكِل في طرح المذهب الإنساني في الإسلام هو أحكامُ الحدود القاسية القائمة على تعذيب النفس، وفيها القتل والصلب والرجم والقطع وهي عقوﺑﺎت شديدة وصارمة،ولا يمكن فهمها في سياق إنساني لأنها لا تتجه لإصلاح الجاني وإنما لإتلافه كلياً أو جزيئاً، ويتم تبرير ذلك عادة ﺑﺄنَّه إتلاف للواحد وإصلاح للمجتمع وبذلك يتحقق المعنى الإنساني مآلاً وإن كان الظاهر التعذيب والقسوة”. ولأن إلغاءَ الحدود من نظام العقوبات في الإسلام يتناقض مع قطعيات الشريعة فقد حاول حبش أن يسندَ دعوته لإلغاء الحدود بالادعاء أن إلغاءها هو فِعْلُ السابقين مثل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وهو رأيُ أكبر الأئمة في التاريخ الإسلامي، يقول حبش: “يظن كثير من الناس أن المطالبة بتغيير الحدود من الجلد والرجم والقطع والصلب إلى العقوبات الإصلاحية هي شأن الحركات العلمانية التغريبية … ولا زال رجال الدين يعتبرون هذه المطالبة كفراً بما أنزل الله… في كتابي الجديد “عدالة لا انتقام”رصدت خمسة عشر موقفاً واضحاً لثمانية من أكبر الأئمة في التاريخ الإسلامي طالبوا بوضوح وصراحة بوقف الحدود الجسدية والتحول إلى العقاب الإصلاحي”.
ويتبنى الإنسانويون الديمقراطيةَ العلمانية، فيفخر حبش بأنه علماني يدعو إلى الديمقراطية، حتى جعل النبي ﷺ ديمقراطيا، ويدعو إلى حرية التعبير حتى لو كان القول في رفض الإسلام أو نقده، فالديمقراطية عندهم هي نتاج القيم والفضائل الفطرية لدى الإنسان، وحيث إن الفطرة لدى الانسان هي التوحيد، فلذلك تصبح الديمقراطية هي جزء من الدين الحق، وينقل حبش عن أستاذه جودتسعيد قوله: “الديمقراطية لون من التوحيد الخالص ومظهر الدين القيم”. ويقول الإنسانويون إنه يجب على منتقدي المعتقد الديني أن يتوخَّوا الحذر حيال القالب الذي يصوغون فيه نقدَهم بحيث لا يحمل نقدُهم تهكما أو استهزاء شخصياً لأصحاب المعتقد الديني.
والإنسانوية تَعُدّ الأخلاقَ الفردية مسألة عقلية بحتة لا تحتاج دليلا شرعيا، فالعلم أو العقل البشري يستقل بمعرفتها مستندا إلى الخبرة البشرية على اختلاف البشر وتنوع ثقافاتهم. ويقرُّ الإنسانويون أن الناس يتفاوتون في الخبرة فيما يتعلق بمنظومة الأخلاق؛ فقد يتمتع بعضهم بمعرفة أخلاقية أوسع تجعلهم حكَّاماً مؤتمنين أكثر من غيرهم على الحكم على الصواب والخطأ، وقد يمتلك بعض الأفراد حكمة أخلاقية مهمة أو تنطوي عليها بعض النصوص. وعندما تحدث حبش عن الأخلاق في مقال بعنوان “في لاهوت الأخلاق … رؤية جديدة”كان مقاله عبارة عن استعراضٍ لخبراتِ الفلاسفة في العصور والبلدان المختلفة، ولم يستشهد بنصوص شرعية عليها، ثم أعطى نفسَه الحقَّ في انتقاد الإسلام والقرآن في مجال الأخلاق، لأنه يجعل الأخلاق أوامر ونواهي إلهية يترتب التزامها الثواب والعقاب في الآخرة. فهو يرى أن الحرص على الثواب والعقاب هو ارتكاسٌ في الأخلاق يجعلُها معاوضةً مادية، لأن مفهومَه عن الثواب أنه مَطالِبٌ جسدية غريزية من نكاح ووجاع وخمور وسكر، ومفهومه عن العقاب أنه قسوة غير عقلانية، يقول في مقال: “في لاهوت الأخلاق … رؤية جديدة”: “نحتاج بالفعل إلى جولة في الفلسفة الأخلاقية على النحو الذي قدمه فلاسفة عصر الأنوار، ومن ثم الانتباه إلى الركس الذي أوردْنا فيه أنفسَنا يوم صارت الأخلاقُ كلُها معاوضةً ماديةً مشروطة، يتم تعويضُها بثواب أو عقاب، وراح الثوابُ يتخذ شكل المطالب الجسدية الغريزية من نكاح ووجاع وخمور وسكر، أما العقاب فقد ذهب بعيداً إلى عالم قاسٍ تُسلخ فيه الجلود ثم لا تكف ملائكة العذاب عن تبديلهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين”.
ترفض الإنسانوية الجهاد، لأن الإنسانوية دين لا عنف فيه، والجهادُ نوعٌ من العنف وخاصة جهاد الطلب، إضافة إلى أنه يَتْبَعُهُ مصطلحاتٌ غيرُ إنسانية مثل الجزية، وأنه يتناقض تناقضاً حاداً مع قيم الإسلام الكبرى في العدل والرحمة والإحسان. وبحسب زعمهم إن العالم اليوم لا يلزم فيه جهاد الطلب لأن هناك حرية تدين في كل بقاع الأرض، ويستطيع المسلم أن يبلّغَ دعوة الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة من طريق الوسائل التكنولوجية الحديثة، فلم يعد الواقع يناسب جهاد الطلب. يقول حبش في مقدمة كتاب إسلام بلا عنف: “(اللاعنف) كلمة ساحرة لها في كل أرض أتباعُها وأنبياؤها وقديسوها، ولكنها هنا مطاردةٌ في الشرق؛ إذ تُعامل على أنها فكرةٌ مناقضة للحدود والجهاد، وأن الإسلام يتجه إلى منطق السن بالسن والعين بالعين، وأن القتل أنفى للقتل، ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب لعلكم تتقون، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، وإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، تقاتلونهم أو يسلمون”. ويخلص بعد ذلك إلى أن جهاد الطلب عنف لا مبرر له. وانظر أخي القارئ الكريم في الاقتباس السابق لحبش كيف يَغْمِزُ بالأحكامِ الشرعية والآياتِ القرآنية والأحاديث النبوية.
ومن الجدير ذكره أن دين الإنسانوية يتناقض مع الدارونية، لأن الدارونية تقول بصراع البقاء الذي هو جزءٌ لا يتجزأ من الدارونية ليبقى الأصلح أو الأقوى، وتَعدّ البشرَ مثلَ بقية الكائنات الحية ولابد أن يحصل الصراع بين المجموعات البشرية التي تنحدرُ من أصول عرقية مختلفة حتى تهيمن المجموعاتُ التي تتمتعُ بالصفات الأفضل، فالصراع والعنف جزء مهم في الدارونية وهذا يخالف دين الإنسانوية.
وبعد، فما تقدم هو الخطوط العريضة لفكرة الإنسانوية، وباستعراضها يتبين أنها تشكلُ دينا بديلا من الأديان وخاصة الإسلام، ولا تنكرُ أنها تستبعد الأديان، وهذا يعني أنها فكرةُ كفر، فهي تساوي بين الدين الحق والأديان المنسوخة المحرفة، وتساوي بين الإيمان والإلحاد، وترفضُ أن يكونَ ما يأتي بالوحي مرجعيةً لشيء في الحياة، فترفضُ شرائعَ الإسلام الثابتة قطعا بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة. ويكمن خطرُها حين تجري الدعوةُ للأفكار الإنسانوية الجزئية التي تنطلي على عوام المسلمين ولا يلاحظون كونَها جزءا من المنظومة الفكرية الإنسانوية. والتصدي لها يكون بنقض الأفكار الجزئية وفكرة مركزية الإسلام التي تقوم عليها الإنسانوية.
أخيراً لابد أن نذكر أن الإنسانوية لا يمكن أن يكون لها تطبيقٌ واقعيٌ مجتمعي، وإنما تبقى حالات فردية ضالة، وقد تحمل أفكارا متناقضة خارج منظومة الإنسانوية. وحيث إن الإنسانويين يبشرون بالحُبّ، ويَدَّعون أنهم لا يحملون في قلوبهم ضغينة لأحد، لكن فلتات اللسان تكشف عن مكنون الجنان، ولا يمكن أن يوجد حبٌ بدون بغض المناقض، وهذا ما يظهر من طريقة حديثهم عن المسلمين الرافضين للفكر الإنسانوي المتمسكين بشريعة الله كما أنزلها، وهو ما يبين أن الإنسانوية هي وَهْمٌ شيطانيٌ بحت، ولا يمكن أن تتمثلَ في واقعٍ جماعي قط. وإنما هي بابٌ للكفر مُمَوهٌ بزخرفِ القول، ولا يُغَرُّ به إلا الذين اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
[1] مُنِحَ حبش في عام 2010 رتبة دكتوراه الشرف من جامعة كرايوفا، وهي أعرق الجامعات الرومانية وتعطي هذه الرتبة كل عامين مرة واحدة. وقد خصصت هذه الدرجة للدكتور محمد حبش تقديراً لبحوثه ونشاطه في حوار الأديان وبشكل خاص كتابه “سيرة الرسول محمد”، وقد قامت الجامعة بترجمته للرومانية واعتبر مقرراً على طلبة كليات اللاهوت في الجامعة.
1446-11-28